ما حكم الصرف مِن أموال الزكاة والصدقات لآل البيت الموجودين في باكستان؛ حيث إن السلطات هناك قامت بالحيازة على بعض ممتلكاتهم، مِمَّا أَثَّر على حياتهم الاجتماعية تأثيرًا بالِغًا؟
يجوز شرعًا الصرف مِن أموال الزكاة للمستحقين من أهل البيت؛ لأن تحريمها عليهم مرتهنٌ بوجود ما يغنيهم ويقوم بشأن محتاجيهم من بعض موارد الدولة، ومقتضى ذلك: أنهم إن لم يكن لهم فرضٌ في الدولة خاصٌّ بهم كان لهم أن يأخذوا من الزكاة؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، كما أن لهم أن يأخذوا من مال صدقة التطوع بلا حرج.
كما يجوز أن يأخذوا من سهم العاملين عليها إن كانوا منهم بلا حرج؛ لأن ذلك يكون أجرة للعمل.
المحتويات
من المقرر شرعًا أن للزكاة مصارفَها المخصوصة المنصوص عليها، غير أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم استثنى مِن بعض مصارفها آلَ البيت؛ وذلك لِمَا في الزكاة من معنى تطهير المال وتزكيته، فإنها لو لم تُؤَدَّ كان بقاؤها في المال وبالًا على المال كله ومحقًا لبركته؛ فصدق عليها أنها غُسَالة المال، ولما اتصل نسل آل البيت بسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم أراد الحق تبارك وتعالى أن ينزه قدرهم ومكانتهم عن تناول ما يدفع الناس به الأذى عن أموالهم، وأن ينْأَى بنفوسهم عن مقامٍ تكون لغيرهم فيه المنةُ عليهم؛ فنهاهم عن الأخذ من أموال الزكاة؛ فقد أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الحسن بن علي رضي الله عنهما، أخذ تمرةً من تَمْر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كِخْ كِخْ، ارْمِ بِهَا، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ»، وأخرج الإمام مسلم في "صحيحه" عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ».
قال الإمام النووي الشافعي في "شرحه على مسلم" (7/ 179، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ» تنبيهٌ على العلة في تحريمها على بني هاشم وبني المطلب، وأنها لكرامتهم وتنزيههم عن الأوساخ، ومعنى أوساخ الناس: أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم، كما قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بها﴾ [التوبة: 103] فهي كغُسالة الأوساخ] اهـ.
وقال الإمام بدر الدين العيني الحنفي في "عمدة القاري" (9/ 78، ط. دار إحياء التراث العربي): [وقد ذكرنا الحكمة في تحريمها عليهم أنها مطهرة للمُلّاك ولأموالهم؛ قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ [التوبة: 103]؛ فهي كغسالة الأوساخ، وأن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم منزهون عن أوساخ الناس وغسالاتهم، وثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الصَّدَقَةُ أَوْسَاخُ النَّاسِ» كما رواه مسلم، وإما أن أخذها مَذَلة واليد السفلى، ولا يليق بهم الذل والافتقار إلى غير الله تعالى، ولهم اليد العليا، وإما أنها لو أخذوها لطال لسان الأعداء بأن محمدًا يدعونا إلى ما يدعونا إليه ليأخذ أموالنا ويعطيها لأهل بيته؛ قال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ [الأنعام: 90] اهـ.
اختلف العلماء في المراد بآل البيت؛ فمذهب الإمام الشافعي: أنهم بنو هاشم وبنو المطلب، ودليله حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا بَنُو المُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ» أخرجه الإمام أحمد والبخاري وغيرهما.
ومذهب الحنفية: أنهم آل عليٍّ، وآل عباس، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنهم؛ واستدلوا بما رواه الإمام أحمد في "المسند" والإمام مسلم في "الصحيح": أن حُصَين بن سبرة سأل زيد بن أرقم رضي الله عنه: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال زيد رضي الله عنه: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم.
قال العلامة ابن عابدين في "رد المحتار على الدر المختار" (2/ 350، ط. دار الفكر): [قوله: وبني هاشم.. إلخ اعلم أن عبد مناف وهو الأب الرابع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعقب أربعة وهم: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس، ثم هاشم أعقب أربعة؛ انقطع نسل الكل إلا عبد المطلب؛ فإنه أعقب اثني عشر، تصرف الزكاة إلى أولاد كلٍّ إذا كانوا مسلمين فقراء، إلا أولاد عباس وحارث وأولاد أبي طالب مِن عليٍّ وجعفر وعقيل. "قهستاني"، وبه عُلم أن إطلاق بني هاشم مما لا ينبغي؛ إذ لا تحرم عليهم كلِّهم بل على بعضهم، ولهذا قال في "الحواشي السعدية": إن آل أبي لهب ينسبون أيضًا إلى هاشم وتحل لهم الصدقة. اهـ.] اهـ.
