ما مدى صحة القول بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حي في قبره؟ حيث قد قام نزاع بين المشايخ؛ فبعضهم يؤيد مستندًا إلى ما قرأه، وبعضهم ينكر ذلك بحجة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد مات وهو كباقي البشر لا يتوضؤون ولا يصلون في قبورهم.
نحن معشر المسلمين نؤمن بأن النبي محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم حَيٌّ يرزق في قبره، وأن جسده الشريف لا تأكله الأرض، والإجماع على هذا، وهذه الحياة الثابتة للنبي محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء والشهداء حياةٌ برزخيةٌ لا يعلم حقيقتها إلا الله، ولا ينبغي الخوض في معرفة حقيقتها.
المحتويات
إن الأنبياء أحياء في قبورهم قطعًا وهم أولى بذلك من الشهداء الذين ورد فيهم النص القرآني في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169-171].
بل الحياة ثابتة لجميع من فارق الدنيا ولو كفارًا كما يدل عليه حديث أهل القليب المروي في البخاري، وجاء في "الصحيح" أيضًا أن الميت بعد دفنه يسمع قرع نعال المشيعين، وأن الروح تنادي حامل الجنازة، وأنه يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه لصعق، وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء والمعراج موسى عليه السلام يصلي في قبره، كما رآه في السماء السادسة، وقد راجعه مرارًا في أمر الصلاة وقابل الأنبياء الآخرين في السماوات بعد أن صلى بهم إمامًا في بيت المقدس، وقد وضع البيهقي رسالة في حياة الأنبياء، وللسيوطي أيضًا رسالة تسمى "أنباء الأذكياء بحياة الأنبياء".
حياة الأنبياء في قبورهم ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع العلماء:
أما الكتاب: فقد ذكر القرآن الكريم نصوصًا عديدة في حياة الشهداء، والإجماع على أن الأنبياء أرفع درجة من الشهداء؛ قال الإمام ابن حزم في "المحلى" (1/ 45، ط. دار الفكر، بيروت) -بعد ذكره الآيات الواردة في حياة الشهداء- ما نصه: [ولا خلاف بين المسلمين في أن الأنبياء عليهم السلام أرفع قدرًا ودرجةً وأتم فضيلةً عند الله عز وجل وأعلى كرامةً مِن كل مَن دونهم، ومَن خالف في هذا ليس مسلمًا] اهـ.
وأما السنة: ففيها من الأدلة على حياتهم؛ فمن ذلك الحديث: «الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ» رواه أبو يعلى من وجه، والبيهقي من طرق متعددة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال الإمام المناوي في "شرح الجامع الصغير": رجاله ثقات، وصححه البيهقي اهـ. ومثل ذلك للحافظ السخاوي في "القول البديع"، ثم له طرق أخرى أخرجها البيهقي في حياة الأنبياء وبها يصير من الصحيح المتفق عليه، ومنها حديث الإسراء، وقد نص كثير من الأئمة والحفاظ -كالقرطبي في "التذكرة،" وابن القيم في كتاب "الروح"، والحافظ السيوطي في غير ما كتابٍ مِن كُتُبِهِ- على أن أحاديث حياة الأنبياء في قبورهم متواترة.
قال الحافظ السيوطي في "الحاوي للفتاوى": "وتواترت بها الأخبار"، وقال في "إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء" ما نصه: [حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قبره هو وسائر الأنبياء معلومةٌ عندنا علمًا قطعيًّا؛ لما قام عندنا من الأدلة في ذلك وتواترت به الأخبار الدالة على ذلك] اهـ.
وقال الإمام ابن القيم في كتابه "الروح" (1/ 36، ط. دار الكتب العلمية) نقلًا عن أبي عبد الله القرطبي: [صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء خصوصًا بموسى عليه السلام، وقد أخبره بأنه ما من مسلم يسلم عليه إلا رد عليه السلام، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجعٌ إلى أنهم غُيِّبُوا عنا بحيث لا نراهم وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة؛ فإنهم أحياءٌ وموجودون ولا نراهم] اهـ.
ويؤيد هذا قول الأئمة العلماء: إن الموت ليس بعدمٍ محضٍ، وإنما هو انتقالٌ من حالٍ إلى حالٍ، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد موتهم وقتلهم أحياءٌ عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا في غير الأنبياء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى، ويحقق ما ذكره هؤلاء الأئمة من تواتر الأحاديث الدالة على حياة الأنبياء تواترًا معنويًا أن حديث عرض الأعمال عليه صلى الله عليه وآله وسلم واستغفاره لأمته وسلامه على من يسلم عليه وَرَدَ من نحو عشرين طريقًا، وحديث الإسراء وَرَدَ من طريق خمسةٍ وأربعين صحابيًّا، وقد نص الحاكم والحافظ السيوطي على أن حديث الإسراء متواترٌ؛ قال بعضهم: لا شك أنه يؤخذ من هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم حَيٌّ في قبره، وذلك أنه محالٌ عادةً أن يخلو الوجود كله من واحدٍ يُسَلِّم عليه في ليلٍ أو نهار.
وبعد، فنحن نؤمن بأن النبي محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم حَيٌّ يرزق في قبره، وأن جسده الشريف لا تأكله الأرض، والإجماع على هذا، وهذه الحياة الثابتة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء والشهداء حياةٌ برزخيةٌ لا يعلم حقيقتها إلا الله، ولا ينبغي الخوض في معرفة حقيقتها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.