بِاسم رئيس وأعضاء المجلس الإسلامي للإفتاء في الداخل الفلسطيني نرفع أسمى معاني الشكر والتقدير لهيئة وإدارة وعلماء مجمعكم الكريم ونسأل الله تعالى لكم الثبات والسداد والرشاد.
وإننا -وإذ نبارك هذه الجهود الطيبة المباركة- نتوجه إليكم بطرح هذه المسألة التي عمَّت بها البلوى وشاعت في حياتنا الاجتماعية على مختلف الأقطار والأمصار؛ وهي مسألة طلاق الغضبان والطلاق البدعي؛ حيث إنه وكما هو معلوم لديكم ونظرًا لانتشار ظاهرة التلاعب بألفاظ الطلاق على ألسنة الأزواج بصورة لم يسبق لها مثيل من قبل، ومعظم هؤلاء الذين يتلفظون بالطلاق لا يقفون عند حدوده وآثاره، ثمَّ يبحث بعد ذلك يلتمس الفتوى ويطرق أبواب المفتين، ولعل الذي يتوسل أمام باب المفتي عادةً هي الزوجة التي وقع عليها الطلاق.
ويقف المفتي حائرًا بين أمرين أحلاهما مر:
إمَّا أن يفتي بوقوع طلاق الغضبان ما دام أن الزوج يدرك ويعي ما يقول، وإما أن يقلد قول بعض أهل العلم ممن لا يوقعون طلاق الغضبان في حالة الغضب الشديد ولو كان يدرك ما يقول، أو أن يقلد قول من يقول بعدم وقوع الطلاق البدعي؛ وذلك من باب لمِّ شمل الأسرة، ونظرًا لانتشار هذه الظاهرة المقيتة. وتستدعي الحاجة والضرورة تقليد هؤلاء الأئمة في الانتهاء لا في الابتداء؛ أي عندما تتوقف الحياة الزوجية على تقليدهم وذلك في الطلقة الثالثة، وإلا لترتب على القول بوقوع الطلاق -عملًا بقول المذاهب الأربعة- أن تعيش آلاف البيوت بلا مبالغة في الحرام في بلادنا.
الأمر الذي دفع المجلس الإسلامي للإفتاء أن يبحث عن رخصة فقهية ولو مرجوحة للحفاظ على الأسرة، وإلا لتمزقت الأسر بسبب تهور الأزواج والعبث غير المسؤول.
ولمَّا كانت هذه المسألة من الحساسية بمكان، ولا يتصور أن تُبحث على نطاق مجلسنا الضيق، كما أنه لا يمكن بسبب ظروف بلادنا السياسية إجراء تعديل على قانون الأحوال الشخصية الذي ينص تقليدًا للمذهب الحنفي على وقوع الطلاق البدعي والطلاق في حالة الغضب، بل إن القضاة عندما يتوصل الطرفان إلى اتفاق على استمرارية الحياة الزوجية وإغلاق ملف الطلاق يوجهونه علينا كمجلس إفتاء لاستصدار فتوى بإمكانية الاستمرار. وإننا في المجلس الإسلامي للإفتاء نقف حائرين ومضطربين أمام هذه المسائل لأن المنهجية عندنا عدم الخروج عن المذاهب الأربعة إلا بموجب قرار صادر عن مجمع فقهي، ولذا قررنا أن نتوجه لمجمعكم الكريم بتعميم هذه المسألة على أعضاء المجمع كي نخرج برأيٍ جماعيٍّ تطمئن النفس باتباعه وتطبيقه بخصوص هذه المسألة، ونؤكِّد سلفًا أن المجلس لن يعمم هذه الفتوى، بل ولن يفتي بها ابتداءً، وإنِّما ستكون من قبيل الإفتاء الخاص المعيَّن، وذلك في حالة توقف الحياة الزوجية على قول من يقول بعدم وقوع الطلاق البدعي والغضب الشديد في الطلقة الثالثة وليس في المرتين الأوليين.
وختامًا نسأل الله تعالى لكم التوفيق في الدارين. والله وليُّ المؤمنين.