وقال الإمام الرازي في "تفسيره" (15/ 485-486، ط. دار إحياء التراث العربي): [اختلفوا في ذوي القربى. قيل: هم بنو هاشم. وقال الشافعي رحمه الله: هم بنو هاشم وبنو المطلب، واحتج بالخبر الذي رويناه. وقيل: آل علي، وجعفر، وعقيل، وآل عباس، وولد الحرث بن عبد المطلب، وهو قول أبي حنيفة] اهـ.
الممنوعون من آل البيت من الزكاة هم صنفُ الفقراء فقط؛ إذْ يجوز أن يأخذ آلُ البيت من مصرف العاملين عليها والغارمين، كما ذهب إلى ذلك جماعة من المالكية والشافعية:
قال الشيخ العدوي المالكي في "حاشيته على شرح مختصر خليل للخرشي" (2/ 218، ط. دار الفكر): [وفي "شرح شب" -أيْ: "شرح الشيخ إبراهيم الشبرخيتي لمختصر خليل"-: والظاهر أن المدين يعطى منها ولو كان هاشميًّا؛ إذْ لا مذلة عليه في ذلك؛ ولأن مذلة الدين أعظم من مذلة إعطاء الزكاة في دينه] اهـ.
وقال العلامة الشرقاوي الشافعي في "حاشيته على تحفة الطلاب" (1/ 393، ط. مصطفى الحلبي) عند قول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري: [يجوز أن يكون الحمال والكيال والوزان والحافظ كافرًا وهاشميًّا ومطلبيًّا اهـ: قوله: نعم يجوز أن يكون الحمال.. إلخ لأن ما يأخذونه منها أجرة عملهم سواء وقعت إجارة أم لا فسومح في كونه من الزكاة، وما يوهمه قول م ر -أيْ: "شرح الشمس الرملي على المنهاج"، وهو: "نهاية المحتاج"-: نعم يجوز استئجاره.. إلخ، مِنْ أنه لا بد مِن عقد الإجارة ليس مرادًا، والكيال والوزان إن ميزا بين أنصباء المستحقين؛ لأنها إنما تكون من سهم العامل حينئذٍ، فإن ميزاها من المال فأجرتهم على المالك لا من سهم العامل كما في شرح المنهج قوله: كافرًا وهاشميًّا؛ أيْ: وعبدًا كما ذكره م ر، وعبارته: نعم يجوز استئجار كافرٍ وعبدٍ كيالٍ أو حمّالٍ أو حافظٍ أو نحوهم من سهم العامل؛ لأنه أجرة لا زكاة. اهـ. وبذلك يندفع توقف الشوبري هنا] اهـ.
إنما منعهم الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم آنذاك من الأخذ من بعض مصارف الزكاة لأنه أعطاهم ما يكفيهم ويغنيهم من نصيبه الذي خصه الله به، وهو خُمُس الخُمُس من الغنيمة، وهي المال الذي يؤخذ من الكفار بعد قتالهم، والفيء، وهو ما أخذ من مال الكفار المعتدين، ولم يوجَف عليه بخيل ولا ركاب؛ فقد أخرج الطبراني في "المعجم الكبير" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث نوفل بن الحارث رضي الله عنه ابنَيْه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهما: انطلقا إلى عمكما لعله يستعين بكما على الصدقات لعلكما تصيبان شيئًا فتزوَّجان، فلقيا عليًّا رضي الله عنه فقال: أين تأخذان؟ فحدثاه بحاجتهما فقال لهما: ارجعا، فرجعا، فلما أمسيا أمرهما أن ينطلقا إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما دفعا إلى الباب استأذنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة رضي الله عنها: «أَرْخِي عَلَيْكِ سجفَكِ أُدْخِل عَلَيَّ ابْنَيْ عَمِّي»، فحدثا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم بحاجتهما، فقال لهما نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَحِلُّ لَكُمَا أَهْلَ الْبَيْتِ منَ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ، وَلَا غُسَالَةُ الْأَيْدِي؛ إِنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ لَمَا يُغْنِيكُمْ أَوْ يَكْفِيكُمْ»، وإسناده حسنٌ؛ كما قال الملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح" (6/ 2578، ط. دار الفكر).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (3/ 354، ط. دار المعرفة): [قال الشافعي: أشركهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سهم ذوي القربى ولم يعط أحدًا من قبائل قريش غيرهم، وتلك العطية عِوَضٌ عُوِّضُوه بدلًا عمّا حُرِموه من الصدقة] اهـ.
