أحيانًا أدخل المسجد وقد اكتمل الصف أو الصفان خلف الإمام، فمن أين نبدأ بناء الصف الجديد؛ هل من الوسط أم اليمين؟
يستحب أن يبتدأ بالصفوف من خلف الإمام، ثم من على يمينه وشماله، حتى يتم الصف إلى الجانبين، بحيث يكون الإمام متوسطًا الصف.
المحتويات
السنة في حقِّ المأموم الواحد أن يقف عن يمين الإمام، ويتأخر عنه قليلًا بحيث يتميز الإمام من المأموم، وأن يُبتدأ بالصفوف من خلف الإمام ثم من على يمينه وشماله حتى يتم الصف إلى الجانبين، وإلى هذا ذهب جماهير العلماء.
واستدلوا بما جاء في "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ العِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، فَجِئْتُ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ".
وأخرج الإمام البخاري في "صحيحه" عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "صلَّيتُ أنا ويتيمٌ في بيتِنا خلْفَ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، وَأُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا". وفي لَفْظ: "وَصَفَفْتُ وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ".
وبما رواه أبو داود في "سننه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تَوَسَّطُوا الْإِمَامَ وَسُدُّوا الْخَلَلَ».
وعن جابر بن عبد لله رضي الله عنهما قال: "سِرْت مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ، فَقَامَ يُصَلِّي، ثُمَّ جِئْت حَتَّى قُمْت عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَجَاءَ ابْنُ صَخْرٍ حَتَّى قَامَ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ" رواه أبو داود.
قال الإمام الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلْبِيِّ" (1/ 136، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [(ويقف الواحد عن يمينه) أي عن يمين الإمام مساويًا له، وعن محمد رحمه الله أنه يضع إصبعه عند عقب الإمام، وهو الذي وقع عند العوام. ويكره أن يقف عن يساره؛ لما روينا، ولا يكره أن يقف خلفه في رواية، ويكره في أخرى، ومنشأ الخلاف قول محمد: إن صلى خلفه جازت، وكذا إن وقف عن يساره وهو مسيء، فمنهم من صرف قوله: وهو مسيء إلى الأخير، ومنهم من صرفه إلى الفعلين وهو الصحيح. والصبي في هذا كالبالغ حتى يقف عن يمينه، قال رحمه الله: (والاثنان خلفه) أي يقف الاثنان خلفه، يعني خلف الإمام] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار على الدر المختار" (1/ 568، ط. دار الفكر): [(قوله: ويقف وسطًا).. قال عليه الصلاة والسلام: «تَوَسَّطُوا الْإِمَامَ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ»، ومتى استوى جانباه يقوم عن يمين الإمام إن أمكنه، وإن وجد في الصف فُرجة سدها وإلا انتظر حتى يجيء آخر فيقفان خلفه، وإن لم يجئ حتى ركع الإمام؛ يختار أعلم الناس بهذه المسألة فيجذبه ويقفان خلفه] اهـ.
وقال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (2/ 261، ط. دار الغرب الإسلامي): [قال اللخمي: يبتدأ بالصفوف من خلف الإمام، ثم من على يمينه وشماله حتى يتم الصف، ولا يبتدأ بالثاني حتى يكمل الأول، ولا بالثالث قبل الثاني] اهـ.
وقال العلامة النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني" (1/ 211، ط. دار الفكر): [ثم شرع يتكلم على محل وقوف المأموم؛ لأنه من جملة أحكامه بقوله: (والرجل الواحد) ومثله الصبي الذي يعقل القربة إذا صلى واحدًا منهما (مع الإمام) يستحب له أن (يقوم) أي يصلي (عن) أي جهة (يمينه) ويندب له أن يتأخر عنه قليلًا بحيث يتميز الإمام من المأموم وتكره محاذاته.. (و) مفهوم الواحد أنه يستحب أن (يقوم) أي يصلي (الرجلان فأكثر خلفه)؛ لما في مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جابر بن صخر فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ بيدينا جميعًا فدفعنا حتى أقامنا خلفه"، ويؤخذ من هذا أنه لو كان واحد عن يمين الإمام أولا، ثم جاء آخر أنهما يتأخران خلف الإمام، ولا يؤمر الإمام بالتقدم أمامهما بل يستمر واقفًا وهما المأموران بالتأخر خلف الإمام] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (4/ 301، ط. دار الفكر): [ويستحب أن يوسطوا الإمام ويكشفوه من جانبيه] اهـ.
وقال أيضًا في (4/ 291): [أما أحكام الفصل ففيه مسائل (إحداها) السُّنة أن يقف المأموم الواحد عن يمين الإمام رجلًا كان أو صبيًّا، قال أصحابنا: ويستحب أن يتأخر عن مساواة الإمام قليلًا، فإن خالف ووقف عن يساره أو خلفه استحب له أن يتحول إلى يمينه، ويحترز عن أفعال تبطل الصلاة، فإن لم يتحول استحب للإمام أن يحوله لحديث ابن عباس، فإن استمر على اليسار أو خلفه كره وصحت صلاته عندنا بالاتفاق. (الثانية) إذا حضر إمام ومأمومان تقدم الإمام واصطفا خلفه سواء كانا رجلين أو صبيين أو رجلا وصبيا، هذا مذهبنا ومذهب العلماء] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي في "المغني" (2/ 161، ط. مكتبة القاهرة): [ويستحب أن يقف الإمام في مقابلة وسط الصف؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَسِّطُوا الْإِمَامَ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ»] اهـ.
وقال في (2/ 157): [فصل: وإذا كان المأموم واحدًا ذكرا، فالسنة أن يقف عن يمين الإمام، رجلًا كان أو غلامًا؛ لحديث ابن عباس وأنس، وروى جابر بن عبد الله، قال: "سِرْت مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ، فَقَامَ يُصَلِّي، فَتَوَضَّأْتُ، ثُمَّ جِئْتُ حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَجَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ حَتَّى قَامَ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَنَا بِيَدَيْهِ جَمِيعًا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ" رواه مسلم وأبو داود. فإن كانوا ثلاثة تقدم الإمام، ووقف المأمومان خلفه. وهذا قول عمر، وعلي، وجابر بن زيد، والحسن، وعطاء، والشافعي، وأصحاب الرأي] اهـ.
روي عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن الاثنين يقفان عن يمين الإمام وعن شماله؛ حيث روى الإمام أحمد في "مسنده" عن الْأَسْوَدِ بن يزيد رضي الله عنه قال: "دَخَلْتُ أَنَا وَعَمِّي عَلْقَمَةُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ بِالْهَاجِرَةِ، قَالَ: فَأَقَامَ الظُّهْرَ لِيُصَلِّيَ فَقُمْنَا خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِي وَيَدِ عَمِّي، ثُمَّ جَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ، فَصَفَّنَا صَفًّا وَاحِدًا، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَصْنَعُ إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً".
وهو غير معارض لما قرره جمهور الفقهاء؛ حيث أجابوا عن فعل ابن مسعود رضي الله عنه بأنه كان لضيق المكان، أو لبيان الإباحة، وما رواه الجمهور دليل الاستحباب والأولوية؛ قال الإمام الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلْبِيِّ" (1/ 136): [وفعل عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه كان لضيق المكان، كذا قال إبراهيم النخعي وهو أعلم الناس بمذهب ابن مسعود، ورفعه ضعيف أيضًا، والصحيح أنه موقوف عليه، قاله النووي، ولئن صح فهو محمولٌ على بيان الإباحة، وما رويناه دليل الاستحباب والأولوية] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي في "فتح الباري شرح صحيح البخاري" (2/ 212، ط. دار المعرفة): [السنة في موقف الاثنين أن يُصَفَّا خلف الإمام، خِلافًا لمن قال من الكوفيين: إن أحدهما يقف عن يمينه والآخر عن يساره، وحجتهم في ذلك حديث ابن مسعود الذي أخرجه أبو داود وغيره عنه أنه أقام علقمة عن يمينه، والأسود عن شماله، وأجاب عنه ابن سيرين بأن ذلك كان لضيق المكان، رواه الطحاوي] اهـ.
بناءً على ذلك: فجمهور الفقهاء على أن السنة أن يقف المأموم الواحد عن يمين الإمام، وأن يتأخر عنه قليلًا بحيث يتميز الإمام من المأموم، وأن يبتدأ بالصفوف من خلف الإمام، ثم من على يمينه وشماله، حتى يتم الصف إلى الجانبين، ويكون الإمام متوسطًا الصف.
والله سبحانه وتعالى أعلم.