أولًا: االطلاق تصرفٌ شرعيٌّ يتم بإرادةٍ منفردةٍ، وتترتب عليه آثارٌ شرعيةٌ معيَّنة، فيجب إذا صدر أن يصدر عن إرادةٍ حرة، وعن اختيارٍ كامل، ولذلك لم يوقع الفقهاء طلاق الصبي؛ لعدم اكتمال إرادته، ولم يوقعوا طلاق المجنون؛ لفساد إرادته، وعلى ذلك يُحمَل ما نُقِل من اختلاف العلماء في طلاق الغضبان؛ فإنه مبنيٌّ على اختلافهم في تحقيق مناط الإرادة التامة حال نطق الغاضب بالطلاق.
والذي عليه العمل في الديار المصرية إفتاءً وقضاءً أنه لا يقع طلاق الغضبان إذا وصل به الأمر إلى الإغلاق الذي جاء في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» رواه الحاكم في "المستدرك"، والمراد بالإغلاق: إمَّا عدم الإدراك؛ وهو أن يغلق عليه عقله وتفكيره فلا يعي ما يقول وما يفعل، وإمَّا عدم الإملاك؛ وهو أن لا يصل إلى هذه الحالة، ولكنه يغلب عليه الاضطراب والخلل في أقواله وأفعاله؛ فيسبق اللـفظ منه بلا قصد لـه إليه، أو من غير تفكيرٍ في معناه، أو استيعابٍ لمآل ما يقول، أو يسيطر عليه الغضب بحيث لا يستطيع منع نفسه من التلفظ بالطلاق فيخرج منه رغمًا عنه، أو يبلغ به الغضب مبلغًا يملك عليه اختياره، أو يمنعه من التثبت والتروي ويخرجه عن حال اعتداله.
والحق أن كلمة إغلاق كلمة عامة لا تختص بالغضب وحده، وإنما تشمل كل حالة لا يكون فيها العقل سليمًا، ولا الإرادة كاملة؛ فقد أغلق عليه باب التصرف الصحيح.
فالمطلِّق طلاقًا صريحًا: إما أن يكون مدركًا مالكًا؛ فطلاقه واقعٌ بالاتفاق، وإما أن يكون غير مالكٍ ولا مدرك؛ فطلاقه غير واقعٍ بالاتفاق، وإما أن يكون مدركًا غير مالك؛ فقد اختلف في وقوع طلاقه، والذي عليه العمل والفتوى في الديار المصرية عدمُ الوقوع.
ثانيًا: المنصوص عليه فقهًا أن الطلاق الصريح تطلق به الزوجة بمجرد إيقاعه؛ سواء كان وقوعه في حالة الطهر أو في حالة الحيض متى كان صادرًا من أهله؛ لأن وقوعه إزالة للعصمة وإسقاط للحق فلا يتقيد بوقت معين؛ وقد وردت آيات الطلاق مُطْلَقَةً، ولا يوجد من النصوص ما يقيدها فوجب القول بوقوعه.
والطلاق في الحيض أو في طهرٍ جامَعَ الزوجُ فيه زوجتَه هو طلاقٌ بدعيٌّ محرم، ورغم ذلك فهو طلاقٌ واقعٌ يترتب عليه آثاره باتفاق الأئمة الأربعة المَتبُوعين، وصاحبه آثمٌ شرعًا؛ لمخالفته لأمر الشرع، وما ورد من النهي عن الطلاق في وقت الحيض إنما كان لأمر خارج عن حقيقته؛ وهو الإضرار بالزوجة بتطويل العدة عليها.
المحتويات
أولًا: الطلاق تصرفٌ شرعيٌّ يتم بإرادةٍ منفردةٍ، وتترتب عليه آثارٌ شرعيةٌ معيَّنة، فيجب إذا صدر أن يصدر عن إرادةٍ حرة، وعن اختيارٍ كامل، ولذلك لم يوقع الفقهاء طلاق الصبي؛ لعدم اكتمال إرادته، ولم يوقعوا طلاق المجنون؛ لفساد إرادته، وعلى ذلك يُحمَل ما نُقِل من اختلاف العلماء في طلاق الغضبان؛ فإنه مبنيٌّ على اختلافهم في تحقيق مناط الإرادة التامة حال نطق الغاضب بالطلاق.
والذي عليه العمل في الديار المصرية إفتاءً وقضاءً أنه لا يقع طلاق الغضبان إذا وصل به الأمر إلى الإغلاق الذي جاء في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، والإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه"، وابن ماجه في "سننه"، والبخاري في "التاريخ الكبير"، وأبو يعلى في "مسنده"، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، وابن الأعرابي في "معجمه"، والطبراني في "مسند الشاميين"، والدارقطني في "سننه"، والحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح على شرط مسلم، والبيهقي في "السنن الكبرى" و"معرفة السنن والآثار" من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو حديث ثابت أخرجه الأئمة في مصنفاتهم وأوردوه مورد الاحتجاج، وتضعيف أبي حاتم الرازي لمحمد بن عبيد بن أبي صالح المكي -أحد رواته- غير مفسَّر، ثم هو مُقابَلٌ بتوثيق ابن حبان وتصحيح الحاكم، كما أن البيهقي رواه من غير طريقه، والحديث قد سكت عنه أبو داود فهو صالحٌ عنده، فأقل أحواله أن يكون حسنًا.
المراد بالإغلاق: إمَّا عدم الإدراك، وهو أن يغلق عليه عقله وتفكيره فلا يعي ما يقول وما يفعل، وإمَّا عدم الإملاك، وهو أن لا يصل إلى هذه الحالة، ولكنه يغلب عليه الاضطراب والخلل في أقواله وأفعاله؛ فيسبق اللـفظ منه بلا قصد لـه إليه، أو من غير تفكيرٍ في معناه، أو استيعابٍ لمآل ما يقول، أو يسيطر عليه الغضب بحيث لا يستطيع منع نفسه من التلفظ بالطلاق فيخرج منه رغمًا عنه، أو يبلغ به الغضب مبلغًا يملك عليه اختياره، أو يمنعه من التثبت والتروي ويخرجه عن حال اعتداله.
فالمطلِّق طلاقًا صريحًا إما أن يكون مدركًا مالكًا فطلاقه واقعٌ بالاتفاق، وإما أن يكون غير مالكٍ ولا مدرك فطلاقه غير واقعٍ بالاتفاق، وإما أن يكون مدركًا غير مالك فقد اختلف في وقوع طلاقه، والذي عليه العمل والفتوى في الديار المصرية: عدمُ الوقوع.
وقد ورد تفسير الإغلاق بالغضب عن كثير من السلف والأئمة وأهل اللغة؛ قال العلامة ابن قيم الجوزية الحنبلي في "زاد المعاد" (5/ 195، ط. مؤسسة الرسالة): [وأما طلاق الإغلاق فقد قال الإمام أحمد في رواية حنبل: وحديث عائشة رضي الله عنها سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لَا طَلَاقَ إِغْلَاقٍ» يعني: الغضب، هذا نص أحمد حكاه عنه الخلال، وأبو بكر في "الشافي"، و"زاد المسافر"، فهذا تفسير أحمد، وقال أبو داود في "سننه": أظنه الغضب، وترجم عليه: باب الطلاق على غلط، وفسره أبو عبيد وغيره بأنه الإكراه، وفسره غيرهما بالجنون، وقيل: هو نهي عن إيقاع الطلقات الثلاث دفعة واحدة، فيغلق عليه الطلاق حتى لا يبقى منه شيء، كغلق الرهن، حكاه أبو عبيد الهروي. قال شيخنا –يعني: ابن تيمية-: وحقيقة الإغلاق: أن يغلق على الرجل قلبه، فلا يقصد الكلام، أو لا يعلم به، كأنه انغلق عليه قصده وإرادته. قلت: قال أبو العباس المبرد: الغلق: ضيق الصدر، وقلة الصبر بحيث لا يجد مخلصًا، قال شيخنا: ويدخل في ذلك طلاق المكره والمجنون، ومن زال عقله بسكر أو غضب، وكل من لا قصد له ولا معرفة له بما قال] اهـ.