فمَنْعُ آلِ البيت من الأخذ مِن بعض مصارف الزكاة معلَّلٌ بوجود ما يكفيهم ويُغنيهم من بعض موارد الدولة، ومقتضاه: أنهم إن لم يكن لهم فرضٌ في الدولة خاصٌّ بهم كان لهم أن يأخذوا من الزكاة؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا؛ قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير في شرح أحاديث الرافعي الكبير" (3/ 243، ط. دار الكتب العلمية): [وقد استدل به الرافعي للإصطخري في أن خُمس الخُمس إذا مُنِعَه أهلُ البيت حلَّتْ لهم الصدقة] اهـ.
القول بأحقية آل البيت في الزكاة إذا لم يُعطَوْا خمُسَ الخُمس هو مذهب كثير من العلماء، بل هو المعمول المفتَى به عبر العصور؛ لأن منعهم معلل باستغنائهم عن الزكاة بالخمس، فإذا زالت علة الاستغناء زال حكم المنع، بل نصُّوا على أن إعطاءهم أفضل من إعطاء غيرهم؛ رعايةً لحقهم وقرابتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقديرًا لحاجتهم، فرواه أبو عصمة عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو المشهور عند المالكية، وهو قول العلامة الإصطخري، وأبي سعد الهروي، ومحمد بن يحيى من الشافعية، ومال إليه جمعٌ من متأخري أئمة الشافعية وأفتوا به؛ كالعلامة شرف الدين البارزي، وابن مطير، والفضالي، والشرواني، والباجوري، وهو قول جماعة من أئمة الحنابلة؛ كالآجري، والقاضي يعقوب، وأبي البقاء، وأبي صالح، ونصر بن عبد الرزاق، وأبي طالب البصري، وهو صاحب الحاويين، واختاره ابن تيمية.
قال العلامة ابن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (2/ 272، ط. دار الفكر): [( قوله: ولا يُدفَع إلى بني هاشم) هذا ظاهر الرواية، وروى أبو عصمة عن أبي حنيفة أنه يجوز في هذا الزمان وإن كان ممتنعًا في ذلك الزمان، وعنه وعن أبي يوسف: أنه يجوز أن يدفع بعض بني هاشم إلى بعض زكاتهم] اهـ.
وجاء في "المعيار المعرب عند المالكية" (1/ 395، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للمملكة المغربية): [وسئل سيدي محمد بن مرزوق عن رجل شريف أضرَّ به الفقر: هل يواسَى بشيء من الزكاة أو صدقة التطوع؟ وقد علمتم ما في ذلك من الخلاف. وحالة هذا الرجل كغيره من الشرفاء عندنا، لا سيما من له عيالٌ تحت فاقة. فالمراد ما نعتمده في ذلك من جهتكم، فإني وقفت على جواب الإمام ابن عرفة قال فيه: المشهور من المذهب أنهم لا يُعطَوْن من الزكاة. وبذلك احتجَّ عليَّ من تكلمت معه في ذلك من طلبة بلدنا، فقلت له: إن وقفنا مع هذا وشبهه مات الشرفاء وأولادهم وأهاليهم هزالًا؛ فإن الخلفاء قصَّروا في هذا الزمان في حقوقهم، ونظام بيت المال وصرف ماله على مستحقه فسد. والأحسن عندي أن يُرتَكَب في هذا أخف الضررين، ولا يُنظَر في حَفَدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يموتوا جوعًا. فعارَضَني بما قلتُ لكم، وبما قاله الشيخ ابن رشد في الأجوبة. فأجاب: المسألة اختلف العلماء فيها كما علمتم، والراجح في هذا الزمان أن يُعطَى، وربما كان إعطاؤه أفضل من إعطاء غيره. والله تعالى أعلم] اهـ، وابن مرزوق هو العلامة شيخ المالكية محمد بن مرزوق التلمساني المتوفى سنة 901هـ، وصفه الإمام الونشريسي في وفياته بالفقيه الحافظ المصقع، ووصفه غيرُه بالمحدث المسند الراوية، ووصفه الإمام أبو عبد الله التلمساني في رحلته بأنه: علم الأعلام حجة الإسلام آخر حُفّاظ المغرب، وذلك كما جاء في "فهرس الفهارس" (1/ 525، ط. دار الغرب الإسلامي).
