حكم التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين وطلب المدد منهم

  • المفتى: أمانة الفتوى
  • تاريخ الصدور: 13 مارس 2018
  • رقم الفتوى: 4334

السؤال

هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبأولياء الله الصالحين؟ وهل التوسل يكون بالجاه أو بالذات؟
وما قول فضيلتكم في حديث استسقاء سيدنا عمر بسيدنا العبَّاس رضي الله عنهما: أهو من التوسل بالذات أم بالدعاء؟
وهل يجوز المسح على القبر، والسجود أمامه من باب التعظيم؟
وقولنا: مدد يا فلان؛ كقولنا: مدد يا حسين، أو مدد يا رسول الله، هل هذا القول إن صدر من عامّي لا يعرف معناه بناءً على قولٍ مِن شيخٍ يأثم الشيخ؟
أُريد من فضيلتكم قولًا شافيًا حول هذا الموضوع، حيث إنني طالب أزهري يُلقِي عليَّ بعضُ زملائي هذه الأشياء، مع العلم أنَّ هؤلاء من المتشددين الذين يكفرون من يفعل ذلك، وأُريد من فضيلتكم ردًّا قاطعًا عليهم. حفظكم الله ورعاكم، وعلى طريق الخير سدَّد خُطاكم.

الجواب

المحتويات

التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبأولياء الله الصالحين

التَّوَسُّل: تَفَعُّلٌ من الوسيلة، والوسيلة في الأصل: ما يُتَوَصَّلُ به إلى الشيء ويُتَقَرَّبُ به، كما قال العلامة ابن الأثير في "النهاية" (5/ 185، ط. المكتبة العلمية).

وقضية حياة المسلم هي أن يتقرب إلى الله ويحصل رضاه وثوابه، ومن رحمة الله بنا أن شرع لنا العبادات وفتح باب القربة إليه، ليتقرب المسلم إلى الله بشتى أنواع القربات التي شرعها الله عز وجل، والقرآن كله يأمرنا بالوسيلة إلى الله، أي بالتقرب إليه سبحانه.

وقد أجمع المسلمون أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الوسيلة العظمى، واتفقت الأمة على التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم من غير خلاف من أحد يُعتَدُّ به.

وجاءت النصوص والأدلة المتكاثرة من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة بمشروعية التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك حاصل قبل مولده، وفي حياته الدنيوية، وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى ذلك اتفقت المذاهب الأربعة:

فمن الكتاب:

- قوله تعالى يخبر عن حال أهل الكتاب قبل مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: 89].
أخرج الإمام الطبري في "جامع البيان" عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يقول: "يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وآله وسلم على مشركي العرب -يعني بذلك أهل الكتاب- فلما بعث الله محمدًا صلى الله وآله عليه وسلم ورأوه من غيرهم، كفروا به وحسدوه".
وأخرجه الآجري في "الشريعة"، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "دلائل النبوة" من طريق آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: "كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت اليهود فعاذت اليهود بهذا الدعاء، فقالوا: اللهم نسألك بحق محمد النبي الأمي، الذي وعدتنا أنك تخرجه لنا في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بُعِث النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم كفروا به، فأنزل الله: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ﴾ بك يا محمد على الكافرين".

- وقوله تعالى: ﴿ولو أَنَّهم إذ ظَلَمُوا أَنفُسَهم جاءوكَ فاستَغفَرُوا اللهَ واستَغفَرَ لهم الرسولُ لوَجَدُوا اللهَ تَوّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64].

وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم؛ فروى ابن جرير وابن المنذر في "التفسير"، والطبراني في "المعجم الكبير"، والحاكم في "المستدرك" وصححه، والبيهقي في "الشعب" عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إنّ في النساء لخمسَ آياتٍ ما يَسُرُّني بهن الدنيا وما فيها، وقد علمتُ أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها.. فذكر منها قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾. قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 12، ط. مكتبة القدسي): [رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح] اهـ.
فقد فهم سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه العمومَ من الآية؛ حيث حَدَّث بذلك التابعين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
بل ورد ما يدل صراحةً على أن هذه الآية عامة لكل المسلمين وجميع الأمة:
فقد رواها معاوية بن قرة، عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: "خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا" أخرجها الكلاباذي في "بحر الفوائد"، واللالكائي في "شرح السنة"، والتيمي في "الحجة".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت" أخرجه ابن جرير والثعلبي في "التفسير"، والبيهقي" في "شعب الإيمان".
وأما الأدلة من السنة النبوية المطهرة:
- فحديث الأعمى الذي علَّمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّد إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ، اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ» رواه الترمذي وابن ماجه والنسائي وصححه جمع من الحفاظ، وفي بعض رواياته أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «وَإِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فَمِثْل ذَلِكَ»، وعند الطبراني وغيره أنَّ راوي الحديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه علَّم هذا الدعاء لمن طلب منه التوسط له في حاجة عند عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته، وفي ذلك طلب صريح للمدد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
- وحديث الخروج إلى المسجد للصلاة: فعن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قَالَ حِينَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ؛ فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سُخْطِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُنْقِذَنِي مِنَ النَّارِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَكَّلَ اللهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَأَقْبَلَ اللهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ» رواه أحمد وابن ماجه وابن خزيمة، وهو حديثٌ صحيحٌ؛ أشار إلى صحته الحافظ ابن خزيمة عندما استدل به في العقائد؛ قال الحافظ البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 98، ط. دار العربية): [رواه ابن خزيمة في "صحيحه" من طريق فضيل بن مرزوق؛ فهو صحيح عنده] اهـ.
كما قوّاه الحافظ البغوي في "مسند ابن الجعد" (ص: 302، ط. مؤسسة نادر)؛ حيث ساقه وغيره من الأحاديث من طريق عطية العوفي، ثم أسند إلى الإمام ابن معين قوله فيه: "صالح"، وهذه قرينة تدل على قبوله له، وقوّاه الحافظُ ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (2/ 274، ط. مكتبة الرشد)؛ فقال: [ومثل هذا لا يدرك بالرأي، ولا يكون إلا عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ، والحافظُ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي فيما نقله عنه تلميذه الإمام المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 305، ط. دار الكتب العلمية)، والحافظ الدمياطي في "المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح" (ص: 641-642، رقم 1321، ط. النهضة الحديثة)، والحافظ العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (ص: 384، ط. دار ابن حزم)، وأقره المرتضى الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" (5/ 89، ط. مؤسسة التاريخ العربي)، كما حسَّنه أيضًا الحافظ ابن حجر العسقلاني في "نتائج الأفكار" (1/ 268، ط. دار ابن كثير)، وحسنه الحافظ السيوطي في "تحفة الأبرار بنكت الأذكار" (ص: 9).
وقد أجاب الحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 267، ط. دار ابن كثير) عن تضعيف الحديث بعطية العوفي فقال: [ضَعْفُ عطيةَ إنما جاء مِن قِبَل التشيع، ومِن قِبَل التدليس، وهو في نفسه صدوق، وقد أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأخرج له أبو داود عدة أحاديث ساكتًا عليها، وحسَّن له الترمذي عدة أحاديث؛ بعضها من أفراده] اهـ.
والسائلون لله تعالى الذين توسل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بحقهم هم أعمُّ من أن يكونوا أحياءً أو منتقلين، وهذا يدل على جواز التوسل بالمخلوق سواء أكان حيًّا أو مُتَوَفًّى، كما أن في التوسل بالعمل الصالح (وهو المشي إلى الصلاة) دليلًا آخر على جواز التوسل إلى الله في الدعاء بالمخلوق، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعظم المخلوقين قدرًا وأعلاهم شأنًا، فالتوسل به أَوْلَى.

- وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند موت فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنهما، وهو حديث طويل، وفي آخره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، اغْفِرْ لِأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ ولَقِّنْهَا حُجَّتَهَا وَوَسِّعْ عَلَيْهَا مُدْخَلَهَا بِحَقِّ نَبِيِّكَ وَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِي، فَإِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» رواه الطبراني في "الأوسط" (1/ 67، ط. دار الحرمين)، و"الكبير" (24/ 351)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 121، ط. السعادة)، وغيرهما. قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 257): [رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح، وثقه ابن حبان والحاكم، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح] اهـ.