وقال أيضًا في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (3/ 47، ط. دار الكتب العلمية): [إذا أخطأ من شدة الغضب لم يؤاخَذ بذلك، ومن هذا قولُه تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾ [يونس: 11]، قال السلف: هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله في حال الغضب، ولو استجابه الله تعالى لأهلكه وأهلك من يدعو عليه، ولكنه لا يستجيبه لعلمه بأن الداعي لم يقصده، ومن هذا: رفعُه صلَّى الله عليه وآله وسلم حكم الطلاق عمن طلق في إغلاق، قال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية حنبل: هو الغضب، وبذلك فسره أبو داود، وهو قول القاضي إسماعيل بن إسحاق أحد أئمة المالكية ومقدم فقهاء أهل العراق منهم، وهي عنده من لغو اليمين أيضًا؛ فأدخل يمين الغضبان في لغو اليمين وفي يمين الإغلاق، وحكاه شارح "أحكام عبد الحق" عنه -وهو ابن بزيزة الأندلسيُّ- قال: وهذا قول عليٍّ وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهما من الصحابة: أن الأيمان المنعقدة كلها في حال الغضب لا تلزم، وفي "سنن الدارقطنيِّ" بإسناد فيه لين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: «لَا يَمِين فِي غَصَبٍ، وَلَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ»، وهو إن لم يثبت رفعه فهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وقد فسَّر الشافعيُّ «لا طلاق في إغلاق» بالغضب، وفسَّره مسروق به، فهذا مسروق والشافعيُّ وأحمد وأبو داود والقاضي إسماعيل كلهم فسَّروا الإغلاق بالغضب، وهو من أحسن التفسير؛ لأن الغضبان قد أغلق عليه باب القصد لشدة غضبه، وهو كالمكره، بل الغضبان أولى بالإغلاق من المكره؛ لأن المكره قد قصد رفع الشر الكثير بالشر الذي هو دونه، فهو قاصد حقيقة، ومن ها هنا أوقع عليه الطلاق من أوقعه، وأما الغضبان فإن انغلاق باب القصد والعلم عنه كانغلاقه عن السكران والمجنون؛ فإن غَوْل العقل يغتاله الخمر بل أشدُّ، وهو شعبة من الجنون، ولا يشكُّ فقيه النفس في أن هذا لا يقع طلاقه، ولهذا قال حبر الأمة- الذي دعا له النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، بالفقه في الدين-: "إنما الطلاق من وطر" ذكره البخاريُّ في "صحيحه"؛ أي: عن غرض من المطلِّق في وقوعه، وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه، وإجابة دعاء رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم له؛ إذ الألفاظ إنما تترتب عليها موجباتها لقصد اللافظ بها] اهـ.
وجاء في "المصباح المنير" (مادة غلق): [ويمين الغلق: أي يمين الغضب، قال بعض الفقهاء: سُمِّيَتْ بذلك؛ لأن صاحبها أغلق على نفسه بابًا في إقدام أو إحجام] اهـ.
والحق أن كلمة إغلاق كلمة عامة لا تختص بالغضب وحده، وإنما هي تشمل كل حالة لا يكون فيها العقل سليمًا، ولا الإرادة كاملة، فقد أغلق عليه باب التصرف الصحيح؛ قال العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين" (3/ 88): [وأما الإغلاق فقد نص عليه صاحب الشرع، والواجب حمل كلامه فيه على عمومه اللفظي والمعنوي؛ فكل من أغلق عليه باب قصده وعلمه كالمجنون والسكران والمكره والغضبان فقد تكلم في الإغلاق، ومن فسره بالجنون أو بالسكر أو بالغضب أو بالإكراه فإنما قصد التمثيل لا التخصيص، ولو قدر أن اللفظ يختص بنوع من هذه الأنواع لوجب تعميم الحكم بعموم العلة؛ فإن الحكم إذا ثبت لعلة تعدى بتعديها وانتفى بانتفائها] اهـ.
والمتأمل فيما يُحكَى من خلاف العلماء في وقوع طلاق الغضبان: يتضح له أن مرد الأمر أولًا وأخيرًا إلى ركن الطلاق باعتباره تصرفًا شرعيًّا يتم بإرادةٍ حرةٍ منفردةٍ، واختيارٍ كاملٍ، وتترتب عليه آثارٌ شرعيةٌ معينة، وأن خلافهم يكاد يكون خلافًا ظاهريًا؛ وإيقاع طلاق الغضبان عند من أوقعه منهم مُنصَرِفٌ إلى من لم يوصله الغضب إلى حالةٍ يزول معها عقله ولا ينغلق فيها الحال عليه؛ ذلك أنهم لا يختلفون قط حول من ذهب عقلُه بجنونٍ أو عتهٍ، فاتفقوا على عدم وقوع الطلاق، ومن ظن منهم أن الغضب يؤثر على العقل قال بعدم وقوع الطلاق؛ إذ إنه لا بد من وجود الإدراك لتحقق أدنى قدرٍ من الإرادة؛ وذلك بعدم غياب العقل حال التطليق، ولا ريب أنه لا إرادة إلا مع العقل؛ لأنها وليدة ذلك العقل، فإذا زال العقل زالت الإرادة، وإذا نقص نقصت.