وقال العلامة الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 493، ط. دار الفكر): [واعلم أن محل عدم إعطاء بني هاشم منها: إذا أُعطُوا ما يستحقونه من بيت المال، فإن لم يُعطَوْا وأضر بهم الفقر أُعطُوا منها، وإعطاؤهم حينئذٍ أفضلُ من إعطاء غيرهم، وقيده الباجي بما إذا وصلوا لحالة يباح لهم فيها أكل الميتة لا مجرد ضرر، والظاهر خلافه وأنهم يعطون عند الاحتياج ولو لم يصلوا لحالة إباحة أكل الميتة؛ إذ عطاؤهم أفضل من خدمتهم لذمي أو ظالم. اهـ. تقرير شيخنا عدوي، وهذا كله في الصدقة الواجبة كما هو الموضوع] اهـ.
وقال الإمام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب" (1/ 320، ط. دار الكتب العلمية): [وقال أبو سعيد الإصطخري: إن مُنِعُوا حقَّهم مِن الخُمس جاز الدفع إليهم؛ لأنهم إنما حُرِمُوا الزكاةَ لحقِّهم في خُمس الخُمس، فإذا مُنِعُوا الخمسَ وجب أن يُدفَع إليهم] اهـ.
وقال إمام الحرمين الشافعي في "نهاية المطلب" (11/ 546-547، ط. دار المنهاج): [فإن لم يكن في يد الإمام فيء وافتقرت طائفة من ذوي القربى، فالجمهور أنه لا يجوز أن يصرف إليهم من سهم المساكين، وقال الإصطخري: يجوز إذا لم يكن فيء؛ لأنهم حُرِمُوا الصدقة، وأُقيم الفيءُ في حقهم مَقامَها، فإذا لم يكن فيءٌ حلّوا محل الأجانب الذين لا قرابة لهم. وهذا بعيد] اهـ.
وقال العلامة ابن مطير اليمني الشافعي في "الديباج شرح المنهاج": [وجوَّز الإصطخري إعطاءهم، واختاره الهروي ومحمد بن يحيى، وأفتى به شرف الدين البارزي، ولا بأس به؛ بل في حديث الطبراني ما يشهد له أي: بقوله: «أَلَيْسَ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يَكْفِيكُمْ» أي: يغنيكم؛ أي: أنتم مستغنون بخمس الخمس، فإذا عدم خمس الخمس زال الغنى، فخمس الخمس علة لاستغنائهم وشرط لمنعهم، فإذا زال الشرط انتفى المانع. ويشبه أن يكون هذا هو المختار في هذا الزمن لمن كان منهم في اليمن؛ لبعدهم عن محل الغنائم، وقلة شفقة الملوك وأهل الثروة، وشدة حاجتهم التي شاهدنا، ولله أحكام تحدث بحدوث ما لم يكن في الصدر الأول، والله أعلم] اهـ، نقله العلامة عبد الحميد الشرواني المكي الشافعي في "حاشيته على تحفة المحتاج" (7/ 160-161، ط. المكتبة التجارية الكبرى) ثم قال: [ولا بأس بتقليد الإصطخري في قوله الآن؛ لاحتياجهم، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يميل إلى ذلك محبة فيهم نفعنا الله بهم] اهـ.