- وفي التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم قبل مولده: ما أخرجه الحافظ أبو الحسين بن بشران -كما ذكر ابن ناصر الدين في "جامع الآثار" (1/ 469، ط. قطر)- ومن طريقه الحافظ ابن الجوزي في "الوفا بفضائل المصطفى" -كما ذكر ابن تيمية في "الفتاوى" (2/ 159)- عن ميسرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيًّا؟ قال: «لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْأَرْضَ وَاسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَخَلَقَ الْعَرْشَ كَتَبَ عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَخَلَقَ اللهُ الْجَنَّةَ الَّتِي أَسْكَنَهَا آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَكَتَبَ اسْمِي عَلَى الْأَبْوَابِ وَالْأَوْرَاقِ وَالْقِبَابِ وَالْخِيَامِ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، فَلَمَّا أَحْيَاهُ اللهُ تَعَالَى نَظَرَ إلَى الْعَرْشِ فَرَأَى اسْمِي فَأَخْبَرَهُ اللهُ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِك، فَلَمَّا غَرَّهُمَا الشَّيْطَانُ تَابَا وَاسْتَشْفَعَا بِاسْمِي إلَيْهِ»، وإسناده جيد لا بأس به؛ كما قال الحافظ الصالحي في "سبل الهدى والرشاد" (1/ 86، ط. دار الكتب العلمية)، وقوَّى إسنادَه الحافظُ عبد الله الغُماري في "الرد المحكم المتين" (ص: 138).