من المعروف أن للغضب آثارًا جسمانية (فسيولوجية)، وأخرى نفسية (سيكولوجية)، فمن الآثار الجسمانية: ما يصاحبه من احمرار الوجه، واحتقان العينين، ورعدة في العضلات، وعلو في الصوت، وقوة قد لا يجد الغضبان مثلها في حالته الطبيعية، وقد عزا أهل الطب هذه العوارض وغيرها لأوامر تصدر من المخ إلى إحدى الغدد الصماء في الجسم، وهي غدة قشرة الكلى أو الغدة الكظرية، ومن ثم تفرز هذه الغدة مباشرة في الدم بعض الهرمونات، منها: هرمون الأدرينالين، وهو المسئول عن ظهور تلك العوارض.
وقال نفرٌ من أهل الطب: إن هذا الإفراز يتفاوت قلة وكثرة وفق عاملين:
أحدهما: سبب الغضب نفسه، وما يدعو إليه من درجات الشدة.
والثاني: وهو الشخص نفسه؛ لأن هذا الهرمون قد يزيد عند شخص، ويقل عند آخر، وبزيادته تزداد علامات الغضب ومظاهرُه شدةً، والعكس بالعكس.
وقالوا: إن من آثار ذلك الهرمون ارتفاع ضغط الدم، وسرعة نبضات القلب حتى يستطيع أن يمد العضلات بالغذاء استعدادًا لما ينتظر من ردٍّ عدوانيٍّ عضليٍّ إلى غير ذلك. انظر: كتاب "القلب والشرايين" (76) د. رضوان قناوي.
وقال أهل علم النفس: إن الغضب ينشأ عن عوامل وراثية، وأخرى مكتسبة، وقالوا: إن من مظاهره التفوه بألفاظ، والتصرف بأفعال ما كانت تؤلف من صاحبها وهو في حالته الطبيعية، فالغضب إذن له تأثيرات تتفاوت قوةً وضعفًا بالنظر إلى سببه من ناحية، وبالنظر إلى طبيعة الإنسان من ناحيةٍ أخرى، وهي طبيعة تختلف من واحدٍ لآخر.
وبذلك لا ينكِر منكِرٌ أن للغضب تأثيرًا على العقل، ومن ثم على الإرادة؛ فترى الأب الذي يكاد يذوب حبًّا لولده الصغير في ثورة غضبه ينهال عليه ضربًا في حدة وشدة، فإذا هدأ أخذه الندم والحسرة، وبادر إلى استعطاف ولده وترضيه، فتصرفه إذن لم ينشأ عن إرادة حرة وقصد صحيح؛ ولذلك كانت وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن طلب منه التعليم: «لَا تَغْضَبْ»، فردد مرارًا قال: «لَا تَغْضَبْ» أخرجه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما، ولذا فإن الشريعة السمحاء بما تضمنته من حكمة رفيعة حظرت على القاضي أن يقضي بين خصمين وهو غضبان؛ لأن العدل وليد العقل، والغضب يؤثر على العقل نقصًا أو إزالة، فلا عدل مع هذا التأثير، وإذا كان الكثير من العلماء لا يوقعون طلاق السكران؛ لتأثير الكحول على العقل فينبغي أن يكون الغضب –في مراحل معينة– كذلك؛ لتأثير ما يفرزه الجسم من مواد كيماوية تؤثر على العقل، ولا ريب أن الذين قالوا بعدم تأثير الغضب على الطلاق، واحتجوا بأن الرجل لا يطلق زوجته –عادة– إلا في حالة الغضب إنما نظروا لحالات الغضب العادية، والتي لا تخرج الإنسان عن وعيه، ولا تنأى بإرادته عن سلطانه، وبذلك يقع الطلاق وليد إرادة صحيحة رغم الغضب الذي لم يتعاظم إلى الحد الذي يؤثر عليها، ولكن هناك –من ناحية أخرى– نوباتُ غضبٍ تعصفُ بصاحبها عصفًا، فلا تبقي له عقلًا، ولا تذر له إرادة.