وعبارة الشيخ الشرواني في "الحاشية" منقولة بنصها عن شيخ الإسلام الباجوري في "حاشيته الفقهية" (1/ 546-547، ط. دار الكتب العلمية)، والإمام الباجوري يعني بها شيخَه العلامةَ الفضالي رحمهما الله تعالى، ونقل ذلك العلامة الترمسي في "المنهل العميم بحاشية المنهج القويم" (5/ 431، ط. دار المنهاج) ثم قال: [وإليه مال جمع من المتأخرين؛ محبة في أهل البيت، نفعنا الله بهم] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "الفتاوى الكبرى" (5/ 373، ط. دار الكتب العلمية): [وبنو هاشم إذا مُنِعُوا مِن خُمس الخمس جاز لهم الأخذُ مِن الزكاة، وهو قول القاضي يعقوب وغيره من أصحابنا، وقاله أبو يوسف، والإصطخري من الشافعية؛ لأنه محل حاجة وضرورة. ويجوز لبني هاشم الأخذ من زكاة الهاشميين، وهو محكي عن طائفة من أهل البيت] اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (4/ 367، ط. مؤسسة الرسالة): [ومال شيخنا -يعني الشيخ ابن تيمية- إلى أنهم إن مُنِعُوا الخمس أخذوا الزكاة، وربما مال إليه أبو البقاء، وقال: إنه قول القاضي يعقوب من أصحابنا، ذكره ابن الصيرفي في منتخب الفنون، واختاره الآجري في كتاب النصيحة؛ لأنه محل حاجة وضرورة، وقاله أبو يوسف، وقاله الإصطخري من الشافعية.. وفي كتاب "المرتضى في الفقه" أن مذهب الإمامية يُجوِّز لبني هاشم الفقراء أخذَ زكاة بني هاشم] اهـ.
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (3/ 255، ط. دار إحياء التراث العربي): [وقيل: يجوز إن منعوا الخمس؛ لأنه محل حاجة وضرورة، اختاره الآجري، قال في "الفائق": وقال القاضي يعقوب، وأبو البقاء، وأبو صالح: إن مُنعوا الخمس جاز، ذكره الصيرفي. انتهى، وقال في "الفروع": ومال شيخنا إلى أنهم إن مُنِعُوا الخمسَ أخذوا الزكاة، وربما مال إليه أبو البقاء، وقال: إنه قول القاضي يعقوب من أصحابنا. ذكره ابن الصيرفي في "منتخب الفنون"، واختاره الآجري في كتاب "النصيحة". انْتَهَى. وزاد ابن رجب على من سماهم في "الفائق": نصرَ بن عبد الرزاق الجيلي، قلت: واختاره في الحاويين، وقال جامع الاختيارات: وبنو هاشم إذا مُنِعُوا مِن خمس الخمس جاز لهم الأخذ من الزكاة، ويجوز لهم الأخذ من زكاة الهاشميين. انتهى. فتلخص جواز الأخذ لبني هاشم إذا مُنِعوا من الخمس عند القاضي يعقوب، وأبي البقاء، وأبي صالح، ونصر بن عبد الرزاق، وأبي طالب البصري، وهو صاحب الحاويين، والشيخ تقي الدين] اهـ.
والزكاة لا منة فيها على الفقير، بل هي حق له أجراه الشرع على يد الغني، وأوجب على الفقير أخذه والانتفاع به، حتى نص جماعة من الفقهاء على قتال الفقراء إذا أرادوا إبطال هذا الركن بامتناعهم بشوكتهم عن قبول الزكاة؛ لأن الزكاة شريعة ربانية وركن إسلامي شرعه الله تعالى لبناء الإنسان، ومن شأنها رفع مستوى الأفراد والأسر في المجتمع بما يقوي الاقتصاد ويعود على المجتمع بالتنمية والنماء والنفع. وبناءً على ما سبق فالذي عليه العمل والفتوى عند جماهير أصحاب المذاهب الفقهية عبر القرون هو إعطاء آل البيت من أموال الزكاة المفروضة؛ لأن تحريمها عليهم مرتهن بوجود المصدر الذي يغنيهم ويقوم بشأن فقيرهم، فإذا انعدم أو قل كان لهم الأخذ من أموال الزكاة.
صدقة التطوع فالجمهور على أنها جائزة لآل البيت بلا حرج؛ حيث أجازها أكثر الحنفية، وهو القولُ المصحَّح عند الشافعية، والحنابلة، وأجازها المالكية في معتمد المذهب مع الكراهة؛ جمعًا بين الأدلة:
قال الإمام العيني الحنفي في "البناية شرح الهداية" (3/ 471، ط. دار الكتب العلمية): [يجوز النفل بالإجماع.. وفي "المبسوط": يجوز دفع صدقة التطوع والأوقاف إلى بني هاشم.. وفي "شرح التجريد للكردي": الصدقة على بني هاشم بطريق الصلة والتبرع قال بعض أصحابنا: تحل، وقال بعضهم: لا تحل] اهـ.
