ما صحة أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم جُعل في قبره الشريف قطيفةٌ حمراء؟ وإن صحَّ ذلك: فهل هي خصوصية للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، أم عامة تشمل كل الموتى؟
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلمٌ وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جُعِل في قبره قطيفةٌ حمراء كان قد أصابها يوم خيبر؛ طرحها تحت جسده الشريف مولاهُ شُقران رضي الله عنه.
وقد اختلف العلماء في حكم هذا الفعل في غير حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فمن العلماء من كره ذلك ورآه خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من رأى ذلك جائزًا؛ لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل. والأمر في ذلك يسير وفيه سعة؛ فلا يجوز الإنكار في أمور الخلاف، والصواب ترك الناس على ما اعتادوا؛ لأن في خلاف التنوع رحمة.
المحتويات
قد صح أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم جُعل في قبره الشريف قطيفةٌ حمراء؛ وذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جُعِلَ في قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطيفةٌ حمراء" أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح"، والترمذي والنسائي في "سننهما" وقال الترمذي: [حديث حسنٌ صحيحٌ]، وأخرجه كذلك ابن أبي شيبة في "المصنف"، وأبو داود الطيالسي والإمام أحمد والبزَّار في "مسانيدهم"، وابن حبَّان في "صحيحه"، والطبراني في معجميه "الأوسط" و"الكبير"، وأبو نُعيم في "حلية الأولياء"، والبيهقي في "السنن الكبرى".
وفي رواية ابن ماجه في "السنن": "وَكَانَ شُقْرَانُ مَوْلَاهُ أَخَذَ قَطِيفَةً كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَلْبَسُهَا، فَدَفَنَهَا فِي الْقَبْرِ، وَقَالَ: وَاللهِ لَا يَلْبَسُهَا أَحَدٌ بَعْدَكَ أَبَدًا، فَدُفِنَتْ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلَّمَ".
اختلف الفقهاء في حكم وضع الحصير أو الفراش أو نحوهما تحت جسد الميت أو رأسه على قولين:
فمنهم من كره ذلك ورآه خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ كالحنفية والمالكية وبعض العراقيين من الشافعية؛ كالقاضي أبي الطيب، والبندنيجي، وغيرهما، محتجِّين بعدم وروده عن السلف، وأجاز بعض فقهاء الشافعية وضع الفِراشَ تحت جنبي الميت في القبر؛ كالإمام البغوي، والقاضي البيضاوي؛ لأن الأصل عدم الخصوصية حتى يدل الدليل عليها؛ قال العلَّامة الطحطاوي الحنفي في "حاشيته على مراقي الفلاح" (ص: 608، ط. دار الكتب العلمية): [ويُكره أن يُوضَع تحت الميت في القبر مضرَّبة، أو مخدَّة، أو حصيرة، أو نحو ذلك] اهـ.
وقال العلَّامة الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (2/ 131، ط. دار الفكر): [ويكره جعل مضرَّبة تحته، أو مخدة تحت رأسه؛ لأنه لم ينقل عن السلف] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبيين" (2/ 135، ط. المكتب الإسلامي): [ولا يوضع تحت رأسه مخدة. ولا يفرش تحته فراش، حكى العراقيون كراهة ذلك عن نص الشافعي رحمه الله، وقال في "التهذيب": لا بأس به] اهـ.
وقال القاضي البيضاوي الشافعي في "تحفة الأبرار" (1/ 438، ط. أوقاف الكويت): [وفيه -أي: في الحديث السابق- دليل على جواز طرح الفُرُشِ في القبور، وقيل: هو مخصوص به فلا يحسن في حق غيره] اهـ.
وقال الإمام ابن الرِّفْعَة الشافعي في "كفاية النبيه" (5/ 141، ط. دار الكتب العلمية): [قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما من العراقيين: "ويُكره أن يُجْعَل تحت رأسه مخدة أو تحته مضرَّبة؛ لأنه لم ينقل ذلك عن أحد من السلف"، وقد نسب ابن الصبَّاغ ذلك إلى النص. وعبارة الإمام -إمام الحرمين الجويني- في "النهاية": "لا ينبغي أن يوضع على مخدة، أو مضرَّبة. وعبارة القاضي الحسين: "إنه لا تستحب المضربة والوسادة". وقال في "التهذيب": لا بأس به؛ إذ روى ابن عباس رضي الله عنهما: أنه جُعِلَ في قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطيفةٌ حمراء] اهـ.
وقال الإمام البغوي الشافعي في "التهذيب" (2/ 444، ط. دار الكتب العلمية): [ولا بأس أن يبسط تحت جنبه شيء؛ فإنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جُعِلَ في قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطيفةٌ حمراء] اهـ.
وقال الإمام الإسنوي الشافعي في "الهداية إلى أوهام الكفاية" (20/ 196، ط. دار الكتب العلمية): [وما اقتضاه نقله عن "التهذيب" من المخالفة في المخدة والمضرَّبة، سهوٌ أوقعه فيه الرافعي كما أوضحته في "المهمات"، فإن البغوي إنما ذكر ذلك في المضرَّبة خاصة، فإنه قال: ويجعل تحت رأسه لبنة، ولا بأس أن يبسط تحت جنبه شيء؛ هذه عبارته] اهـ.
كَرِهَ فقهاء الحنابلة وضع المخدة أو الحصير أو القماش المُضرَّب –كثير الخياطة- إذا كانت لغير عِلَّةٍ أو حاجةٍ، أمَّا لو كانت لعلَّة أو حاجة فنصَّ الإمام أحمد بن حنبل على أنَّه لا بأس به؛ قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المُغني" (2/ 372، ط. مكتبة القاهرة): [قال أحمد رحمه الله: ما أحب أن يجعل في القبر مُضَرَّبة ولا مخدَّة، وقد جُعِلَ في قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قطيفة حمراء، فإن جعلوا قطيفة: فلِعِلَّةٍ] اهـ.
وقال العلَّامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 373، ط. عالم الكتب): [(وتكره مِخدَّة) بكسر الميم، تُجْعَل تحت رأسه نَصَّ عليه؛ لأنه لم ينقل عن أحد من السلف، وغير لائق بالحال (والمنصوص: و) تكره (مُضرَّبةٌ وقطيفةٌ تحتَه)، قال أحمد: ما أحب أن يجعلوا في الأرض مُضرَّبة.. (ونصه) أي: الإمام (لا بأس بها) أي: المُضرَّبة أو القطيفة (من عِلَّةٍ)] اهـ.
والمقصود بالعلة في كلام الإمام أحمد: كون الأرض سبخة؛ فقد أخرج أبو داود في "المراسيل" عن الحسن البصري قال: "جُعِلَ فِي لحد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسلم قطيفة حَمْرَاء، أَصَابَهَا يَوْم خَيْبَر؛ لِأَن الْمَدِينَة أَرض سَبِخَة".
قال الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (10/ 382، ط. دار الكتب المصرية): [قلت: ومن هذا المعنى جَعْلُ القطيفة في قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن المدينة سَبِخَةٌ، قال شُقْرَان رضي الله عنه: "أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القبر". قال أبو عيسى الترمذي: حديث شقران رضي الله عنه حديث حسن صحيح غريب] اهـ.
قد ورد عن السلف ما يدل على أن بعض الموتى كانت توضع لهم الفرش في القبور أيضًا؛ مما يرد دعوى الخصوصية؛ فروى أبو داود في "السنن" عن بعضِ آلِ أُمِّ سَلَمة رضي الله عنها قال: كان فِراشُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوًا مِمَّا يُوضَعُ الإنسانُ في قَبره، وكان المسجدُ عندَ رأسِه". قال الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية": [مرسل حسن] اهـ.
قال المُلَّا علي القاري الحنفي في "مرقاة المفاتيح" (7/ 2980، ط. دار الفكر): [ولعلَّ العدول عن الماضي للمضارع: حكاية للحال، وفي رواية الجامع "مما يوضع للإنسان في قبره"، وهو واضح، وفيه إشعار بأنه كان يوضع فُرُشٌ لبعض الناس في قبرهم] اهـ.
بناءً على ذلك: فقد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه جُعِل في قبره قطيفةٌ حمراء؛ فمن العلماء من كره ذلك ورآه خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من رأى ذلك جائزًا؛ لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل.
والأمر في ذلك يسير وفيه سعة؛ فلا يجوز الإنكار في أمور الخلاف، والصواب ترك الناس على ما اعتادوا؛ لأن في خلاف التنوع رحمة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.