ممن اعتنى بالنظر إلى تأثير الغضب على العقل وأثر ذلك على وقوع الطلاق وفصَّله ووضحه: الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الذي يقول في "إعلام الموقعين" (4/ 40): [وقسم شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- الغضب إلى ثلاثة أقسام: قسم يزيل العقل كالسكر، فهذا لا يقع معه طلاق بلا ريب، وقسم يكون في مبادئه بحيث لا يمنعه من تصور ما يقول وقصده، فهذا يقع معه الطلاق، وقسم يشتد بصاحبه، ولا يبلغ به زوال عقله، بل يمنعه من التثبت والتروي ويخرجه عن حال اعتداله، فهذا محل اجتهاد، والتحقيق أن الغلق يتناول كل من انغلق عليه طريق قصده وتصوره كالسكران والمجنون والمبرسم والمكره والغضبان، فحال هؤلاء كلهم حال إغلاق، والطلاق إنما يكون عن وطر؛ فيكون عن قصد المطلق وتصور لما يقصده، فإن تخلف أحدهما لم يقع طلاق] اهـ.
وقال أيضًا في "زاد المعاد" (4/ 42): [والغضب على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يزيل العقل، فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع، والثاني: ما يكون في مباديه بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصده، فهذا يقع طلاقه، الثالث: أن يستحكم ويشتد به، فلا يزيل عقله بالكلية، ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال، فهذا محل نظر، وعدم الوقوع في هذه الحالة قوي متجه] اهـ.
وعقد العلامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" (2/ 438) مطلبًا في طلاق المدهوش أشار فيه إلى قول ابن القيم في طلاق الغضبان، وعدم وقوعه في بعض الأحوال، ثم قال: [والذي يظهر لي: أن كلًّا من المدهوش والغضبان لا يلزم فيه أن يكون بحيث لا يعلم ما يقول، فإن بعض المجانين يعرف ما يقول ويريده، ويذكر ما يشهد الجاهل به بأنه عاقل، ثم يظهر منه في مجلسه ما ينافيه، بل يكفي لطلاق المدهوش والغضبان غلبة الهذيان على كل منهما، واختلاط الجد بالهزل فيه حتى يُعَدَّ طلاقه كطلاق المعتوه والمغمى عليه في عدم الوقوع] اهـ.
وجاء في "المختصر النافع" (ص: 221) في فقه الإمامية عند ذكر أركان الطلاق: [الركن الأول في المطلق، ويعتبر فيه البلوغ والعقل والاختيار والقصد، فلا اعتبار بطلاق الصبي، ولا يصح طلاق المجنون، ولا السكران، ولا المكره، ولا المغضب من ارتفاع القصد] اهـ.
وجاء في "الفقه على المذاهب الأربعة" (1/ 294) بعد أن قسم الغضب ثلاثة أقسام حسب تقسيم ابن القيم قال: [والجمهور على أن القسم الثالث –وهو الغضب العادي– يقع به الطلاق، ونسب للأحناف أن القسم الأول -وهو أشد مراحل الغضب– هو الذي لا يقع به الطلاق] اهـ.
والتقسيم الذي أشار إليه الشيخ ابن تيمية وتبعه عليه تلميذه ابن القيم -رحمهما الله تعالى- يجري على أحدث نظريات علم النفس كما يطابق واقع الحياة الإنسانية، فلا جرم أن هناك مرتبة من الغضب تَصُمُّ صاحبها عن أن يسمع حقًّا، وتعميه أن يرى واقعًا، فتراه يتكلم ويتصرف بأسلوب لم يؤلف منه قط، فقد يحطم آنية، وقد يؤذي نفسه إلى تصرفات لا تخضع لعقل ولا تنجم عن إرادة، فمن ذا الذي يستطيع أن يوقع طلاق مثل هذا الغضبان في الوقت الذي يحاول فيه الإسلام لم شعث الأسر.