وقال الملا علي القاري الحنفي في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (4/ 1302): [وأما الصدقة النافلة فقال في النهاية: ويجوز النفل بالإجماع، وكذا يجوز النفل للغني كذا في "الفتاوى العتابية" اهـ، وصرح في "الكافي" بدفع صدقة الوقف إليهم على أنه بيان المذهب من غير نقل خلاف، فقال: وأما التطوع والوقف فيجوز الصرف إليهم؛ لأن المؤدي في الواجب يطهر نفسه بإسقاط الفرض فيتدنس به المؤدَّى كالماء المستعمل، وفي النفل يتبرع بما ليس عليه فلا يتدنس به المؤدَّى كمن تبرد بالماء. اهـ] اهـ.
وقال سيدي الإمام أبو البركات الدردير المالكي في "الشرح الكبير المطبوع بحاشية الدسوقي" (2/ 212، ط. دار الفكر): [المعتمد عدم حرمة التطوع على الآل، ومحل حرمة الفرض إن أُعطُوا من الفيء ما يستحقونه، وإلا جاز إن أضر الفقر بهم وإن لم يصلوا إلى حد أكل الميتة] اهـ. قال العلامة الدسوقي في "حاشيته عليه": [(قوله: والمعتمد.. إلخ) قال ح -أيْ: العلّامة الحطاب المالكي- مذهب ابن القاسم أنها لا تحرم عليهم، قال ابن عبد البر: وهو الذي عليه جمهور أهل العلم وهو الصحيح عندنا، والذي في التوضيح عن ابن عبد السلام أن المشهور المنع مطلقًا. اهـ. انظر: بن -أيْ: "حاشية الشيخ محمد البناني على شرح الزرقاني"، المسماة: "الفتح الرباني على شرح الزرقاني"-] اهـ.
وقال الشيخ الدسوقي في موضعٍ آخر (1/ 494) قبل هذا الموضع المذكور: [وأما صدقة التطوع فيجوز لهم أخذها مع الكراهة على المعتمد، وما يأتي في الخصائص من حرمتها عليهم أيضا فهو ضعيف وإن شهَرَهُ ابن عبد السلام] اهـ.
وقال الشيخ الصاوي المالكي في "حاشيته على الشرح الصغير" (1/ 660، ط. دار المعارف): [وأما صدقة التطوع فهي للآل جائزة على المعتمد] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (6/ 238، ط. دار الفكر): [وتحل صدقة التطوع للأغنياء ولبني هاشم وبني المطلب؛ لما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه: أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة فقيل له: أتشرب من الصدقة؟ فقال: إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة] اهـ، وقال في موضعٍ آخر (6/ 239): [هل تحل صدقة التطوع لبني هاشم وبني المطلب؟ فيه طريقان: أصحهما وبه قطع المصنف والأكثرون: تحل. والثاني: حكاه البغوي وآخرون من الخراسانيين فيه قولان: أصحهما: تحل. والثاني: تحرم] اهـ.
وقال الحافظ العراقي في "طرح التثريب في شرح التقريب" (4/ 35، ط. المطبعة المصرية القديمة): [والصحيح عند أصحابنا: أن المحرَّم عليهم الزكاة دون صدقة التطوع، وكذا هو الصحيح عند الحنابلة، وبه قال الحنفيّة، وهو رواية أصبغ عن ابن القاسم في العتبية] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (3/ 354، ط. دار المعرفة): [وثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الصَّدَقَةُ أَوْسَاخُ النَّاسِ» كما رواه مسلم؛ ويؤخذ من هذا: جواز التطوّع دون الفرض، وهو قولُ أكثر الحنفيّة، والمصحَّح عند الشافعية، والحنابلة] اهـ.
وقال الحافظ أبو بكر الدمياطي الشافعي في "إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين" (2/ 225، ط. دار الفكر): [قوله: وعدم كونه هاشميًّا ولا مطلبيًّا؛ أيْ: ولا مولى لهم؛ كما مر. قوله: وإن انقطع عنهم خمس الخمس قال في "بُشرى الكريم": لكن ذهب جم غفير إلى جوازها لهم إذا مُنِعوا مما مر، وأن علة المنع مركبة مِن كونها أوساخًا، ومِن استغنائهم -بما لهم من خمس الخمس- كما في حديث الطبراني وغيره؛ حيث علل فيه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ». وقد مُنِعوا مما لهم من خمس الخمس، فلم يبق للمنع إلا جزء علة، وهو لا يقتضي التحريم. لكن ينبغي للدافع إليهم أن يبين لهم أنها زكاة، فلربما يتورع مَن دُفعت إليهم. اهـ. وهذا القول هو مذهب المالكية، كما نقله في "حاشية الجمل" عنهم، ونصُّها: وعبارة الشيخ عبد الباقي الزرقاني على الشيخ خليل: ثم المعتمد عدم حرمة صدقة التطوع على آله، واختصاص الحرمة بالفرض إن أُعطُوا من بيت المال ما يستحقونه، وإلا أعطوا منها إن أضرَّ بهم الفقر -كما في "الواقي"- أو أبيحت لهم الصدقة -كما في "الباجي"- بل الإعطاء لهم حينئذ أفضل من غيرهم. وكلام الباجي ظاهر. اهـ] اهـ.
وقال الشيخ المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (3/ 257، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله: ويجوز لبني هاشم الأخذ من صدقة التطوع، ووصايا الفقراء هذا المذهب، نص عليه، وعليه الأصحاب، وحكاه في الفروع إجماعًا، ونقل الميموني: أن التطوع لا يحل لهم أيضًا. قال المجد في شرحه: فيكون النذر والوصية للفقراء أولى بالتحريم، وجزم في الروضة بتحريم أخذ صدقة التطوع على بني هاشم ومواليهم، وقدمه ابن رزين. قوله: وفي النذر يعني: يجوز لهم الأخذ من النذر، كصدقة التطوع ووصايا الفقراء. وهذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وجزم به أكثرهم، وقطع في الروضة بتحريمه أيضًا عليهم] اهـ.
ولقد أجاب الإمام الحافظ ابن خزيمة في "صحيحه" عن جميع الأحاديث التي ذُكر فيها تحريم الصدقة على آل البيت بأنها جميعًا جاءت في سياق صدقة الفريضة، أيْ: أن المقصود بالصدقة التي لا تحل لآل البيت: الزكاة التي من أجلها قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه المقالة. ولقد أُثِر عن آل البيت الكرام الأخذ من صدقة التطوع:
فقد أخرج الإمام البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (9/ 71، ط. جامعة الدراسات الإسلامية) من طريق الإمام الشافعي عن زيد بن علي: [أن فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تصدقت بمالها على بني هاشم، وبني المطلب، وأن عليًّا تصدق عليهم فأدخل معهم غيرهم.. قال الشافعي: وبنو هاشم، وبنو المطلب تحرم عليهم الصدقة المفروضة، ولم يسم عليٌّ ولا فاطمة منهم غنيًّا ولا فقيرًا، وفيهم غني] اهـ. وأخرج (9/ 72): [عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أنه كان يشرب من سقايات كان يضعها الناس بين مكة والمدينة، فقلت، أو قيل له: فقال إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة] اهـ. وأسند (9/ 73): [عن الشافعي رحمه الله أنه قال في صدقة التطوع: إنها لا تحرم على أحد، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يأخذها، ويأخذ الهدية، وقد يجوز تركه إياها على ما رفعه الله به وأثابه تحريمًا، ويجوز بغير ذلك، كي لا يكون لأحد عليه يد؛ لأن معنى الصدقات من العطايا: هبةٌ لا يراد ثوابها، ومعنى الهدية: يراد ثوابها] اهـ.
ونقل الحافظ ابن عبد البر المالكي عن جمهور العلماء القول بحلِّ صدقة التطوع لآل البيت؛ فقال في "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (3/ 92-93، ط. وزارة الأوقاف المغربية): [الذي عليه جمهور أهل العلم وهو الصحيح عندنا: أن صدقة التطوع لا بأس بها لبني هاشم ومواليهم، ومما يدلك على صحة ذلك: أن عليًّا والعباس وفاطمة رضي الله عنهم وغيرهم تصدقوا وأوقفوا أوقافًا على جماعة من بني هاشم، وصدقاتُهم الموقوفةُ معروفةٌ مشهورةٌ] اهـ.
بناءً على ما سبق: فيجوز الصرف مِن أموال الزكاة للمستحقين من أهل البيت؛ لأن تحريمها عليهم مرتهنٌ بوجود ما يغنيهم ويقوم بشأن محتاجيهم كما سبق بيانه، كما أن لهم أن يأخذوا من مال صدقة التطوع بلا حرج.
والله سبحانه وتعالى أعلم.