هل يجوز لوَلِيّ المحجور عليه لجنون أن يُطَلِّق عليه زوجته لو كان في هذا الطلاق مصلحة أو دفع مضرة عن المجنون؟
ليس لولي المحجور عليه أن يطلق عليه زوجتَه بسبب الجنون؛ فالأصل في الطلاق أنه حقٌّ للزوج وحده؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ»، فإن رأى الوليُّ أن في الطلاق مصلحةً للمحجور عليه أو دفعَ مضرةٍ عنه؛ فله في هذه الحالة رفع الأمر إلى القاضي للنظر فيه؛ فالقاضي وحده هو من يملك إيقاع الطلاق في مثل هذه الحالة إذا تَحَقَّق عنده ما يوجب الطلاق شرعًا.
المحتويات
مِن المقرَّر فقهًا أن الأهلية شرط شرعي لاعتبار التصرفات الإنسانية التي اشترط الشرع العقلَ لصحتها؛ كالإيجاب والقبول ونحوهما؛ لأن هذه التصرفات متوقفة على القصد الصحيح، وهو لا يوجد إلا مع العقل.
وقد تكلم الأصوليون في كتبهم عما يسمى بـ(عوارض الأهلية)، وهي: الخصال أو الآفات التي تَعرِض للإنسان فتؤَثِّر على أهليته بالزوال أو بالنقصان، وذكروا أن مِن عوارض الأهلية السماوية -أي: التي ليس للعبد فيها اختيار-: الجنون، وهو: اختلال القوة المميزة بين الأمور الحسنة والقبيحة المُدرِكة للعواقب بأن لا يظهر آثارها وتتعطل أفعالها، وتَحَقُّقُه في شخصٍ ما مانع من تحلِّيه أهلية الأداء، فلا تترتب على تصرفاته آثارها الشرعية. "شرح التلويح على التوضيح" للعلامة سعد الدين التفتازاني (2/ 331، ط. صبيح).
وبسبب هذا الاختلال فإن الشرع قد أثبت سلطة ولاية أمر المجنون للغير؛ لأجل تحقيق الحفظ والصيانة له، وبموجب هذه السلطة يقوم الولي برعاية شؤون المُولى عليه المتعلقة بشخصه.
من التصرفات التي يجوز للولي إيقاعها: تزويج المجنون الذي تحت ولايته؛ لمصلحة إعفافه أو إيوائه وحفظه وصيانته.
قال الإمام النووي في "الروضة" (5/ 435، ط. دار عالم الكتب): [إن كان المجنون كبيرًا لم يُزوَّج لغير حاجة، ويُزوَّج للحاجة، وذلك بأن تظهر رغبته فيهن بدورانه حولهن وتعلقه بهن ونحو ذلك، أو بأن يحتاج إلى مَن يخدمه ويتعهده ولا يجد في محارمه من يُحَصِّل هذا.. أو بأن يتوقع شفاؤه بالنكاح، وإذا جاز تزويجه تولاه الأب ثم الجد ثم السلطان دون سائر العصبات، كولاية المال، وإن كان المجنون صغيرًا لم يصح تزويجه على الصحيح] اهـ.
أما الطلاق: فالأصل أنه حَقٌّ يملكه الزوج وحده؛ لما رواه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ»، فلا يملك أحدٌ غير الزوج طلاق امرأته إلا إذا فوَّضه هو في ذلك، فيجوز حينئذٍ؛ لأن الأصل أن يتصرف الإنسان بنفسه، لكن هذا الأصل فيمن تصح عبارته، ولذلك فإن المجنون لا يصح طلاقه حال جنونه، ويصح ويعتبر حال إفاقته؛ وقد روى الأربعة -واللفظ للنسائي- عن علي وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ».
قد اختلف الفقهاء: هل للولي أن يطلق زوجة المجنون الذي تحت ولايته عليه؟ فذهب الجمهور إلى أنه ليس له ذلك، وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
يقول الإمام السرخسي الحنفي في كتابه "المبسوط" (25/ 24، ط. دار المعرفة، بيروت): [ولو كان للصبي امرأة فخلعها أبوه أو أجنبي أو طلَّقها أو أعتق عبده, ثم أجاز الصبي بعد ما كبر فهو باطل؛ لأنه لا مجيز لهذا التصرف عند وقوعه، فالطلاق والعتاق محض ضرر عاجل في حقه فلا يعتبر فيه عقله ولا ولاية الولي عليه؛ لأن ثبوت الولاية عليه لتوفير المنفعة له لا للإضرار به] اهـ.
وقد ذكر الحنفية أن المجنون حال جنونه كالصبي في أحكامه -كما يستفاد من "رد المحتار" للعلامة ابن عابدين (3/ 25، ط. دار الكتب العلمية)-؛ وليس ذلك إلا لاشتراكهما في فقدان أهلية الأداء، والجنونُ والصغرُ من الأسباب الموجبة للحَجر.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" من كتب الشافعية (2/ 212، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(فرعٌ: لا يعاملُ الطفلَ وصيٌّ).. والقاضي وأمينه كالوصي، والمجنون والسفيه كالطفل.. (ولا يُطلِّق زوجته ولا يخالعها)؛ لأن الطلاق لمن أخذ بالساق] اهـ.