والطلاق –كما أشرنا من قبل– عمل إرادي لا بد أن ينشأ عن إرادة حرة مختارة، والذين لم يوقعوا طلاق المكره يلزمهم ألا يوقعوا طلاق الغضبان المغلق عليه، بل ذلك أولى؛ فإن طلاق المكره قد يتصور أنه وليد الإرادة؛ لأن المكره مخيرٌ بين أمرين: بين البلاء الذي يهدَّد بوقوعه عليه، وبين أن يطلِّق، فهو يختار الطلاق باعتباره ضررًا أخف يدرأ به عن نفسه ويلات الضرر الأشد، أما الغضبان فلا اختيار عنده قط، ولا إرادة له أصلًا، وذلك عندما يشتد استحكام الغضب على عقله، بحيث لا يشعر بما يقول ويفعل، وهو الغضب الذي لا يقع معه طلاقٌ بلا نزاع، لكن إذا كان الغضب في مباديه بحيث لا يؤثر على العقل، ولا تنغلق به الإرادة، ولم يقع صاحبه تحت تأثيره النفسيِّ أو العصبيِّ، بل كان الطلاق صادرًا بقصد صاحبه وإرادته الحرة المدركة للمعاني والمآلات والعواقب: فهو واقع بغير شبهة.
أما النوع الثالث فهو محل النظر بين العلماء؛ لأنه نوع لم يُفقَدْ فيه العقل، ولكن نقصَ سلطانه، ولم يذهب بالإرادة، ولكن أضعف سلطان صاحبها عليها، فالغضبان غضبًا من هذه المرتبة تراه واعيًا لما يقول عارفًا بما يتصرف، ولكنه منساق لذلك انسياقًا لا يستطيع له دفعًا ولا ردًّا، فإن طلق فإنه يعلم أنه يطلق، ولكنه لا يستطيع إيقاف هذا الطلاق ولو كان في حالته الطبيعية ما طلق قط، بل تراه مندفعًا إليه حتى يتمه في سرعة خاطفة بكلمة أو كلمتين، وكأنما قوى غريبة عنه تسوقه إليه سوقًا، وبذلك تجد تصرفاته يغلب عليها الخجل، وأقواله ينتشر فيها الخطأ، وتحركاته يظهر منها الزلل، وبالجملة تراه غير طبيعي مرة يهذي، ومرارًا يفوه بألفاظ غير متناسقة، ولا مفهومة، ولا تتصور من مثله، ومن ثم يندفع إلى إيقاع الطلاق اندفاعًا لا يستطيع أن يوقفه من نفسه، وإن كان عالمًا متنبهًا له، ومن علامات هذه المرتبة من الغضب أنه إن صدر من صاحبه تصرف كالطلاق مثلًا فإنه لم يصدر عنه إلا بسبب الغضب، فلم يكن قبل الغضبة يريد أن يطلق زوجته قط، وعندما يهدأ تراه يندم ندمًا شديدًا، وبذلك يكون الغضب قد حال بينه وبين نيته، وأغلق عليه قصده، وبذلك تأثرت إرادته، فأصبحت ناقصة في الحرية والاختيار.
وإذا كان طلاق الصبي لا يعتد به، والصبي هو من جاوز السابعة، فهو مميز، ولكن تمييزه ناقص لم يكتمل، فأحرى أن يعتبر الغضبان –من تلك المرتبة- مثل الصبي؛ لما تأثرت به إرادته كما تأثرت إرادة الصبي، وما قلناه من عدم وقوع الطلاق في هذه الحالة عدم الإملاك هو ما اعتمده أهل العلم والمفتون في الديار المصرية قديمًا وحديثًا: يقول العلامة الشيخ محمود شلتوت –شيخ الأزهر الأسبق– في كتابه "الفتاوى" (ص: 310، ط. دار الشروق): [فقد جرينا –نحن المفتين والقضاة– على الإفتاء أو الحكم بوقوع الطلاق على مذاهب معينة قد تشهد الحجة القوية لغيرها في عدم وقوعه، والرأي أنا لا نفتي ولا نحكم بوقوع طلاق إلا إذا كان مجمعًا من الأئمة على وقوعه، فإن الحياة الزوجية ثابتةٌ بيقين، وما يَثبت لا يُرفع إلا بيقين مثله، ولا يقين في طلاق مختلف فيه. وعلى هذا فلا نحكم بوقوع الطلاق في قول اللاعب الهازل مع زوجه أو غيرها: أنت طالق أو هي طالق، ولا في قول البائع: عليَّ الطلاق أن هذه السلعة بكذا. وكذلك لا يقع طلاق وهو في حالة سكر أو غضب يملك عليه اختياره] اهـ.