وكما جرى العمل على ذلك منذ بدء الخليقة قبل مولده صلى الله عليه وآله وسلم فعلى ذلك أيضًا جرى عمل الصحابة والسلف الصالح من بعده:
- فروى الأئمةُ آباءُ بكرٍ: ابنُ أبي شيبة في "المصنف" (6/ 356، ط. مكتبة الرشد)، وابنُ أبي خيثمة -كما في "الإصابة في تمييز الصحابة" (6/ 216، ط. دار الكتب العلمية)-، والبيهقيُّ في "دلائل النبوة" (7/ 47، ط. دار الكتب العلمية)، وأبو يعلى الخليلي في "الإرشاد" (1/ 313-314، ط. مكتبة الرشد)، من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار -وكان خازن عمر- قال: أصاب الناس قحط في زمن سيدنا عمر رضي الله عنه، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقال: «ائْتِ عُمَرَ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُ أَنَّكُمْ مُسْقَوْنَ، وَقُلْ لَهُ: عَلَيْكَ الْكَيْسَ»، قال: فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى سيدنا عمر رضي الله عنه وقال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه. وهذا حديث صحيح؛ صححه الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (7/ 91-92، ط. دار الفكر)، وصححه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 495، ط. دار المعرفة).
- وروى الإمام أبو محمد الدارمي في "سننه" عن أبي الجوزاء أوس بن مالك، قال: قحط أهل المدينة قحطًا شديدًا، فشكَوْا إلى السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت: "انظروا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فاجعلوا منه كُوًى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف"، قال: ففعلوا، فمُطِرْنا مطرًا حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسُمِّيَ عامَ الفَتْق.
ولكل هذه الأدلة الصريحة من كتاب ربنا سبحانه وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أجمع علماء الأمة من المذاهب الأربعة وغيرها على استحباب التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، صلى الله عليه وآله وسلم، واتفقوا على أن ذلك مشروع قطعًا ولا حرمة فيه، وأنه أحد صيغ الدعاء إلى الله عز وجل المندوب إليها، ولا عبرة بمن شذ عن إجماع العلماء.
يقول الإمام المجتهد بقية السلف تقي الدين السبكي في كتابه "شفاء السقام" (ص: 119، ط. دائرة المعارف النظامية): [اعْلَمْ أنه يجوز ويَحسُنُ التوسلُ والاستغاثة والتشفعُ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، وجوازُ ذلك وحسنُه من الأمور المعلومة لكلِّ ذي دِين، المعروفةِ مِن فعل الأنبياء والمرسلين، وسِيَر السلف الصالحين، والعلماء والعوامِّ من المسلمين، ولم يُنكِر أحدٌ ذلك مِن أهل الأديان، ولا سُمِع به في زمنٍ مِن الأزمان، حتى جاء ابنُ تيمية؛ فتكلَّم في ذلك بكلام يُلَبِّسُ فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يُسبَقْ إليه في سائر الأعصار] اهـ.
ويقول الإمام تقي الدين الحصني الشافعي في كتابه "دفع شُبَهِ مَن شبَّه وتمرَّد" (ص: 436-437، ط. دار المصطفى): [والمراد أن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واللواذ بقبره مع الاستغاثة به كثير على اختلاف الحاجات، وقد عقد الأئمة لذلك بابًا، وقالوا: إن استغاثةَ مَن لاذ بقبره وشكى إليه فقره وضره توجب كشف ذلك الضر بإذن الله تعالى] اهـ.
ويقول الإمام القسطلاني في "المواهب اللدنية" (3/ 606، ط. المكتبة التوفيقية): [وأما التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته في البرزخ: فهو أكثر من أن يُحصَى، أو يُدرَك باستقصاء] اهـ.
وكذلك الحال في التوسل بالأنبياء والمرسلين، وبالأولياء والصالحين من آل البيت وغيرهم، وبالملائكة المقربين، هو مشروع بالكتاب والسنة وعمل الأمة سلفًا وخلفًا، ولا حرمة فيه، ومما ورد فيه من الأدلة:
- قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ [الكهف: 21].
قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (21/ 447، ط. دار إحياء التراث العربي) في تفسير قوله تعالى: ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾: [نعبد الله فيه، ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد] اهـ.
وقال العلامة الشهاب الخفاجي في "حاشيته على تفسير البيضاوي": [في هذه دليلٌ على اتخاذ المساجد على قبور الصالحين] اهـ.
- حديث «أعينوا عباد الله»؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ للهِ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ سِوَى الْحَفَظَةِ يَكْتُبُونَ مَا سَقَطَ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ، فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ بِأَرْضٍ فَلاةٍ فَلْيُنَادِ: أَعِينُوا عِبَادَ اللهِ» رواه البزار في "مسنده" (11/ 181). قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 132): [رواه البزار، ورجاله ثقات] اهـ.
ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (6/ 91)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1/ 325، ط. مكتبة الرشد)، و"الآداب" (ص: 269، ط. مؤسسة الكتب الثقافية) موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: [هذا موقوفٌ على ابن عباس رضي الله عنهما، مستعملٌ عند الصالحين من أهل العلم؛ لوجود صِدقِهِ عندهم فيما جرَّبوا] اهـ.
وكذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَلْيُنَادِ: يَا عِبَادَ اللهِ، احْبِسُوا عَلَيَّ، يَا عِبَادَ اللهِ احْبِسُوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ للهِ فِي الْأَرْضِ حَاضِرًا سَيَحْبِسُهُ عَلَيْكُمْ» أخرجه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (9/ 177، ط. دار المأمون للتراث)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10/ 217)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص: 455، ط. دار القبلة).
وحديث عُتبة بن غُزْوان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا أَضَلَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ أَحَدُكُمْ عَوْنًا وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ، فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللهِ أَغِيثُونِي، يَا عِبَادَ اللهِ أَغِيثُونِي، فَإِنَّ للهِ عِبَادًا لا نَرَاهُمْ» أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" وقال عقب روايته: وَقَدْ جرّبَ ذَلِكَ.
وفي الحديث دليل على الاستعانة بمخلوقات لا نراها، يجعلها الله عز وجل سببًا في عوننا ونتوسل بها إلى ربنا في تحقيق المراد سواء أكانوا أحياء لا نراهم؛ كالملائكة عليهم السلام، أو منتقلين عن دنيانا؛ كأرواح الأنبياء والأولياء والصالحين.
وممن فعل ذلك: إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، والإمام النووي، ونقله عن بعض أشياخه؛ فأخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في "مسائل الإمام أحمد" (ص: 245، ط. المكتب الإسلامي)، والبيهقيُّ في "شعب الإيمان" (10/ 141، ط. مكتبة الرشد) عن الإمام أحمد بن حنبل قال: "حججت خمس حجج؛ اثنتين راكبًا، وثلاثًا ماشيًا، أو ثلاثًا راكبًا، واثنتين ماشيًا، فضللت الطريق في حجة، وكنت ماشيًا فجعلت أقول: يا عباد الله، دلوني على الطريق" قال: "فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق".
وقال الإمام النووي في "الأذكار" (ص: 224، ط. دار الفكر): [قلت: حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم أنه افلتت له دابة أظنها بغلة، وكان يعرف هذا الحديث، فقاله، فحبسها الله عليهم في الحال، وكنت أنا مرة مع جماعة، فانفلتت منها بهيمة وعجزوا عنها، فقلته، فوقفت في الحال بغير سبب سوى هذا الكلام] اهـ.
وإذا جازت الاستغاثة بالغائب -الذي لا يعرف المستغيثُ عينَه ولا يتحقق سماعَه- فلأن تجوز بمن عُرِفَتْ أعيانُهم وتحققت حياتُهم وثبت في السُّنة سماعُهم من باب أَوْلَى.
- وأخرج الإمام مالك في "الموطأ"، وأحمد في "المسند"، والنسائي في "المجتبى"، وابن حبان في "صحيحه" عن عمران الأنصاري، أنه قال: عدل إليَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأنا نازل تحت سرحة بطريق مكة، فقال: ما أنزلك تحت هذه السرحة؟ فقلت: أردت ظلها، فقال: هل غير ذلك؟ فقلت: لا، ما أنزلني إلا ذلك، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا كُنْتَ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ مِنْ مِنًى، وَنَفَخَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، فَإِنَّ هُنَاكَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ السِّرَرُ؛ بِهِ شَجَرَةٌ سُرَّ تَحْتَهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا».
قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (13/ 67، ط. وزارة الأوقاف المغربية): [وأما قوله «سُرَّ تَحْتَهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا» ففيه قولان، أحدهما: أنهم بشروا تحتها بما سرهم واحدًا بعد واحد أو مجتمعين، أو نُبِّئوا تحتها فسُرُّوا من السرور. والقول الآخر: أنها قطعت تحتها سُرَرُهم يعني ولدوا تحتها؛ يقال: قد سُرَّ الطفل إذا قطعت سرته.
وفي هذا الحديث دليل على التبرك بمواضع الأنبياء والصالحين ومقاماتهم ومساكنهم، وإلى هذا قصد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بحديثه هذا] اهـ.
والتبرك هو نوعٌ من التوسل؛ لأن قاصدَه يطلب البركة من الله تعالى بصاحب المكان المتبرك به.
ولقد نصَّ أئمة المذاهب المتبوعة وعلماء المسلمين في قديم الدهر وحديثه على مشروعية التوسل بالأنبياء والصالحين، وعدُّوه من المستحبات الشرعية، ووشَّوْا به كتبهم وزينوها.