وقال العلامة البُهوتي في "شرح منتهى الإرادات" من كتب الحنابلة (3/ 59، ط. عالم الكتب): [(وليس لأب صغيرة أن يخالع) زوجها (من مالها) كغيره من الأولياء؛ لأنه لا حظ لها فيه، (ولا لأب) زوج صغير أو مجنون أو (سيدهما)، أي: الصغير والمجنون (أن يخالعا أو يطلِّقا عنهما)، أي: الصغير والمجنون؛ لحديث: «الطَّلاقُ لمَن أخذَ بالسَّاقِ»] اهـ.
ومستند هذا القول: أن الأصل أن الطلاق بيد الذي يحل له الفرج -كما أشار إليه حديث ابن ماجه السابق-، ولأنه إسقاط لحَقِّ المجنون فلم يملكه الوَلِيّ؛ كالإبراء من الدَّين، وإسقاط القصاص، ولأن طَرِيقَهُ الشهوةُ فلم يدخل في الولاية. "المغني" (7/ 270، ط. دار إحياء التراث العربي).
وقد نُقِل عن بعض السلف جواز تطليق الولي زوجة المجنون الذي تحت ولايته إن كان في ذلك مصلحة له؛ قال عطاء: يُطَلِّق وَلِيّ المُوَسوَس، ولينظر عسى أن يفيق، وقال سعيد بن المسيب: طلاق المعتوه المغلوب على عقله ليس بشيء، طلاقه إلى وَليِّه. "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 27).
وهو أيضًا قول المالكية؛ جاء في "مختصر خليل وشرحه" للعلامة الخرشي (4/ 17، ط. دار الفكر): [(ص) وموجبه -أي: الخلع- زوج مكلف. (ش) أي: وموجب العوض على ملتزمه من زوجة أو غيرها زَوجٌ مُكَلَّف، أي: صدور الطلاق مِن زوج.. فلا يجب العوض بطلاق صبي ولا مجنون، وبعبارة وموجبه: أي: طلاق الخلع، أي: موقعه، لا العوض.. (ولو سفيهًا).. (ص) أو وَلِيّ صغير أبًا أو سيدًا أو غيرهما (ش) أي: كما يوجبه طلاق زوج مكلَّف يوجبه أيضًا وَلِيّ صغير، أي: صدور طلاق منه، كان الولي أبًا أو سيدًا أو وصيًّا أو سلطانًا أو مقام سلطان على وجه النظر -أي: المصلحة- في الجميع، ويلزم الصغير طلقة بائنة.. ومثل الصغير المجنون؛ فالنظر لوليه] اهـ.
والخُلع طلاقٌ عند المالكية كما هو معلوم. "مواهب الجليل" للحطاب (4/ 19، ط. دار الفكر)، و"الشرح الصغير" لسيدي أحمد الدردير (2/ 518 مع "حاشية الصاوي"، ط. دار المعارف).
ويرى بعض الحنابلة جواز أن يُطَلِّق وَلِيُّ المجنون عليه، لكن ليس ذلك في عموم الأولياء، بل هو عندهم في خصوص الأب دون غيره ممن يملك التزويج؛ كوَصِيّ الأب والحاكم؛ لأنها ولاية يستفيد بها المجنون ملك البُضع، فجاز أن يملك بها إزالته. "المغني" (7/ 41).
القانون المصري لم يُصَرِّح في مواده بحُكم تطليق ولِيّ المجنون على من تحت ولايته، إلا أن الفقه القانوني سار على مذهب الجمهور. انظر: "موسوعة الفقه والقضاء في الأحوال الشخصية" للمستشار محمد عزمي البكري (4/ 20، ط. دار محمود)، وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لتعديلات قانون الأحوال الشخصية رقم (100) لسنة 1985م أن الأحكام القانونية الخاصة بالأحوال الشخصية إن لم يُنَص عليها فإنه يُحكَم فيها بأرجح الأقوال من مذهب أبى حنيفة، ما عدا ما استثني مِن ذلك. وهو ما أفتت به دار الإفتاء المصرية سابقًا؛ فقد جاء في الفتوى الصادرة عن مفتي الديار المصرية الأسبق ورأس السادة الحنفية في زمانه الشيخ بكري الصدفي بتاريخ جمادى الأولى 1328هـ ما نَصُّه: [مَن فيه أهلية الطلاق هو: الزوج العاقل البالغ المستيقظ، فلا يقع طلاق والد الصغير ولا طلاق المجنون ولا طلاق النائم ولا طلاق الصبي ولو مراهقًا] اهـ، وبنحوه في فتوى أخرى للشيخ حسن مأمون -المفتي الأسبق- بتاريخ أول رمضان 1378هـ الموافق 10 مارس 1959م.
على ذلك: فليس للولي أن يطلِّق زوجة المحجور عليه لجنون، وإن رأى ذلك فله رفع الأمر إلى القاضي للنظر فيه، فالقاضي وحده هو من يملك إيقاع الطلاق في مثل هذه الحالة إذا تَحَقَّق عنده ما يوجب الطلاق شرعًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.