وبذلك أفتى العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية الأسبق في طلاق المدهوش، وذلك في فتواه الصادرة بتاريخ 13 يونيو سنة 1920م؛ حيث أشار إلى أقوال ابن القيم، ثم عقب على القسم الأخير –وهو مرحلة الغضب المتوسط– بقوله: [والأدلة تدل على عدم نفوذ أقواله] اهـ.
وأفتى بذلك الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية الأسبق، في فتواه الصادرة بتاريخ 13 أكتوبر سنة 1936م، فقال: [إذا صدرت صيغة الطلاق المذكورة من هذا الرجل، وهو غضبان غضبًا شديدًا بحيث أصبح لا يعي ما يقول وقته أصلًا، وأصبح يغلب الخلل في أقواله وأفعاله لم يقع بهذه الصيغة طلاق؛ لعدم أهلية الزوج للإيقاع في هذه الحالة: أما إذا لم يصل به الغضب إلى الحالة المذكورة وقع بالصيغة المذكورة] اهـ.
وأفتى بذلك الشيخ حسن مأمون مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر الأسبق، في مثل هذا الأمر، في فتواه الصادرة بتاريخ 10 مارس سنة 1959م فقال: [إذا أوقع الرجل الطلاق، وهو في ثورة هياج، وفي غير وعيه لا يقع؛ لأن طلاق الغضبان لا يقع في حالتين: الأولى: أن يبلغ به الغضب نهايته، فلا يدري ما يقوله ولا يقصده. والثانية: ألا يبلغ به الغضب هذه الغاية، ولكنه يصل به إلى حالة الهذيان، فيغلب الخلل والاضطراب في أقواله وأفعاله] اهـ.
وعلى ذلك: فإن للغضب بالنسبة لوقوع الطلاق حالتين: حالة الغضب التي تفقد الإنسان وعيه بما حوله، وتعدمه حرية الإرادة لما يفعل ويقول بحيث يغدو في حالة من الهياج تجعله يتكلم ويتصرف بغير وعي ولا إرادة: فهذه الحالة لا يقع فيها الطلاق بالاتفاق، وهي المعبر عنها بحالة عدم الإدراك.
وأما حالة الغضب الذي لم يتعاظم إلى الدرجة السابقة، ولكنه بلغ فيها من القوة حدًّا طغى فيه على إرادة الغضبان، فجعله يصدر أقوالًا وأفعالًا يعيها ولكنه لا يقصدها، أو لايستطيع حمل نفسه على التوقف عنها، أو يقولها من غير تفكيرٍ في معناها، أو استيعابٍ لمآلاتها وعواقبها، أو بلغ فيها الغضب مبلغًا يملك على صاحبه اختياره -كما يقول الشيخ محمود شلتوت-، أو يمنعه من التثبت والتروي ويخرجه عن حال اعتداله -كما يقول الشيخ ابن تيمية-: فالمعمول به والذي عليه الفتوى -وهو الذي تدل عليه أدلة الشرع وأصوله- أن الطلاق فيها غير واقع أيضًا، وهي المعبر عنها بحالة عدم الإملاك، ومن علامات هذه الحالة أن تلك الأقوال والأفعال تتولد عند ثورة الغضب فحسب، وليس لدى صاحبها نية سابقة، ولا موافقة لاحقة، ومن ثم فهي أقوال وتصرفات بغير إرادة كاملة.
ثانيًا: المنصوص عليه فقهًا أن الطلاق الصريح تطلق به الزوجة بمجرد إيقاعه سواء كان وقوعه في حالة الطهر أو في حالة الحيض متى كان صادرًا من أهله؛ لأن وقوعه إزالة للعصمة وإسقاط للحق فلا يتقيد بوقت معين؛ وقد وردت آيات الطلاق مُطْلَقَةً غير مقيدة، ولا يوجد من النصوص ما يقيدها فوجب القول بوقوعه، والطلاق في الحيض أو في طهرٍ جامَعَ الزوجُ فيه زوجتَه هو طلاقٌ بدعيٌّ محرم، ورغم أن الطلاق البدعيَّ محرمٌ -لتطويله العدة على المرأة إذا كان قد طلقها في الحيض، أو لاحتمال حصول الحمل وهو لا يدري فيندم على تطليقها إذا كان قد طلقها في طهر جامعها فيه- فإنه مع ذلك طلاقