حكم استعمال مياه الصرف المعالجة بالليزر في الوضوء والغسل

  • المفتى: الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
  • تاريخ الصدور: 20 ديسمبر 2018
  • رقم الفتوى: 4654

السؤال

ما حكم مياه الصرف المعالجة بالليزر؟ وهي برامجُ ومراحلُ مختلفةٌ من جهاز إلى آخر، ومن ذلك: التبخير بالأشعة تحت الحمراء، ثم يتمُّ تكثيفُ الماء وتجميعُه في مجرى نصف أسطواني، ثم يتمُّ تعريضُه بعد ذلك للأشعَّة فوقَ البنفسجية التي تخلصُ ما بقي فيه من المواد الصلبة العالقة والأملاح، ثم يتمُّ تطهيرُه من البكتيريا والمواد العضوية، ولا تختلفُ هذه المراحلُ من جهاز لآخر إلا من حيث عدد المراحلِ، والتقنية المستخدمة: هل يمكن استعمالها في الوضوء والغسل أو لا؟

إذا تم معالجة مياه الصرف الصحي بتقنية الليزر الحديثة وفقًا لما هو وارد بالسؤال فإنها تعودُ إلى أصل طهارتها؛ لأن الماء كما يتنجس بما يغير طَعْمَهُ أو لَوْنَهُ أو رِيحَهُ من نجاسةٍ فإنه كذلك يطهر بزوال ما غيّره ابتداءً، ويصحُّ حينئذٍ التطهر بهذه المياه ما دامت أوصاف التغير قد زالت، لا سيما عند ضم بعضها إلى بعض أو خلطها بغيرها من الماء المطلق لتبلغ مقدار حد الماء الكثير في اصطلاح الفقهاء؛ وهو 270 لترًا تقريبًا.

المحتويات

 

الحث على الطهارة في الإسلام

حثَّ الله عز وجل على الطَّهارة في آيات كثيرة من القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 4]، وقال عز وجل: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 108]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222].
وكذلك السُّنة النبوية المطهرة؛ فقد روى الإمام مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لله تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لله تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا».
قال الإمام النووي رحمه الله في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (3/ 100، ط. دار إحياء التراث): [هذا حديثٌ عظيم أصل من أصول الإسلام قد اشتمل على مهمات من قواعدِ الإسلام، فأما الطهور فالمراد به الفعل.. واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الطهور شطر الإيمان»؛ فقيل: معناه أن الأجر فيه ينتهي تضعيفه إلى نصف أجر الإيمان، وقيل: معناه أن الإيمان يَجُبُّ ما قبله من الخطايا وكذلك الوضوء؛ لأن الوضوء لا يصحُّ إلا مع الإيمان فصار لتوقفه على الإيمان في معنى الشطر] اهـ.

وقد أمر الشرعُ الشريف المسلمَ بتطهير قلبِه وجوارحِه وبدنِه؛ فأمره بتطهير القلبِ من الآثارِ المذمومةِ والرذائلِ الممقوتةِ، وتطهيرِ الجوارح من الذنوبِ والآثامِ، وتطهيرِ البدنِ من النجاساتِ والأحداث.
وتطهير البدن يكون برفع الحدث (طهارة حكمية)، وإزالة الخبث (طهارة حقيقية)؛ فإزالة الخبث أي إزالة النجاسة، ورفع الحدث يكون في الحدث الأكبر بالغسل، وفي الحدث الأصغر بالوضوءِ، وذلك عند إرادة الصلاة ونحوها؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: 6].
وروى الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» وهذا لفظ رواية الإمام البخاري.

الماء الذي تصحّ به الطهارة

لا تكون الطهارة إلا بالماء المطلق؛ أي: الباقي على أصْلِ خلقته؛ أي: الماء المطلق الذي هو طاهرٌ في نفسه مُطهِّرٌ لغيره، وهو الذي يطلق عليه اسم الماء بلا قيد أو إضافة؛ مثل مياه البحار والأنهار والأمطار ونحوها؛ قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» رواه أصحاب السنن، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ؛ إِلَّا أَنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهَا» رواه البيهقي في "السنن الكبرى".
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (1/ 83، ط. دار الكتب العلمية): [فما يحصلُ به التطهير أنواعٌ: منها الماء المطلق، ولا خلافَ في أنه يحصلُ به الطهارة الحقيقية والحكمية جميعًا] اهـ.
وقال الإمام المَرْغِيناني الحنفي في "الهداية في شرح بداية المبتدي" (1/ 20، ط. دار إحياء التراث العربي): [باب الماء الذي يجوز به الوضوء وما لا يجوز: (الطهارة من الأحداث جائزة بماء السماء والأودية والعيون والآبار والبحار)؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48] وقوله عليه الصلاة والسلام:«الماء طهور؛ لا ينجسه شيءٌ إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»، وقوله عليه الصلاة والسلام في البحر: «هو الطهور ماؤه الحِلُّ ميتته» ومطلق الاسم ينطلق على هذه المياه. قال: (ولا يجوز بما اعتصر من الشجر والثمر)؛ لأنه ليس بماء مطلق] اهـ.
وقال في "المرجع السابق" (1/ 21): [(ولا يجوز) -أي: التطهُّر- بماءٍ غَلَبَ عليه غيرُهُ، فأخرجه عن طبع الماء] اهـ.
وقال شهاب الدين بن عسكر المالكي في "إرْشَاد السَّالِك إلى أَشرَفِ المَسَالِك فِي فقهِ الإمَامِ مَالِك" (1/ 3، ط. مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده): [لا يرفع الحدثَ والخبثَ إلا الماءُ المطلق، وهو: ما كان على خلقته، أو تغير بما لا ينفكُّ غالبًا؛ كقراره، والمتولد منه] اهـ.
وقال الإمام الشيرازي الشافعي في "المهذب" (1/ 17، ط. دار الكتب العلمية): [فصل: وما سوى الماء المطلق من المائعات كالخل وماء الورد والنبيذ وما اعتصر من الثمر أو الشجر لا يجوز رفع الحدث ولا إزالة النجس به؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [النساء: 43]، فأوجب التيمم على من لم يجد الماء، فدلَّ على أنه لا يجوزُ الوضوءُ بغيره، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في دم الحيض يصيب الثوب: «حُتِّيهِ، ثُمَّ اقْرُصِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاء» فأوجب الغسل بالماء؛ فدلَّ على أنه لا يجوزُ بغيره] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (1/ 8، ط. مكتبة القاهرة): [قال أبو القاسم رحمه الله: (والطهارة بالماء الطاهر المطلق الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره مثل: ماء الباقلا، وماء الورد، وماء الحمص، وماء الزعفران، وما أشبهه، مما لا يزايل اسمه اسم الماء في وقت)] اهـ.
وعلة عدم جواز التطهر بالماء المتغير إنما هي التغيُّر الذي يمنع من إطلاق وصْف الإطلاق عليه، فإذا زال هذا التغيُّر وعاد الماء مطلقًا كما كان، فإنه يجوزُ التطهُّر به؛ بناءً على القاعدة المقرَّرة لدى الفقهاء "أن الحكم دائرٌ مع علته ويزول بزوالها"؛ قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (2/ 5، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [فصل في مناسبة العلل لأحكامها وزوال الأحكام بزوال أسبابها ... والأصلُ أن تزولَ الأحكام بزوال عللها] اهـ.

المراد بمياه الصرف الصحي وصور تنقيتها

مياه الصرف الصحي هي مياهٌ ملوثةٌ مجمعةٌ من المجمعات السكنية والتجارية والصناعية والزراعية، وهذا التلوث ناتجٌ عن اختلاط الفضلات المنزلية والصناعية من هذه المصادر، ويتمُّ التخلُّص من هذه المياه وتصريفها باستخدام الأنابيبِ أو المجاري أو أيِّ أبنيةٍ أخرى مشابهة، وأحيانًا يتمُّ تصريفُها في حفرةٍ، وتفرغ هذه الحفرة باستخدام مُعدَّاتٍ خاصةٍ تمتصُّ هذه المياه وتصرفها في الأماكنِ المخصصة لذلك.
واليوم في ظل التقدُّم العلمي الذي لم يكن موجودًا من قبلُ، تمكَّن العلماء من تنقية الماء وفصله عن كل ما اختلط به بعِدَّة طرق مختلفة، منها: تبخيرُ الماء وتقطيرُه حتى يعودَ إلى أصله، بحيث إذا رأيت الماء لم تعرف أنه كان متغيرًا إلا إذا أخبرك أحدهم بذلك.
ومنها أيضًا: مرور الماء بأربعة مراحلَ هي: الترسيب، والتهوية، وقتل الجراثيم، والتعقيم بالكلور، ومن خلال هذه المراحل الأربعة تتحوَّل صفاتُ الماء إلى درجةٍ قريبةٍ من ماء الأنهار، وفي مراحلَ متقدمةٍ من المعالجة -باستخدام ما يُسمى: "الـمُرشحات الرملية، والامتصاص الكربوني، والأكسدة الكيميائية، والتناضح العكسي"- تزداد درجة النقاء بحيث تُزَالُ الشوائبُ والعوالقُ التي لحقت بالماء -كالزيوت والدهون والعكارة- تمامًا، وتصبح المياه نقيةً وقريبةً جدًّا من المياه الصالحة للشُّرب والاستهلاك الآدمي.
ومن الطرق الحديثة التي يتم تنقية مياه الصرف بها: التنقية بالليزر، وهي على ما جاء في السؤال وما ذكره المختصون: برامج ومراحل مختلفة من جهاز إلى آخر، ومن ذلك: التبخير بالأشعة تحت الحمراء، ثم يتمُّ تكثيفُ الماء وتجميعُه في مجرى نصف أسطواني، ثم يتمُّ تعريضُه بعد ذلك للأشعَّة فوق البنفسجية التي تخلص ما بقي فيه من المواد الصلبة العالقة والأملاح، ثم يتمُّ تطهيرُه من البكتيريا والمواد العضوية، ولا تختلف هذه المراحلُ من جهاز لآخر إلا من حيث عدد المراحلِ والتقنية المستخدمة، وعلى هذا تكون تنقية ومعالجة الماء بالليزر بإزالة ما تسبب في تغيره وليس فيه إضافة ما يخفي التغير مع بقائه.

ملاقاة النجاسة للماء القليل والكثير

أجمع أهلُ العلم على أنَّ الماء القليلَ والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيَّرت للماء لونًا أو طَعْمًا أو رائحةً فإنه يَنْجُس ما دام كذلك؛ قال الإمام ابن المنذر في "الإجماع" (ص: 35، ط. دار المسلم): [وأجمعوا على أنَّ الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسةٌ فغيَّرت للماء طعمًا أو لونًا أو ريحًا: أنه نجسٌ ما دام كذلك] اهـ.
وحَدُّ الماء الكثير عند جمهور الفقهاء هو مقدارُ قلَّتين من قِلَالِ هَجَر، و"قِلَال": جمع قُلَّةٍ وهي الجَرَّةُ الضخمة، و"هَجَر": بلدةٌ كانت تُصَنَّع بها القِلال؛ قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (7/ 213، 228، ط. دار المعرفة): [قوله: (قِلَال)؛ قال الخطابي: القِلَالُ بالكسر جمع قُلَّةٍ بالضم هي الجِرَارُ.. قوله: (هَجَر) أن المراد بها: قريةٌ كانت قُرب المدينة، كان يُصْنَعُ بها القِلَال. وزعم آخرون بأنَّ المرادَ بها: هَجَر التي بالبحرين؛ كأن القِلَالَ كانت تُعْمَلُ بها وتُجْلَبُ إلى المدينة، وعُمِلت بالمدينة على مِثَالِهَا. وأفاد ياقوت: أن هَجَر أيضًا بَلَدٌ باليمن] اهـ.
ومقدار القلتين من قِلَال هَجَر: 270 لترًا تقريبًا. انظر: "الفقه الإسلامي وأدلته" للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 273، ط. دار الفكر).
والماء الـمُتَجمِّع من الصَّرْف الصحي الذي نحن بصدد الحديث عنه يُعَدُّ ماءً كثيرًا تَغيَّرت أوصافه الثلاثة: الطعم، واللون، والرائحة؛ فلا شكَّ في تنجُّسه.

حكم استعمال مياه الصرف المعالجة بالليزر في الوضوء والغسل

قرَّر جمهورُ الفقهاء أن الماء المختلط بالمتنجس يَطْهُر بطُرُقٍ؛ منها: التكثير، ومعناه: صَبُّ الماء الطاهر على الماء المختلط بالمتنجس الذي تغيَّر حتى يغمرها وتستهلك فيه؛ بحيث يذهب التغيُّر عن الأوصاف الثلاثة: الطعم، واللون، والرائحة.
قال الإمام الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 46، ط. دار الفكر) عن الماء الذي حلَّت فيه نجاسة وغيَّرته: [فإن زال تَغَيُّرُه بِصَبِّ مُطْلَقٍ عليه قليلٍ أو كثيرٍ أو ماءٍ مضافٍ انْتَفَتْ نجاستُهُ قولًا واحدًا] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (1/ 126، ط. دار الكتب العلمية): [(فلو كُوثِرَ) المُتنَجِّسُ القليل (بِإِيرَادِ -أي بِصَبِّ-) ماءٍ (طهورٍ) أي أُورِدَ عليه طَهُورٌ أكثر منه (فلم يبلغهما -أي: القلتين- لَمْ يَطهُر) لمفهوم حديث القُلَّتَين؛ لأنه ماءٌ قليلٌ فيه نجاسةٌ، ولأن المعهود في الماء أن يكون غاسلًا لا مغسولًا (وقيل) هو (طاهرٌ) بشرط ألَّا يكون به نجاسةٌ جامدةٌ؛ قياسًا للماء على غيره] اهـ.
والأصلُ في تطهير القليل بالكثير ما أخرج الإمام البخاري في "صحيحه" من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه لَمَّا بال الأعرابي في المسجد: «دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ»؛ قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (1/ 116، ط. المطبعة العلمية): [وفي هذا دليلٌ على أنَّ الماء إذا وَرَدَ على النجاسة على سبيل المكاثرة والغلبة طَهَّرَهَا] اهـ.
ولكنَّ الماء إذا بلغ قُلتين -ذراع وربع طولًا وعرضًا وعمقًا- (270 لترًا تقريبًا) فأكثر؛ لم يؤثر فيه شيء وأنه يبقى على أصل إطلاقه ما لم يتغير؛ فقد روى أبو داود في "سننه" عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ يُقَالُ لَهُ: إِنَّهُ يُسْتَقَى لَكَ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا لُحُومُ الْكِلابِ وَالْمَحَايِضُ وَعَذِرُ النَّاسِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَسَمِعْتُ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: سَأَلْتُ قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا؟ قَال: أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ إِلَى الْعَانَةِ، قُلْتُ: فَإِذَا نَقَصَ؟ قَالَ: دُونَ الْعَوْرَةِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَقَدَّرْتُ أَنَا بِئْرَ بُضَاعَةَ بِرِدَائِي مَدَدْتُهُ عَلَيْهَا ثُمَّ ذَرَعْتُهُ، فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ، وَسَأَلْتُ الَّذِي فَتَحَ لِي بَابَ الْبُسْتَانِ فَأَدْخَلَنِي إِلَيْهِ: هَلْ غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لا، وَرَأَيْتُ فِيهَا مَاءً مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ.
وبما رواه ابن ماجه في "سننه" عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم سُئِلَ عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ بِالْفَلاةِ مِنَ الأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ».
وعلى هذا فإن الماء يبقى مطلقًا ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، وإذا تغَيَّر فيه شيءٌ من ذلك كان متغيرًا حتى يزولَ عنه التغَيُّرُ فيعود إلى إطلاقه، والماء المتغير إذا اجتمع بعضُه إلى بعض فزال منه التَّغَيُّرُ أو أُضيف إليه ما يُذهب النجاسة؛ كالتراب ونحوه مما يذهب الرائحة ولا يخفيها، عاد إلى أصل طهارته، وكذلك الماء المستعمل إذا جمع بعضه إلى بعض فبلغ قُلَّتين يصحُّ استعمالُه في الطهارة؛ قال الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" (1/ 157، ط. دار الفكر): [(فإن جمع المستعمل حتى صار قلتين فوجهان: أحدهما: يزول