ومن النُّقول في ذلك:
- من السَّادة الحنفية:
قال العلامة السيد الشريف الجرجاني الحنفي في "حاشيته على شرح المطالع" (ص: 14، ط. دار الطباعة العامرة 1277هـ) موجهًا نفع التوسل بالصالحين وزيارة مراقدهم بعد وفاتهم: [فإن قيل: هذا التوسل إنما يُتَصَوَّرُ إذا كانوا متعلقين بالأبدان، وأما إذا تجردوا عنها فلا؛ إذ لا جهة مقتضية للمناسبة.
قلنا: يكفيه أنهم كانوا متعلقين بها متوجهين إلى تكميل النفوس الناقصة بهمة عالية، فإنّ أثر ذلك باقٍ فيهم، ولذلك كانت زيارة مراقدهم مُعَدَّةً لفيضان أنوار كثيرة منهم على الزائرين، كما يشاهده أصحاب البصائر ويشهدون به] اهـ.
وصنف علاَّمةُ زمانه المحدِّثُ السيدُ محمد مرتضى الزبيدي الحنفيُّ رسالةً سمَّاها: "تحفة أهل الزُّلْفة، في التوسل بأهل الصُّفّة"؛ كما ذكر في كتابه "تاج العروس" (24/ 26، ط. دار الهداية).
وقال الإمام الشلبي في نهاية كتابه "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" (5/ 148، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [هذا ما ظهر لكاتبه، بلغه الله مقاصده بمحمدٍ وآله] اهـ.
وقال العلاَّمة ابن عابدين في "منحة الخالق -المطبوع مع- البحر الرائق" (2/ 210، ط. دار الكتاب الإسلامي) في معرض ذكره لزيارة القبور للنساء: [وإن كان للاعتبار والترحم والتبرك بزيارة قبور الصالحين فلا بأس] اهـ.
وقال الإمام العيني في "شرح صحيح البخاري" (4/ 170، ط. دار إحياء التراث العربي): [فيه التبرك بمصلى الصالحين ومساجد الفاضلين. وفيه أن من دعا من الصلحاء إلى شيء يتبرك به منه فله أن يجيب إليه إذا أمن العجب] اهـ.
وقال الإمام الخادمي في "بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية" (1/ 203، ط. مطبعة الحلبي): [نقل عن الزيلعي: ويجوز التوسل إلى الله تعالى والاستغاثة بالأنبياء والصالحين بعد موتهم؛ لأن المعجزة والكرامة لا تنقطع بموتهم، وعن الرملي أيضًا بعدم انقطاعها بالموت، وعن إمام الحرمين: ولا ينكر الكرامة ولو بعد الموت إلا رافضي، وعن الأجهوري: الولي في الدنيا كالسيف في غمده، فإذا مات تجرد منه؛ فيكون أقوى في التصرف، كذا نقل عن "نور الهداية" لأبي علي السنجي] اهـ.
- ومن السادة المالكية:
قال الإمام ابن الخراط الأندلسي في "العاقبة في ذكر الموت" (ص: 219، ط. مكتبة دار الأقصى): [ويستحب لك رحمك الله أن تقصد بميتك قبور الصالحين ومدافن أهل الخير فتدفنه معهم وتنزله بإزائهم وتسكنه في جوارهم؛ تبركًا بهم وتوسلًا إلى الله تعالى بقربهم، وأن تجتنب به قبور من سواهم ممن يُخاف التأذي بمجاورته والتألم بمشاهدته؛ فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إِن الْمَيِّت يتَأَذَّى بالجار السوء كَمَا يتَأَذَّى بِهِ الْحَيّ»] اهـ.
وقال الإمام القرطبي في "التذكرة" (ص: 179، ط. مكتبة دار المنهاج): [نجانا الله من أهوال هذا اليوم بحق محمد نبي الرحمة وصحبه الكرام البررة، وجعلنا ممن حشر في زمرتهم، ولا خَالَفَ بنا على طريقهم ومذهبهم] اهـ.
وقال الإمام ابن الحاج في "المدخل" (1/ 258، ط. دار التراث): [يتوسل إلى الله تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم ويجزم بالإجابة ببركتهم ويقوي حسن ظنه في ذلك فإنهم باب الله المفتوح، وجرت سنته سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم، ومن عجز عن الوصول إليهم فليرسل بالسلام عليهم وذكر ما يحتاج إليه من حوائجه ومغفرة ذنوبه وستر عيوبه إلى غير ذلك، فإنهم السادة الكرام، والكرام لا يردون من سألهم ولا من توسل بهم، ولا من قصدهم ولا من لجأ إليهم هذا الكلام في زيارة الأنبياء، والمرسلين عليهم الصلاة والسلام عمومًا] اهـ.
- ومن السادة الشافعية:
أخرج الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (1/ 445، ط. دار الغرب الإسلامي)، وغيره، عن علي بن ميمون، قال: سمعت الشافعي، يقول: إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم، يعني زائرًا، فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين، وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تقضى.
وأخرج الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (51/ 323، ط. دار الفكر) عن الأصمعي قال: رأيتُ أمير المؤمنين المأمونَ سنة أربع عشرة ومائتين يقول: لقد خص الله تعالى محمد بن إدريس الشافعي بالورع والعلم والفصاحة والأدب والصلاح والديانة، لقد سمعت أبي هارونَ يتوسل إلى الله به والشافعي حيٌّ يُرزَق.
وقال الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (74/ 147): [حدّثني الشيخ الصالح الأصيل أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن عمر بن الصفار الإسفرايني قال: وقبره -يعني قبر أبي عوانة- بإسفراين مَزارُ العالَم ومُتَبَرَّكُ الخلق، وبجنب قبرِه قبرُ الراوية عنه أبي نعيم عبد الملك بن الحسن الأزهري الإسفرايني في مشهد واحد داخل المدينة، على يسار الداخل من باب نيسابور من إسفراين، وقريبٌ من مشهدِه مشهدُ الأستاذ الإمام أبي إسحاق الإسفرايني رحمة الله عليه، على يمين الداخل من باب نيسابور، وبجنب قبرِه قبرُ الأستاذ أبي منصور البغدادي الإمام الفقيه المتكلم صاحبه، الصاحب بالجنب حيًا وميتًا، المتظاهرين لنصرة الدين بالحجج والبراهين.
سمعت جدي الإمام شيخ الإسلام عمر ابن الصفار رحمة الله عليه، ونظر إلى القبور حول الأستاذ الإمام أبي إسحاق، وأشار إلى المشهد وخارج المشهد، وقال: قد قيل ها هنا من الأئمة والفقهاء على مذهب الإمام الشافعي رضوان الله عليه أربعون إمامًا، كل واحد منهم لو تصرف في المذهب وأفتى برأيه واجتهاده -يعني على مذهب الشافعي- لكان حقيقًا بذلك.
فقال رحمه الله: العوام يتقرّبون إلى مشهد الأستاذ أبي إسحاق أكثر مما يتقرّبون إلى مشهد أبي عوانة وهم لا يعرفون قدر هذا الإمام الكبير المحدث أبي عوانة؛ لبعد العهد بوفاته، وقرب العهد بالأستاذ، والإمام أبو عوانة هو الذي أظهر لهم مذهب الشافعي بإسفرايين بعدما رجع من مصر وأخذ العلم عن أبي إبراهيم المزني رحمه الله.
وكان جدي رحمه الله إذا وصل إلى مشهد الأستاذ رأيته لا يدخل المشهد احترامًا بل كان يقبل عتبة المشهد وهي مرتفعة بدرجات، ويقف ساعة على هيئة التعظيم والوقار، ثم يعبر عنه كالمودع لعظيم عظيم الهيبة، وإذا وصل إلى مشهد أبي عوانة كان أشد تعظيمًا له وإجلالًا وتوقيرًا ويقف أكثر من ذلك، كأنه واقف بقبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم] اهـ.
وقال الإمام ابن الجزري في "الحصن الحصين" المطبوع ضمن: "تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين" (ص: 60، ط. دار القلم): [ويتوسل إلى الله سبحانه بأنبيائه والصالحين] اهـ.
وقال في "غاية النهاية في طبقات القراء" (2/ 97، ط. مكتبة ابن تيمية) عند ترجمة الإمام الشافعي: [وقبره بقرافة مصر مشهور، والدعاء عنده مستجاب، ولما زرته قلت:
زُرتُ الإمامَ الشافِعِي ... لأن ذلك نَــــــافِعِي
لِأَنَــــالَ منــــهُ شفاعـــــةً ... أَكْرِمْ به مِن شَافِعِ] اهـ.
وجاء في "فتاوى" العلامة الشهاب الرملي (4/ 382، ط. المكتبة الإسلامية): [(سئل) عما يقع من العامة من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان، يا رسول الله، ونحو ذلك من الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين؛ فهل ذلك جائزٌ أم لا، وهل للرسل والأنبياء والأولياء والصالحين والمشايخ إغاثة بعد موتهم، وماذا يرجح ذلك؟
(فأجاب): بأن الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة، وللرسل والأنبياء والأولياء والصالحين إغاثة بعد موتهم؛ لأنَّ معجزة الأنبياء وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم.
أما الأنبياء فلأنهم أحياء في قبورهم يصلون ويحجون كما وردت به الأخبار وتكون الإغاثة منهم معجزة لهم، والشهداء أيضًا أحياء شوهدوا نهارًا جهارًا يقاتلون الكفار، وأما الأولياء فهي كرامة لهم؛ فإن أهل الحق على أنه: يقع من الأولياء بقصدٍ وبغير قصدٍ أمورٌ خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم] اهـ.
- ومن السادة الحنابلة:
قال أبو بكر بن أبي الخصيب: ذُكِرَ صفوانُ بنُ سُلَيْمٍ عند أحمدَ بنِ حنبل، فقال: هذا رجل يُستسقَى بحديثه، وينزل القطر من السماء بذكره خرّجه الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (24/ 134).
وقال الإمام ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (3/ 299، ط. مؤسسة الرسالة): [ويجوز التوسل بصالح، وقيل: يستحب] اهـ.
وقال الإمام المرداوي في "الإنصاف" (2/ 456، ط. دار إحياء التراث العربي): [يجوز التوسل بالرجل الصالح، على الصحيح من المذهب، وقيل: يستحب] اهـ.
وقال الشيخ الصالحي الحنبلي في "الإقناع" (1/ 208، ط. دار المعرفة): [ولا بأس بالتوسل بالصالحين] اهـ.
وقال الشيخ منصور البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (2/ 68-69، ط. دار الكتب العلمية) في باب صلاة الاستسقاء: [(ويستحب أن يخرج معه أهل الدين والصلاح والشيوخ) لأنه أسرع لإجابتهم، وقد استسقى سيدنا عمرُ بالعباس رضي الله عنهما، ومعاويةُ بيزيدَ بنِ الأسود رضي الله عنهما، واستسقى به الضحاكُ بن قيس مرة أخرى، ذكره الموفق والشارح.
وقال السامري، وصاحب "التلخيص": لا بأس بالتوسل في الاستسقاء بالشيوخ والعلماء المتقين. وقال في "المذهب": يجوز أن يستشفع إلى الله برجل صالح، وقيل: يستحب. قال أحمد في "منسكه" الذي كتبه للمروذي: أنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه. وجزم به في "المستوعب" وغيره.. قال إبراهيم الحربي: الدعاء عند قبرِ معروفٍ الترياقُ المجرَّبُ] اهـ.

التوسل بالنبي يكون بالحاه والذات معا

لا فرق في جواز التوسل بين الجاه والذات؛ فإن التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون بالجاه ويكون بالذات، ويكون بالدعوات والأعمال الصالحات، وكلها أمورٌ ثابتةٌ في الكتاب والسُنَّة وعمل الأمة، ومن تَوسَّل بشيء منها فلا حرج عليه؛ لعموم قوله عزَّ وجل: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة: 35]، وقوله تعالى: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ [الإسراء: 57].
قال العلَّامة إبراهيم السَّمنودي الأزهري في "سعادة الدَّارين" (2/ 368، ط. مطبعة جريدة الإسلام): [فقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بابتغاء الوسيلة، قال الإمام البغوي في تفسيره: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْوَسِيلَةُ كُلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ، مَعْنَاهُ يَنْظُرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى اللهِ فَيَتَوَسَّلُونَ بِهِ اهـ. أي: سواءٌ كان التوسل بدعائه فقط كما يقول الخوارج، أو به، أو بشفاعته، أو بجاهه، أو بكرامته، أو بمحبته، أو بذاته، أو بالطاعات والأعمال الصَّالحات كما يقول أهل السُّنة، فلفظ الوسيلة في الآية عام يشمل كل ذلك كله.
بل إنَّ سياق الأمر بالتقوى قبل الأمر بالوسيلة في الآية يقتضي تخصيص الوسيلة فيها بالذوات؛ لأنَّه قد تقرر أنَّ معنى التقوى فعل الطاعات واجتناب المنهيات، فإذا كان معنى الوسيلة في الآية فعل الطاعات؛ لزم فيها التكرار وتعين لمنعه أن يكون معنى الوسيلة أمرًا آخر غير فعل الطاعات، وليس إلَّا الذوات الفاضلة] اهـ.

حول حديث استسقاء سيدنا عمر بسيدنا العبَّاس رضي الله عنهما

أمَّا عن حديث الاستسقاء:
فقد أخرج البخاري في "صحيحه" عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، فقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، قال: فيسقون.
وأخرج الطبراني في "الدعاء"، والحاكم في "المستدرك" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يستسقي للناس عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: "اللهم إن هذا عمُّ نبيك عليه السلام نتوجه به إليك فاسقنا"، فما برحوا حتى سقاهم الله عز وجل، فخطب عمر رضي الله عنه الناس فقال: "أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، ويعظمه ويفخمه، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمه العباس، واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم".
وقال ابن الأثير في "أسد الغابة" (3/ 163، ط. دار الكتب العلمية): [واستسقى عمر بن الخطاب بالعباس رضي الله عنهما، عام الرمادة، لما اشتد القحط، فسقاهم الله تعالى به، وأخصبت الأرض، فقال عمر رضي الله عنه: هذا والله الوسيلة إِلَى الله، والمكان منه، وقال حسان بن ثابت:
سأل الإمام وقد تتابع جدبنا ... فسقى الغمام بغرة العباس
عم النَّبِيّ وصنو والده الذي ... ورث النَّبِيّ بذاك دون الناس
أحيا الإله به البلاد فأصبحت ... مخضرة الأجناب بعد الياس
ولما سقى الناس طفقوا يتمسحون بالعباس، ويقولون: هنيئًا لك ساقي الحرمين.
وكان الصحابة يعرفون للعباس فضله، ويقدمونه ويشاورونه ويأخذون برأيه، وكفاه شرفًا وفضلًا أَنَّهُ كان يعزى بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لما مات، ولم يخلف من عصباته أقرب منه] اهـ.
فتوسل سيدنا عمر بسيدنا العباس رضي الله عنهما راجع لمكانة سيدنا العباس رضي الله عنه، وقربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد دلَّ على ذلك أمران:
الأوَّل: قول سيدنا عمر رضي الله عنه: "بعمّ نبيّك" ولم يقل "بالعبَّاس"، فالتوسل به رضي الله عنه إنما كان لقربه ومكانته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثَّاني: لَمَّا دعا سيدنا العباس رضي الله عنه توسل بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "وقد تقرب القوم بي بمكاني من نبيّك –أي لقرابتي منه- فاحفظ اللهم نبيّك في عمِّه"، يعني: اقبل دُعائي لأجل نبيك صلى الله عليه وآله وسلم.

حكم المسح على القبر والسجود أمامه

أمَّا المسح على القبر:
فقد روى طاهر بن يحيى العلوي والحافظ ابن الجوزي في "الوفاء" -كما ذكر الإمام الصالحي في "سبل الهدى والرشاد" (12/ 237، ط. دار الكتب العلمية)- عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما رمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءت فاطمة رضي الله عنها فوقفت على قبره، وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعته على عينيها، وبكت، وأنشأت تقول:
ماذا على من شمّ تربة أحمد ... أن لا يشمّ مدى الزّمان غواليا
صبّت عليّ مصائب لو أنّها ... صبّت على الأيّام عــدن ليــاليـا
ونقل الإمام الصالحي أيضًا في "سبل الهدى والرشاد" (12/ 398، ط. دار الكتب العلمية): [وذكر الخطيب ابن جملة أنَّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف.. قال: ولا شك أن الاستغراق في المحبّة يُحمَل على الإذن في ذلك، والمقصود من ذلك كله الاحترام والتعظيم، والناس يختلف مراتبهم في ذلك، كما كانت تختلف في حياته، فأناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم، بل يبادرون إليه، وأناس فيهم أناة يتأخرون، والكلّ محل خير.
وقال الحافظ: استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر الأسود جواز تقبيل كلّ من يستحق التعظيم من آدميّ وغيره] اهـ.
وعلى ذلك جرى فعل السلف والمحدثين وهو المعتمد عند أصحاب المذاهب الفقهية المتبوعة: قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (7/ 388، ط. مطبعة دائرة المعارف النظامية): [قال الحاكم (صاحب المستدرك) في "تاريخ نيسابور": سمعت أبا بكر محمد بن المؤمل يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة مع جماعة من مشايخنا، وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضى بطوس، قال: فرأيت من تعظيمه، يعني ابن خزيمة، لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرعه عندها ما تحيرنا] اهـ.
ووجَّه السادة الشافعية الإباحة بأن التقبيل إنما يُقصَد به التبرك بصاحب الضريح، وهو بهذا القصد لا يوجد ما يمنعه في الشرع:
قال العلاَّمة الشمس الرملي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" (3/ 34، ط. دار الفكر): [إن قصد بتقبيل أضرحتهم التبرك لم يكره كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى] اهـ، قال الشيخ الرشيدي في "حاشيته عليه": [(قوله: نعم إن قصد بتقبيل أضرحتهم التبرك إلخ) هذا هو الواقع في تقبيل أضرحتهم وأعتابهم فإن أحدًا لا يقبلها إلا بهذا القصد كما هو ظاهر] اهـ.
وقال الشيخ البجيرمي في "حاشيته على شرح المنهاج" (1/ 495، ط. مطبعة الحلبي): [إن قصد بتقبيل أضرحتهم -أي: وأعتابهم- التبرك لم يكره، وهذا هو المعتمد. برماوي] اهـ.
وقال الإمام العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (9/ 241، ط. دار إحياء التراث العربي): [وقال -يعني شيخَه زين الدين- وأخبرني الحافظ أبو سعيد ابن العلائي قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل من جزء قديم عليه خط ابن ناصر وغيره من الحفاظ أن الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقبيل منبره فقال: لا بأس بذلك. قال: فأريناه للشيخ تقي الدين ابن تيمية فصار يتعجب من ذلك ويقول: عجبت! أحمدُ عندي جليلٌ يقوله؟ وهذا استفهامٌ إنكاري؛ أيْ: أيقوله؟ وقال زين الدين: وأيُّ عجبٍ في ذلك؛ وقد روينا عن الإمام أحمد أنه غسل قميصًا للشافعي وشرب الماء الذي غسله به.. قال المحب الطبري: يمكن أن يستنبط من تقبيل الحجر واستلام الأركان جواز تقبيل ما في تقبيله تعظيم الله تعالى] اهـ.
وقال الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (11/ 212، ط. مؤسسة الرسالة): [أين المتنطع المنكر على أحمد، وقد ثبت أنَّ عبد الله سأل أباه عمن يلمس رمانة منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمس الحجرة النبوية فقال: "لا أرى بذلك بأسا".. وختم الإمام الذهبي كلامه بقوله: أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع] اهـ.
وعلى ذلك جرى عمل المسلمين عبر الأعصار والأمصار.

وأمَّا السجود أمام القبر: فله صورتان:
الأولى: السجود لصاحب الضريح وجعله قِبلَةً دون القبلة المشروعة.
الثَّانية: السجود عند المقام بقصد الاستظهارَ بروحه والتَّبركِ به، ومحاولة وصول أثرٍ من آثار عبادته إليه، لا التعظيم له والتوجُّه إليه.
فالصُّورة الأولى ممنوعةٌ منهيٌّ عنها، وأمَّا الصُّورة الثانية؛ جائزة ولا حرج فيها:
فعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» متفق عليه، وفي روايةٍ لمسلمٍ: «قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ».
والمساجد: جمع مسجد، والمسجد في اللغة: مصدرٌ ميمي يصلح للدلالة على الزمان والمكان والحدث، وعلماء الأُمَّة لم يفهموا من هذا الحديث أنَّ المقصود النهيُ عن اتِّصال المسجد بضريح نبيٍّ أو صالحٍ، وإنما فسَّروا اتِّخاذَ القبر مسجدًا التفسيرَ الصحيح، وهو أن يُجعل القبر نفسُه مكانًا للسجود، ويسجد عليه الساجد لمن في القبر عبادةً له، كما فعل اليهود والنصارى؛ حيث قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31]، فهذا هو معنى السجود الذي استوجب اللعن، أو جعْلُ القبر قِبلَةً دون القبلة المشروعة، كما يفعل أهل الكتاب؛ حيث يتوجَّهون بالصلاة إلى قبور أحبارهم ورهبانهم، فتلك الصور هي التي فهمها علماء الأُمَّة من النهي عن اتِّخاذ القبور مساجدَ.
فكان ينبغي على المسلمين أن يعرفوا الصورة المنهيَّ عنها، لا أن ينظروا إلى ما فعله المسلمون في مساجدهم، ثمَّ يقولون: إنَّ الحديث ورد في المسلمين، فهذا فعلُ الخوارج والعياذ بالله، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: «ذهبوا إلى آيات نزلت في المشركين، فجعلوها في المسلمين». فليست هناك كنيسةٌ للنصارى ولا معبدٌ لليهود على هيئة مساجد المسلمين التي بها أضرحةٌ، والتي يُصِرُّ بعضُهم أنَّ الحديث جاء في هذه الصورة.
ولكنَّ العلماء فهموا المرادَ بنظرٍ ثاقبٍ وهو ما اتَّضح في شروحهم لهذه الأحاديث، فها هو الشيخ السندي يقول في "حاشيته على سنن النَّسائي" (2/ 41، ط. مكتب المطبوعات الإسلامية) بشأن هذا الحديث: [ومراده بذلك أنْ يحذِّر أُمَّته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتِّخاذهم تلك القبور مساجدَ: إمَّا بالسجود إليها تعظيمًا أو بجعلها قِبلةً يتوجَّهون في الصلاة نحوها، قيل: ومجرَّد اتِّخاذ مسجدٍ في جوار صالحٍ تبركًا غيرُ ممنوع] اهـ.
وقد نقل العلاَّمة الحافظ ابن حجرٍ العسقلاني في "فتح الباري" (1/ 524، ط. دار الكتب العلمية)، وغيرُه من شُرَّاح السُّنن قول البيضاوي؛ حيث قال: [قال البيضاوي: لَمَّا كانت اليهود يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قِبلة، ويتوجَّهون في الصلاة نحوها فاتَّخذوها أوثانًا، لَعَنَهم الله، ومنع المسلمين عن مثل ذلك ونهاهم عنه، أمَّا من اتَّخذ مسجدًا بجوار صالحٍ أو صلَّى في مقبرته وقصد به الاستظهارَ بروحه، ووصول أثرٍ من آثار عبادته إليه، لا التعظيم له والتوجُّه فلا حرجَ عليه، ألا ترى أنَّ مدفن إسماعيل في المسجد الحرام عند الحطيم؟ ثمَّ إنَّ ذلك المسجد أفضل مكانٍ يتحرَّى المصلِّي بصلاته، والنهيُ عن الصلاة في المقابر مختصٌّ بالمنبوشة لِما فيها من النجاسة] اهـ.
وقد نقل كذلك العلَّامة المُباركفوري في "تحفة الأحوذي" (2/ 226، ط. دار الكتب العلمية) في شرحه لجامع الإمام الترمذي قول التوربشتي فقال: [قال التوربشتي هو مخرَّجٌ على الوجهين: أحدهما: كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لهم وقصد العبادة في ذلك.
وثانيهما: أنهم كانوا يتحرَّون الصلاة في مدافن الأنبياء، والتوجُّه إلى قبورهم في حالة الصلاة والعبادة لله؛ نظرًا منهم أنَّ ذلك الصنيع أعظم موقعًا عند الله لاشتماله على الأمرين] اهـ.

طلب المدد من الأولياء والصالحين

الأصل في الأفعال التي تصدر من المسلم أن تُحمَل على الأوجه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد؛ فإن إسلامه قرينة قوية توجب حملَ أفعاله المحتملة على ما يوافق عقيدته، ولا يجوز حملها على خلاف ذلك، وتلك قاعدة عامة يجب تطبيقُها في كل الأفعال الصادرة من المسلمين.
وقد دَلَّت الأدلة الشرعية من الكتاب والسُنَّة النبوية وإجماع علماء الأمة على أن كثيرًا من الأفعال التي نسبَتْها الشريعة إلى الله تعالى يصح إسنادُها إلى المخلوقين على جهة التسبب والاكتساب، ومن هذه الأفعال (الإمداد)؛ وهو منح المدد وإعطاؤه.
كما أن هناك فارقًا بين اعتقاد كون الشيء سببًا وبين اعتقاده خالقًا ومؤثرًا بنفسه؛ فإن أهل السنة يعتقدون أنه لا مؤثر في الكون على الحقيقة إلا الله سبحانه، وأن الأسباب لا تثمر المسبَّباب بنفسها وإنما بخلق الله لها، وقد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على جواز طلب العون والمدد من المخلوقين على جهة السببية والاكتساب، أما الطلب على جهة الخالقية والتأثير فهو عبادة لا يجوز صرفها إلا لله تبارك وتعالى.
فالاستمداد (وهو طلب المدد) قد يكون عبادة للمُستَمَدِّ منه كما في قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9]، وقد لا يكون عبادةً للمُستَمَدِّ منه؛ كما في "صحيح" البخاري من حديث سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: «أَنَّ رِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ، وَبَنِي لَحْيَانَ، اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى عَدُوٍّ، فَأَمَدَّهُمْ بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ..»، وقد بوَّب له الإمامُ البخاري في "صحيحه" بقوله: (باب العون بالمدد).
وكما ورد الإمداد مسندًا إلى الله تعالى، فقد ورد مسنَدًا للمخلوقين: كما في القراءةِ المتواترةِ الصحيحة للإمام نافع المدني: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يُمِدُّونَهُمْ﴾ [الأعراف: 202].
قال الحافظ بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (14/ 309، ط. دار إحياء التراث العربي): [أي: هذا باب في بيان عون الجيش بالمدد، وهو في اللغة: ما يُمَدُّ به الشيء، أي: يُزاد ويكثر، ومنه أَمَدَّ الجيشَ بمددٍ؛ إذا أرسل إليه زيادة، ويُجمَع على أمداد. وقال ابن الأثير: هم الأعوان والأنصار الذين كانوا يمدون المسلمين في الجهاد] اهـ.
وقال الإمام ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (5/ 225، ط. مكتبة الرشد): [وقال الإمام المهلِّب: فيه أنَّ السنة مضت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أن يُمِدَّ ثغوره بمدد مِن عنده، وجرى بذلك العمل مِن الأئمة بعده] اهـ.
وورد عن الصحابة والسلف الاستمداد بالمخلوقين؛ فقد روى الإمام أحمد في "المسند" وابن حبان في "صحيحه" عن عياض الأشعري قال: شهدت اليرموك وعليها خمسة أمراء: أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وخالد بن الوليد، وعياض بن غنم رضي الله عنهم، قال عمر رضوان الله عليه: إذا كان قتالٌ فعليكم أبو عبيدة، فكتبنا إليه: أن قد جاش إلينا الموت، واستمددناه، فكتب إلينا: إنه قد جاءني كتابكم تستمدوني، وإني أدلكم على ما هو أعز نصرًا وأحصن جندًا؛ الله فاستنصروه؛ فإن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم قد نُصِرَ بأقل مِن عددكم، فإذا أتاكم كتابي، فقاتلوهم ولا تراجعوني، قال: فقاتلناهم فهزمناهم وقتلناهم أربع فراسخ.
واستغاثة المسلم أو طلبه المددَ من الأنبياء والأولياء والصالحين هو محمول على السببيةِ لا على التأثير والخلق؛ حملًا لأقوال المسلمين وأفعالهم على السلامة على ما هو الأصل.
ويتبين وجه الحق والصواب هنا بالكلام في مقامين: المقام الأول: أن الموت في نفسه ليس فناءً محضًا أو عدَمًا لا حياة فيه؛ كما يقول الماديون والملاحدة، بل هو انتقال من حياة إلى حياة، وقد أثبت الشرع أن للموتى إدراكًا، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن سماعهم أشد من سماع الأحياء في نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حق موتى الكفار: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» متفق عليه، ودعوى الخصوصية لا دليل عليها، بل وترُدُّها رواية البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ». وإذا كان الموت لا يحول بين الكفار وبين الإدراك -مع ما هم فيه من سوء العاقبة- فلأن يسمع موتى المؤمنين مِن باب أَوْلى وأحرى؛ وذلك لأن إدراك الروح خارج الجسد أوسع وأقوى من إدراكها وهي داخل الجسد الذي هو عائقٌ لها.
المقام الثاني: أن الله تعالى جعل لأرواح الأنبياء والأولياء والمؤمنين في حياة البرزخ مِن سعة التصرف ونفع الأحياء بإذنه تعالى بل وعبادتهم لله تعالى تشريفًا واستجابة دعائهم ما ليس للأحياء.
والقول بجواز الاستغاثة بالأنبياء والصالحين بعد وفاتهم هو الذي عليه علماء الأزهر ومشايخه بصفاء فهمه ووسطيته واعتدال منهجه عبر القرون، ولم تكد هذه البدعة -بدعة التكفير بالاستغاثة بالأنبياء والصالحين والاستمداد منهم- تَدبُّ في جسد الأمة حتى انبرى بياطرةَ العلمِ وأساطين الفهم من علماء الأزهر الشريف بالردِّ الوافي والبيان الكافي والدواء الشافي، وبينوا أنها بدعة ضلالة تخالف المنقول والمعقول وما استقر عند علماء المسلمين وعامتهم، وأنها عين منهج الخوارج الذين هم شرار الخلق عند الله، والذين كان أُسُّ ضلالتهم: أنهم عمدوا إلى آيات نزلت في المشركين فجعلوها في المسلمين.
- فهذا شيخ الأزهر البرهان إبراهيم الباجوري الشافعي [ت1277هـ] يقول في آخر حاشيته على شرح الغزي على "متن أبي شجاع" في الفقه الشافعي (2/ 509، ط. مطبعة بولاق 1285هـ): [وقد حصلت في هذه الكتابة بركة؛ بسبب أني كتبتُ بعضَ عباراتٍ في الحرم المكي تجاه الكعبة المشرفة، زادها الله تشريفًا وتكريمًا ومهابة وتعظيمًا، وكذلك كتبتُ بعضَ عباراتٍ في الحرم المدني بجنب منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه، ورزقنا العَوْدَ إليه، وأقول عنده ولديه: مَدَدَكَ يا رسولَ الله صلى الله عليك وسلم... وأقول أيضًا: مَدَدَكُمْ يا أهلَ البيت رضي الله عنكم] اهـ.
- وهذا شيخ الأزهر ونقيب السادة الأشراف السيد علي محمد الببلاوي المالكي [ت1323هـ] يقرظ كتاب العلامة النبهاني "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم" واصفًا إياه بأنه "أحسن ما أُلِّف في هذا الموضوع".
- وهذا شيخ الإسلام عبد الرحمن الشربيني الشافعي [ت1326هـ] يقول في تقريظه على الكتاب السابق، وكان وقتَ كتابته شيخًا للأزهر: [فقد وقفت على كتاب "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق".. فإذا هو شاهد عدل، آتٍ بالقول الحق والكلام الفصل، جدير بأن يُوسَم كما وسمه مؤلفه بـ"شواهد الحق"، حجةٌ قائمة على طائفة الضالِّين المضلين، صارم في نحر المبتدعة الملحدين، تحيا به السُّنة، وتموت به البدعة] اهـ.
وأما المعقول: فقد قرره علماء التوحيد والكلام أبدع تقرير وأحكمه، وهم المرجع في معرفة قواعد الإلهيات والنبوات، وتقرير ما يجوز وما يجب وما يستحيل في حق الله تعالى وفي حق رسله صلوات الله عليهم وسلامه:
يقول الإمام العلامة المحقق التفتازاني في "شرح المقاصد" (2/ 79): [لما كان إدراك الجزئيات مشروطًا عند الفلاسفة بحصول الصورة في الآلات فعند مفارقة النفس وبطلان الآلات لا تبقى مدركة للجزئيات ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط، وعندنا لما لم تكن الآلات شرطًا في إدراك الجزئيات؛ إمَّا لأنه ليس بحصول الصورة لا في النفس ولا في الحس، وإما لأنه لا يمتنع ارتسام صورة الجزئي في النفس، بل الظاهر من قواعد الإسلام أنه يكون للنفس بعد المفارقة إدراكات متجددة جزئية واطلاع على بعض جزئيات أحوال الأحياء سيما الذين كان بينهم وبين الميت تعارف في الدنيا؛ ولهذا ينتفع بزيارة القبور والاستعانة بنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخيرات واستدفاع المُلِمّات؛ فإن للنفس بعد المفارقة تعلقًا ما بالبدن وبالتربة التي دُفِنت فيها، فإذا زار الحيُّ تلك التربة وتوجهت تلقاء نفس الميت حصل بين النفسين ملاقاة وإفاضات] اهـ.
ولمفتي الديار المصرية الأسبق خاتمة المحققين الشيخ العلامة محمد بخيت المطيعي كلام متين في تقرير الدليل العقلي ننقله على طوله لما فيه من التحقيق؛ حيث يقول في رسالته "تطهير الفؤاد عن دنس الاعتقاد" (ص: 13-15 المطبوع بمقدمة "شفاء السقام" للإمام التقي السبكي): [وقد تقرر عقلًا ونقلًا: أن توقُّفَ الممكنات بعضها على بعض لنقص في الممكنات لا لعجز في الفاعل جل شأنه، وهذا مما كاد أن يكون بديهيًّا، وكما جاز أن يتوسط حي في قضاء مصلحة حي والفعل لله وحده يجوز أن تتوسط روح ميت في قضاء مصلحة حي أو ميت والفعل لله وحده، والأرواح باقية عل الحياة، وأفعالها في عالم الملك إنما تظهر بواسطة البدن ما دام حيًّا بالحياة الحيوانية، فإذا مات وفقد الحياة الحيوانية بقيت نفسه وروحه على حياتها الملكوتية، وتعلقت بجسمه تعلقًا آخر على وجه آخر يعلمه الله تعالى كما دل عليه نعيم القبر وعذابه.
فإذا كان الفعل في الواقع ونفس الأمر إنما هو للنفس والروح، والجسم آلة يظهر به الفعل، والروح باقية خالدة، ففعلها باقٍ وتصرفها في أفعالها لا يتغير إلا بعدم ظهور الأفعال بواسطة البدن، فلا مانع عقلًا أن يكون بعض أرواح الأولياء والصالحين بعد موت الأجساد سببًا بدعائها وتوجهها إلى الله تعالى في قضاء حوائج بعض الزائرين لهم المتوسلين بهم بدون أن يكون لها مدخل في التأثير، وأي فرق بين التوسط بالأحياء في قضاء الحوائج مع اعتقاد أن لا فاعل إلا الله، وبين توسط أرواح الأموات مع اعتقاد ذلك!
والقولُ بأنَّ ملوك الدنيا إنما يحتاجون إلى الوسائط لجواز الغفلة عليهم عن حوائج الخلق بخلاف العليم الخبير سفسطة ظاهرة وتمويه على العقول؛ فإن الملك ووسائطه واسطة في قضاء حوائج الطالب من الله تعالى؛ إذ لا فاعل سواه، فلو كان اتخاذ الواسطة شركًا بعد اعتقاد أن المؤثِّر هو الله وحده لكان معاونة بعضنا لبعض في قضاء المصالح شركًا، وهذا باطل بالضرورة؛ لما يترتب عليه من بطلان الشرائع وفساد نظام العالم وعدم نسبة الأفعال الاختيارية إلى فاعليها، فتبطل الحدود والزواجر ويختل النظام. فعليك بالإنصاف.
قال المناوي في "شرح عينية ابن سينا في النفس": قال الناظم في كتاب "زيارة القبور": تعلق النفس بالبدن عظيم جدًّا؛ حتى إنها بعد المفارقة تشتاق وتلتفت إلى الأجزاء البدنية المدفونة؛ فإذا زار إنسان قبر آخر وتغاضى عن العلائق الجسمانية والعلائق الطبيعية توجهت نفسه إلى العالم العقلي فلتواجه نفسه نفس الميت ويحصل منهما المقابلة كما في المرآتين، فيرتسم فيها صورة عقلية بطريق الانعكاس، ويحصل لها بذلك كمال] اهـ.
وقد ذكر الإمام الغزالي نحو ذلك مع زيادة بسط وتحقيق، فقال: المقصود من زيارة الأنبياء والأولياء والأئمة: الاستمداد من سؤال المغفرة وقضاء الحوائج من أرواحهم، والعبارة عن هذا الإمداد الشفاعة، وهذا يحصل من جهتين: الاستمداد من هذا الجانب، والإمداد من ذلك الجانب. ولزيارة المشاهد أثر عظيم في هذين الركنين:
أما الاستمداد: فبانصراف همة صاحب الحاجة عن أموره العادية باستيلاء ذكر المزور على الخاطر، حتى تصير كلية همته مستغرقة في ذلك، ويقبل بكليته على ذكره وخطوره بباله، وهذه الحالة سبب منبه لروح ذلك الشفيع أو المزور؛ حتى تمد روح المزور الطيبة ذلك الزائر بما يستمد منها، ومن أقبل بكليته وهمته على إنسان في دار الدنيا فإن ذلك الإنسان يحس بإقبال ذلك المقبل عليه؛ لخبره بذلك، فمن لم يكن في هذا العالم فهو أولى بالتنبه، وهو مهيأ لذلك التنبه؛ فإن اطلاع مَن هو خارج عن أحوال العالم على بعض أحوال العالم ممكن؛ كما يطلع من هو في المنام على أحوال من هو في الآخرة: أهو مُثاب أم مُعاقَب؟ فإن النوم صنو الموت وأخوه؛ فبسبب الموت صرنا مستعدين لمعرفة أحوال لم نكن مستعدين في حال اليقظة لها، فكذا من وصل إلى دار الآخرة ومات موتًا حقيقيًّا كان بالاطلاع على أحوال هذا العالم أولى وأحرى، فأما كلية أحوال هذا العالم في جميع الأوقات فلم تكن مندرجة في سلك معرفتهم، كما لم تكن أحوال الماضين حاضرة في معرفتنا في منامنا عند الرؤيا.
ولإيجاد المعارف معينات ومخصصات؛ منها: همة صاحب الحاجة وهي استيلاء ذكر صاحب تلك الروح العزيزة على صاحب الحاجة، وكما تؤثر مشاهدة صورة الحي في خطور ذكره وحضور نفسه بالبال فكذا تؤثر مُشاهدة ذلك الميت ومشاهدة تربته التي هي حجاب قالبه؛ فإن أثر ذلك الميت في النفس عند غيبة قالبه ومشهدة ليس كأثره في حال حضوره ومشاهدة قالبه ومشهده.
ومن ظن أنه قادر على أن يحضر في نفسه ذلك الميت عند غيبة مشهده كما يحضره عند مشاهدة مشهده فذلك ظن خطأ؛ فإن للمشاهدة أثرًا بينًا ليس للغيبة مثله، ومن استعان في الغيبة بذلك الميت لم تكن هذه الاستعانة أيضًا جزافًا ولا تخلو من أثر ما؛ كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: «مَن صلى على مرة صليت عليه عشرًا» و«من زارني حلت له شفاعتي».
فالتقرب بقالبه الذي هو أخص الخواص به وسيلة تامة متقاضية للشفاعة، والتقرب بولده الذي هو بضعة منه ولو بعد توالد وتناسل، والتقرب بمشهده ومسجده وبلدته وعصاه وسوطه ونعله وعضادته، والتقرب بعادته وسيرته وبما له مناسبة إليه يوجب التقرب إليه ومقتضٍ لشفاعته؛ فإنه لا فرق عند الأنبياء والأولياء في كونهم في دار الدنيا وكونهم في دار الآخرة إلا في طريق المعرفة؛ فإن آلة المعرفة في دار الدنيا: الحواسُّ الظاهرة، وفي العقبى: آلة بها يعرف الغيب؛ إما في صورة مثال، وإما على سبيل التصريح. وأما الأحوال الأخر في التقرب والقرب والشفاعة فلا تتغير.
والركن الأعظم في هذا الباب: الإمداد والاهتمام من جهة ا لمُمِدِّ وإن لم يشعر صاحب الوسيلة بهذا المدد؛ فإنه لو وضع شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو سوطه أو عضادته على قبر عاص أو مذنب لنجا ذلك المذنب ببركات تلك الذخيرة من العذاب، وإن كان في دار إنسان أو بلد لا يصيب سكانها بلاء وإن لم يشعر بها صاحب الدار أو ساكن البلد؛ فإن اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في العقبى مصروف إلى ما هو له منسوب، ودفع المكاره والأمراض والعقوبات مفوَّض من الله تعالى إلى الملائكة، وكل ملك حريص على إسعاف ما حرص النبي صلوات الله عليه بهمته إليه عن غيره، كما كان في حال حياته؛ فإن تقرب الملائكة بروحه بعد موته أزيد من تقربهم بها في حال حياته. إلى هنا كلامه انتهى.
ألم يعلموا أن زيارة القبور تارة يُقصَد بها الموعظة بالأموات وهذه تعم جميع القبور والأموات، وتارة يُقصَد بها الاستمدادُ والتبرك بالمَزُور، وهذا يختص بالأنبياء والأولياء والصالحين، ألم يعلموا أن الإنسان يتأثر بتصوراته، وأن نفسه تحت قهر سلطان الوهم؛ فكم من إنسان تحقق أنه سيقتل لا محالة فتصور الموت واقعًا به فمات بسبب ذلك قبل أن يُقتَل.
كذلك إذا زار إنسان مشهد الحسين رضي الله عنه مثلًا واعتقد أنه بمكان طاهر بين يدي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استولى عليه الخشوع والخضوع وامتلأ قلبه إخلاصًا فيدعو الله مخلصًا موقنًا بالإجابة؛ خصوصًا إذا اعتقد أن روح الحسين رضي الله عنه مثلاً تسأل الله إجابة دعاء زائره؛ أليس ذلك سببًا في إجابة الدعاء وقضاء حوائج الزائرين المخلصين! والله هو المؤثِّر، ولا نرى مسلمًا ولو عامِّيًّا يتوهم –فضلاً عن أن يعتقد- أن لله شريكًا من خلقه؛ فمهما اعتقد الزائر من علو درجة المَزُور فلا يعتقد فيه إلا أنه عبد مقرَّب لله يسأل الله كما يسأله الزائر، وأن المَزُورَ أطهرُ منه روحًا وأصفى نفسًا بما أعطاه الله من الكمال الإنساني، وإن كان العوام لا يستطيعون التعبير عما تُكِنُّه صدورُهم من حسن العقيدة وكمال الإيمان] اهـ.
وبهذا كله يتضح أن الاستغاثة والاستمداد من الأنبياء والأولياء والصالحين هي مما قال العلماء بجوازه سلفًا وخلفًا، وأن القول بأن ذلك شرك هو أعظم بدعة ظهرت في الأمة الإسلامية في الأعصر المتأخرة وهي من جنس بدع الخوارج التي يتوسل بها أصحابها إلى تكفير المسلمين والطعن في عقائدهم، على أن تكفير المسلم بذلك لا يستقيم عند العقلاء أصلًا فضلًا عن أن يدل عليه نقل أو شبهة نقل.
يقول العلامة المحقق الشيخ يوسف الدجوي المالكي عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر في "مقالته عن الاستغاثة": [ولا أدري كيف يُكَفِّرون بالاستغاثة ونحوها؛ فإنّ المستغيث إن كان طالبًا من الله بكرامة هذا الميّت لديه، فالأمر واضح، وإن كان طالبًا من الولي نفسه فإنّما يطلب منه على اعتقاد أنّ الله أعطاه قوّة روحانيّة تشبه قوّة الملائكة فهو يفعل بها بإذن الله، فهل في ذلك تأليه له؟
ولو فرضنا جدلاً أنّنا مخطئون في ذلك، لم يكن فيه شرك ولا كفر، بل نكون كمن طلب من المقعد المعونة معتقدًا أنّه صحيح غير مقعد، مع أنّ عمل الأرواح ومواهب الأنبياء ثابتة والأولياء في الدّلائل القطعيّة.
وصفوة القول أنّنا نقول: هؤلاء المستغيثون يعتقدون أنّ الله أعطى هؤلاء الأولياء مواهب لم يعطها لغيرهم، وذلك جائز لا يمكنهم منعه. وهم يقولون: "إنّهم اعتقدوا فيهم الألوهيّة!" مع أنّ ذلك لا يقول به أحد، إلاَّ عند من أساء الظّن بالمسلمين ظلمًا وعنادًا. ولو فرضنا أنّ ذلك مشكوك فيه، فهل يجوز التّكفير والقتل بمجرّد الشّك؟!
فالاستغاثة مبنيّة عندنا على أنّ الأنبياء والأولياء أحياءٌ في قبورهم كالشّهداءِ، بل أعلى من الشّهداء، ويمكنهم أن يدعوا الله تعالى للمستغيث بهم، بل يمكنهم أن يعاونوه بأنفسهم كما تعاون الملائكة بني آدم، وللأرواح تصرّف كبير في البرزخ. وعلى ذلك دلائل كثيرة أطنب فيها ابن القيّم، وهو من أئمّة هؤلاء، وأثبت ابن تيميّة سماع الأموات وردّهم السّلام في فتاويه وغيرها، مستندًا إلى الأحاديث الصّحيحة في ذلك، وذكر سماع سعيد بن المسيب الأذان من قبره صلى الله عليه وآله وسلم أيّام الحرّة في كتبه، فإذا استغاث بهم كان كمن يستغيث بالحي سواء بسواءٍ؛ لأنّهم عندنا أحياءٌ، بل أعظم نفوذًا، وأوسع تصرّفًا من الأحياءِ.
ولو تنزّلنا غاية التنزّل، وفرضنا أنّنا مخطئون في ذلك، لم يكن هناك وجه للتّكفير، وإنّما يقال للمستغيثين: إنّكم أخطأْتم في ذلك، فإنّهم ليسوا أحياء ولا قادرين على ما سبق لنا] اهـ.
وعلى ذلك: فطلب المدد من الأنبياء والأولياء والصالحين أحياء ومنتقلين من الأمور المشروعة التي جرى عليها عمل المسلمين، وذلك محمول على السببية والاكتساب لا على الخلق والتأثير.

الخلاصة

بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنَّ التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين والتبرك بهم وطلب المدد منهم؛ من الأمور الجائزة والمستحبة، التي دلَّ على مشروعيتها واستحبابها الكتاب والسُنَّة وعمل الصحابة رضوان الله عليهم، وهو المعتمد عند علماء المذاهب الفقهية المتبوعة، وعليه جرى علماء المسلمين وعوامِّهم سلفًا وخلفًا من غير نكير، وهذا هو الحقُّ الذي دلَّت عليه النصوص، ولا عبرة بمن شذَّ، فمن شاء اتخذ إلى ذلك سبيلًا وأتبع سببًا، والتوسل المشروع يكون بالجاه كما يكون الذات، وتوسل سيدنا عمر بسيدنا العبَّاس رضي الله عنهما هو في حقيقته راجعٌ إلى التوسل بالمقام النبويّ والجاه المُحَمَّدي.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة