ما هي هيئة تكفين المُحرم بالنسبة للرجل والمرأة؟
يرى جمهور الفقهاء أنَّ من مات مُحرمًا لا تُخمَّر رأسُه إن كان رجلًا ولا وجهُها إن كانت امرأة، ولا يلبس المخيط، ولا يقرب طيبًا في بدنه أو ثيابه، ولا يؤخذُ شيء من شعره ولا ظفره، ويُغسل بماء وسدر، ويُكفَّن في ثوبين؛ إظهارًا لشعار الإحرام في بدنه وأنه لم ينقطع بموته، واحترامًا لكريم هيئته التي مات عليها؛ حيث يُبعث يوم القيامة مُلبيًا. ومن الفقهاء من سوَّوا بين المحرم وغيره، وجعلوا نصوص التكفين على عمومها، وحملوا حديث الذي مات محرمًا على الخصوصية. وعليه: فالأمر في ذلك واسعٌ؛ لا ينبغي التضييق أو الخلاف والنزاع فيه؛ فإنه لا إنكار في مسائل الخلاف التي وَسِعَ السلفَ الخلافُ فيها.
المحتويات
التكفين: التغطية والستر، والكفن: ما يُغَطَّى ويُستَر به بدنُ الميت؛ قال الإمام الأزهري في "تهذيب اللغة" (10/ 154، ط. دار إحياء التراث العربي): [ثعلب عن ابن الأعرابي: الكَفْنُ: التَّغْطِيَةُ. قلت: وَمِنْه أُخذ كَفَنُ الميِّتِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتُرُه] اهـ.
وقد اتفق الفقهاء على أنَّ تكفين الإنسان وستره عند موته من فروض الكفايات، وأنَّه حقٌّ واجبٌ على الأحياء؛ لأنَّ حرمة الإنسان ميتًا كحرمته حيًّا، والسُترة واجبة في الحياة، فكذلك بعد الموت؛ قال الإمام ابن قُدامة الحنبلي في "المُغني" (2/ 388، ط. مكتبة القاهرة): [ويجب كفن الميت؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر به، ولأنَّ سترته واجبة في الحياة، فكذلك بعد الموت] اهـ.
قد ورد الشرع بخصوصية بعض الأحوال الشريفة التي يموت عليها الميت؛ كمن يموت شهيدًا؛ فقد أَمر الشرع بتكفينه في ثيابه؛ تكريمًا له وتشريفًا لعمله؛ فعن عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أمر أن يُدفن شهداء أُحد بدمائهم وثيابهم، أخرجه أحمد في "المُسند"، وأبو داود وابن ماجه في "سننهما"، والبيهقي في "السنن الكبرى، و"الصغرى". قال الإمام ابن قُدامة في "المُغني" (2/ 396): [أما دفنه بثيابه: فلا نعلم فيه خلافًا، وهو ثابت بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ادْفِنُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ»] اهـ.
وورد مثل ذلك أيضًا فيمن مات محرمًا؛ فعن عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما قال: بينا رجل واقفٌ مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعرفة، إذ وقع عن راحلته، فوقصته، أو قال: فأوقصته، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تَمَسُّوهُ طِيبًا، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، فَإِنَّ اللهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا» متفقٌ عليه.
وبعموم هذا الحديث قال جماعة من فقهاء السلف؛ كسيدنا علي وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، وأهل الظاهر، وعطاء، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، وحُكِي في ذلك الاتفاق بين الفقهاء؛ وعللوه بأن مراد الشرع إظهارُ شعيرة الإحرام وتشريف مَن مات عليها وإدامة أثر هذه الشعيرة في بدنه؛ لأنَّه مات مشغولًا بها، فيجري عليه ما يجري على المُحرم الحي: فيُغسل بماءٍ وسدر، ويُكَفَّن في ثوبين، ويُجَنَّب الطيب ولبس المخيط، ولا يؤخذ شيءٌ من شعرهِ ولا ظفرهِ، ولا تُغطَّى رأسه إن كان رجلًا، ولا وجهها إن كانت امرأة؛ لأنَّ إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها.
بينما ذهب الحنفية والمالكية إلى أنَّ المُحرم وغير المُحرم سواء في هيئة التكفين؛ لأنَّ تكليف الإنسان ينقطع بموته، والإحرام عبادة بطلت بالموت، وهذا مروي عن السيدة عائشة وابن عمر رضي الله عنهم، وقول طاوس والحسن البصري والأوزاعي، مُستدلين بعموم الأحاديث التي تأمر بستر رأس الميت ووجهه؛ كحديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خَمِّرُوا وُجُوهَ مَوْتَاكُمْ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» رواه الدارقطني والبيهقي في "السنن"، وحملوا حديث من مات محرمًا على الخصوصية، وأنه واقعة عين لا عموم لها.
قال الإمام الموفق بن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 400، ط. مكتبة القاهرة): [(والمحرم يُغسل بماء وسدر، ولا يُقرَّب طِيبًا، ويُكفَّن في ثوبيه، ولا يُغطَّى رأسُه، ولا رجلاه) إنما كان كذلك: لأن المحرم لا يبطل حكم إحرامه بموته؛ فلذلك جُنِّبَ ما يُجَنَّبُه المحرمُ من الطيب، وتغطية الرأس، ولبس المخيط، وقطع الشعر، رُوِي ذلك عن عثمان، وعلي، وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال عطاء، والثوري، والشافعي، وإسحاق. وقال مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة: يبطل إحرامه بالموت، ويُصنَع به كما يُصنَع بالحلال، ورُوي ذلك عن عائشة، وابن عمر رضي الله عنهم، وطاوس؛ لأنها عبادة شرعية، فبطلت بالموت، كالصلاة والصيام] اهـ.
فأما النقل عن الشافعية والحنابلة في كشف رأس المحرم:
فقال إمام الحرمين الجويني في "نهاية المطلب" (3/ 16، ط. دار المنهاج): [من مات مُحْرِمًا يجب حتمًا إدامةُ شعار الإحرام في بدنه، فلا يجوز أن يُقرَّب طيبًا، ولا يخمّرَ رأسُه إن كان رجلًا، ووجهها إن كانت امرأة] اهـ.
وقال الإمام ابن أبي الخير العمراني الشافعي في "البيان" (3/ 48، ط. دار المنهاج): [إذا مات المحرم: لم ينقطع إحرامه بموته؛ فلا يلبس المخيط، ولا يخمر رأسه، ولا يقرب طيبًا في بدنه، ولا في ثيابه، ولا يجعل الكافور في الماء الذي يغسل به. هذا مذهبنا، وبه قال من الصحابة: عثمان، وعلي، وابن عباس رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن التابعين: عطاء، ومن الفقهاء: الثوري، وأحمد، وإسحاق] اهـ.
وقال العلَّامة منصور البُهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 351، ط. عالم الكتب): [(ومحرمٌ) بحج أو عمرة (ميتٌ كـ) محرم (حي) فيما يمنع منه: (يغسل بماء وسدر) لا كافور، (ولا يقرب طيبًا) مطلقًا، ولا فدية على من طَيَّبَهُ ونحوَهُ، (ولا يلبس ذكرٌ المخيط) نحو قميصٍ، (ولا يغطى رأسه) أي: المحرم الذكر، (ولا) يغطى (وجه أنثى) محرمة، ولا يؤخذ شيء من شعره ولا ظفره لحديث ابن عباس رضي الله عنهما] اهـ.
وأما نقل الاتفاق على ذلك؛ فقال الإمام العارف عبد الوهاب الشعراني في كتابه "الميزان الكبرى" (1/ 182، ط. الميمنية 1306هـ): [واتفقوا على أن المحرِم لا يُطيَّبُ ولا يُلبَس المخيطَ، ولا يُخَمَّر رأسُه، إلا في رواية لأبي حنيفة: أن إحرامه يبطل بموته؛ فيُفعَل به ما يُفعَل بجميع الموتى] اهـ.
وأما النقل عن الحنفية والمالكية في تغطية رأس المحرم:
فقال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (2/ 53، ط. دار المعرفة): [ويصنع بالمحرم ما يصنع بالحلال يعني يخمر رأسه ووجهه بالكفن عندنا ..ولنا: حديث عطاء أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُئل عن مُحْرِمٍ مَاتَ فَقَالَ: «خَمِّرُوا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ، وَلَا تُشْبِهُوهُ بِالْيَهُودِ». وسئلت عائشة رضي الله عنها عن ذلك فقالت: "اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم". وإنَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما مات ابنه واقد وهو مُحرِمٌ: كَفَّنَهُ وَعَمَّمَهُ وَحَنَّكَهُ وقال: "لولا أنا محرمون لحنَّطناك يا واقد".
ولأنَّ إحرامه قد انقطع بموته، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث»، والإحرام ليس منها فينقطع بالموت؛ ولهذا لا يبني المأمور بالحج على إحرامه والتحق بالحلال، وإذا جاز أن يُخَمِّرَ رأسَه ووجهه باللبن والتراب فكذلك بالكفن. وحديث الأعرابي تأويله: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرف بطريق الوحي خصوصيته ببقاء إحرامِه بعد موتِهِ، وقد كانَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخصُّ بعض أصحابه بأشياء] اهـ.
وقال الإمام الحافظ ابن عبد البر المالكي في "الكافي في فقه أهل المدينة" (1/ 282، ط. مكتبة الرياض): [المحرم إذا مات وغير المحرم سواء في غسله وكفنه عند مالك وأكثر أهل المدينة؛ يخمر رأسه ووجهه] اهـ.
وقال الإمام المازري المالكي في "التلقين" (1/ 1142، ط. دار الغرب الإسلامي): [مذهبنا ومذهب أبي حنيفة والأوزاعي: أنَّ الموت يقطع حكم الإحرام فيخمر رأس الميت ويطيب، وبه قال ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما] اهـ.
بناءً على ذلك: فجمهور الفقهاء على أنَّ من مات مُحرمًا لا تُخمَّر رأسُه إن كان رجلًا ولا وجهُها إن كانت امرأة، ولا يلبس المخيط، ولا يقرب طيبًا في بدنه أو ثيابه، ولا يؤخذُ شيءٌ من شعره ولا ظفره، ويُغسل بماء وسدر، ويُكفَّن في ثوبين؛ إظهارًا لشعار الإحرام في بدنه وأنه لم ينقطع بموته، واحترامًا لكريم هيئته التي مات عليها؛ حيث يُبعث يوم القيامة مُلبيًا.
ومن الفقهاء من سوَّوا بين المحرم وغيره، وجعلوا نصوص التكفين على عمومها، وحملوا حديث الذي مات محرمًا على الخصوصية.
والأمر في ذلك واسعٌ؛ لا ينبغي التضييق أو الخلاف والنزاع فيه؛ فإنه لا إنكار في مسائل الخلاف التي وَسِعَ السلفَ الخلافُ فيها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.