ما حكم الإقامة في بلاد غير المسلمين؟
لا مانع شرعًا من إقامة المسلم في بلاد غير المسلمين ما دام يأمن على دينه ونفسه وعرضه، ويتمكن من إظهار دينه والقيام بشعائره بدون ممانع.
المحتويات
المقصود ببلاد غير المسلمين: الأقطار التي يكون معظم أهلها وساكنيها من غير المسلمين، بحيث يكون التدبير والحكم لهم في الأساس.
والإقامة في بلاد غير المسلمين، تارة تكون جائزة، وتارة تكون مستحبة، وتارة تكون محرمة، وذلك بحسب حال المقيم، وغرض إقامته، ومدى قدرته على إظهار دينه.
الإقامة في هذه البلاد لا بد فيها من شرطين أساسين:
الأول: أمن المقيم على دينه ونفسه وعرضه، فإن لم يأمن على ذلك: حرم عليه الإقامة هناك، والأمن على الدين معناه الأمن من أن يكره على الكفر أو فعل المحرمات القطعية.
الشرط الثاني: أن يتمكن من أن يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع؛ وهي الواجبات الشرعية التي لا خلاف عليها؛ كالصلاة.
فإن تخلف أحد هذين الشرطين حرمت الإقامة حينئذ ما دام قادرًا على المفارقة؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97]، وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 236-237، ط. دار إحياء التراث العربي).
وقد روى الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (7/ 37، ط. مؤسسة الرسالة) عن عطاء، قال: [دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنهم، فقال لها: يا أم المؤمنين، هل من هجرة اليوم؟ قالت: "لا، ولكن جهاد ونية، إنما كانت الهجرة قبل فتح مكة والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة؛ يفر الرجل بدينه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"] اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 229، ط. دار المعرفة): [أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها: خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه: أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق: لم تجب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت. ومن ثَم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها؛ لما يترجى من دخول غيره في الإسلام] اهـ.
والمسلمون لما تمكنوا وقوي أمرهم واشتد ساعدهم وظهروا وأمنوا الفتنة على دينهم وأنفسهم لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من جاءه مؤمنًا أن يهاجر إلى بلاد الإسلام ومفارقة دار الكفر.
وقد روى الطبراني في "الأوسط" وابن حبان أن فديكًا خرج إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، إنهم يزعمون أنه من لم يهاجر هلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا فُدَيْكُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ، وآتِ الزَّكَاةَ، واهْجُرِ السُّوءَ، واسْكُنْ مِنْ أَرْضِ قَوْمِكَ حَيْثُ شِئْتَ».
وروى أحمد أن أعرابيًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ الْهِجْرَةُ، إِلَيْكَ حَيْثُمَا كُنْتَ، أَمْ إِلَى أَرْضٍ مَعْلُومَةٍ، أَوْ لِقَوْمٍ خَاصَّةً، أَمْ إِذَا مُتَّ انْقَطَعَتْ؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ الله صلَّى اللهُ عَلَيه وآله وسلَّم سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْهِجْرَةِ؟» قَالَ: هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ فَأَنْتَ مُهَاجِرٌ وَإِنْ مُتَّ بِالْحَضْرَمَةِ»؛ يعني: أرضًا باليمامةِ. واليمامة ساعتها كانت دار كفر؛ لأنها لم تفتح إلا في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
وكذلك قد أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوم أن يقيموا بمكة بعد إسلامهم وقبل فتحها، منهم: عمه العباس رضي الله عنه؛ لأنهم لم يخافوا الفتنة، وأمنوا الأذى على أنفسهم في ذلك.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الأم" (4/ 169-170، ط. دار المعرفة): [ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن فرض الهجرة على من أطاقها إنما هو على من فتن عن دينه بالبلد الذي يسلم بها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن لقوم بمكة أن يقيموا بها بعد إسلامهم؛ منهم: العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وغيره إذ لم يخافوا الفتنة] اهـ.
وفي "فتاوى الرملي" (4/ 52-54، ط. المكتبة الإسلامية): [سئل عن المسلمين الساكنين في وطن من الأوطان الأندلسية يسمى أرغون، وهم تحت ذمة السلطان النصراني يأخذ منهم خراج الأرض بقدر ما يصيبونه فيها، ولم يتعد عليهم بظلم غير ذلك، لا في الأموال، ولا في الأنفس، ولهم جوامع يصلون فيها، ويصومون رمضان، ويتصدقون، ويفكون الأسارى من أيدي النصارى إذا حلوا بأيديهم، ويقيمون حدود الإسلام جهرًا كما ينبغي، ويظهرون قواعد الشريعة عيانًا كما يجب، ولا يتعرض لهم النصراني في شيء من أفعالهم الدينية، ويدعون في خطبهم لسلاطين المسلمين من غير تعيين شخص، ويطلبون من الله نصرهم، وهلاك أعدائهم الكفار، وهم مع ذلك يخافون أن يكونوا عاصين بإقامتهم ببلاد الكفر، فهل تجب عليهم الهجرة وهم على هذه الحالة من إظهار الدين؟ نظرًا إلى أنهم ليسوا على أمان أن يكلفوهم الارتداد والعياذ بالله تعالى، أو على إجراء أحكامهم عليهم، أو لا تجب؟ نظرًا إلى ما هم فيه من الحال المذكور، ثم إن رجلًا من الوطن المذكور جاء إلى أداء فريضة الحج من غير إذن أبويه؛ مخافة أن يمنعاه منه، فأدَّاها فهل حجه صحيح أو لا؛ لإيقاعه بغير إذن أبويه؟ وهل يجوز رجوعه إلى أبويه في الوطن المذكور؟
فأجاب بأنه: لا تجب الهجرة على هؤلاء المسلمين من وطنهم؛ لقدرتهم على إظهار دينهم به، ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث عثمان رضي الله عنه يوم الحديبية إلى مكة لقدرته على إظهار دينه بها، بل لا تجوز لهم الهجرة منه؛ لأنه يرجى بإقامتهم به إسلام غيرهم، ولأنه دار إسلام، فلو هاجروا منه صار دار حرب، وفيما ذكر في السؤال من إظهارهم أحكام الشريعة المطهرة، وعدم تعرض الكفار لهم بسببها على تطاول السنين الكثيرة ما يفيد الظن الغالب بأنهم آمنون منهم من إكراههم على الارتداد عن الإسلام أو على إجراء أحكام الكفر عليهم] اهـ.
ويقول الشيخ محمد عبده -كما في "تفسير المنار" (5/ 357، ط. دار المعرفة)-: [ولا معنى عندي للخلاف في وجوب الهجرة من الأرض التي يمنع فيها من العمل بدينه، أو يؤذى فيها إيذاء لا يقدر على على احتماله، وأما المقيم في دار الكافرين ولكنه لا يمنع ولا يؤذى إذا هو عمل بدينه، بل يمكنه أن يقيم جميع أحكامه بلا نكير، فلا يجب عليه أن يهاجر، وذلك كالمسلمين في بلاد الانكليز لهذا العهد، بل ربما كانت الإقامة في دار الكفر سببًا لظهور محاسن الإسلام وإقبال الناس عليه] اهـ.
أما ما رواه أبو داود والترمذي في "سننهما" عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ»؛ فمحمول على من لا يأمن على دينه في دارهم. (انظر: "فتح الباري" 6/ 39).
وقد جاء في "الفتاوى الحديثية" للإمام ابن حجر الهيتمي (ص: 204، ط. دار الفكر): [(وسئل) نفع الله به عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ»، قالوا: لم؟ قال: «لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا».
فجاء في جوابه: "فإن قلت قد ينافيه قول الفقهاء: تجوز الإقامة بينهم لمن أمن على نفسه، قلت: لا ينافيه؛ لأنهم شرطوا أمنه على إظهار دينه، وإذا أمن ذلك كان في إقامته بينهم مصلحة للمسلمين راجحة على خروجه من بينهم، فجوزوا له ذلك] اهـ.
لكن ينبغي أن ينتبه إلى أن الإنسان إذا اضطر إلى الانتقال من مكان إلى مكان فإن عليه أن يراعي القوانين المنظمة لعملية السفر والانتقال، وذلك مشروط بألا يترتب على مفسدة انتقاله مفسدة أعظم من مفسدة بقائه، وقد روى الترمذي في "السنن" عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ»، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: «يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ».
الإقامة في بلاد غير المسلمين تجوز ما دام المقيم يأمن على دينه ونفسه وعرضه، ويتمكن من إظهار دينه والقيام بشعائره بدون ممانع.
على أنه ينبغي الانتباه أيضًا إلى أن بعض التيارات المتطرفة من الخوارج وأذيالهم قد يستعملون المصطلحات الفقهية القديمة في دار الكفر ودار الإسلام استعمالًا باطلًا بعيدًا عن سياقاته، ويوظفونه زورًا توظيفًا مشبوهًا لخدمة مآربهم الوضيعة في الوصول إلى تكفير الحكومات في بلاد المسلمين، ثم تكفير الجيوش العربية الإسلامية ووصفها بأنها جند الطاغوت، ثم تكفير شعوب هذه البلاد بحجج متهافتة، فيطلقون -بناءً على مقدمات موهومة مخدوشة- على بلاد المسلمين أنها من ديار الكفر، ويستعملون عبارات العلماء القديمة وينزلونها في غير محالها؛ إيهامًا وتدليسًا، أو جهلًا وغباءً.
والله سبحانه وتعالى أعلم.