حكم الاستعمال كما يزول حكم النجاسة؛ ولأنه لو توضأ فيه أو اغتسل وهو قلتان لم يثبت له حكم الاستعمال، فإذا بلغ قلتين وجب أن يزولَ عنه حكم الاستعمال. والثاني: لا يزول؛ لأن المنْعَ منه لكونه مستعملًا، وهذا لا يزول بالكثرة). واتفقوا على أن الأصحَّ زوال حكم الاستعمال، وقطع به جماعاتٌ من أصحاب المختصرات منهم: المحاملي في المقنع، والجرجاني في كتابيه: التحرير، والبلغة. قال الروياني: وهو المنصوص في: "الأم"، و"الجامع الكبير"، وهو قول أبي إسحاق. والوجه الآخر وهو قول ابن سريج؛ كذا حكاه عنه الشيخ أبو حامد، والماوردي، وغيرهما، وخالفهم البندنيجي، وصاحب "الإبانة"؛ فحَكَيَا عن ابن سريج أنه يزول حكم الاستعمال. والشيخانِ أعْرَفُ من صاحب "الإبانة" وأتْقَنُ.. وكيف كان فالقولُ بأنه غيرُ طهورٍ ضعيفٌ.. قالوا: وهو أولى بالجواز من الماء النجس؛ لأن النجاسةَ أغْلَظُ] اهـ.
وقال سلطان العلماء العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (2/ 5، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [فإذا تنجَّس الماء القليل ثم بلغ قُلَّتين زالت نجاستُه؛ لزوال علتها، وهي القِلة، ولو تغير الكثير ثم أُزيل تغيره طهر؛ لزوال علة نجاسته، وهي التغير] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" (1/ 132، ط. دار الفكر): [(إذا أراد تطهير الماء النجس نظر: فإن كانت نجاسته بالتغيُّر وهو أكثرُ من قلتين طهر؛ بأن يزول التغير بنفسه، أو بأن يضاف إليه ماء آخر، أو بأن يؤخذ بعضه؛ لأن النجاسة بالتغير وقد زال) إذا زال تغيُّر الماء النجس وهو أكثرُ من قلَّتين نظر: إن زال بإضافة ماء آخر إليه طهر بلا خلاف، سواء كان الماء المضاف طاهرًا أو نجسًا، قليلًا أو كثيرًا، وسواء صب الماء عليه أو نبع عليه وإن زال بنفسه أي بأن لم يحدث فيه شيئًا بل زال تغيره بطلوع الشمس أو الريح أو مرور الزمان طهر أيضًا على المذهب وبه قطع الجمهور.. لأن سببَ النجاسة التغيُّر؛ فإذا زال طهر؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا بلغ الماء قُلَّتين لم ينجس»، وإن زال بأخْذ بعضه طهر بلا خلاف بشرط أن يكونَ الباقي بعد الأخذ قلتين] اهـ.
وقال في "المرجع السابق" (1/ 157): [لو كانت النجاسة ملاقية لكل جزء من الماء بأن كان متغيرًا، ففي هذه الحالة لا يزولُ حكمُ النجاسة ببلوغه قلتين مع بقاء التغير والله أعلم] اهـ. أي: أنه إذا بلغ القلتين وزال التغيُّر عاد إلى أصل طهوريته وإطلاقه.
وعلى ذلك: فإن ما يتم القيام به في زماننا في عملية تنقية مياه الصرف الصحي بمراحلها المختلفة، وما يستخدم من المواد التي يتم بها إزالة العوالقِ النجسة والروائحِ الكريهة، وكذلك ما يحدث من مرور المياه على أكثرَ من تصفية: هو السبب الذي يصير به الماء طاهرًا بناءً على ما قرَّره الفقهاء في قولهم بالتكثير؛ فالظاهر مِن كلام العلماء أن الماء كما يتنجس بما يغير طَعْمَهُ أو لَوْنَهُ أو رِيحَهُ من نجاسةٍ فإنه كذلك يطهر بزوال ما غيّره ابتداءً، ولكنهم لم يكن لديهم طريقة لإزالة ذلك إلا بالتكثير، ولو تحقَّق ذلك بطريقةٍ أخرى في زمانهم لحصلت طهارته بها؛ كما هي الحال في العصر الحديث مِن قطع العوالق النجسة مِن مياه الصرف الصحي، فزوال التغير وإزالة ما كان سببًا في النجاسة أبْلَغُ في التطهير من التكثير، وتنقية مياه الصرف الصحي بوسائلِ التنقية الحديثة تتمُّ بحيث لا يبقى للنجاسة أثرٌ في طعمه ولونه وريحه، فتجعل هذه المياه طاهرةً يصحُّ بها رَفْعُ الحدث وإزالةُ النجس.

الخلاصة

بناءً على ذلك: فمياه الصرف الصحي إذا تمَّت معالجتُها بالليزر، فإنها تعودُ إلى أصل طهارتها، ويصحُّ التطهر بها إذا زالت أوصاف التغير، لا سيما عند ضم بعضها إلى بعض أو خلطها بغيرها من الماء المطلق لتبلغ مقدار 270 لترًا تقريبًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة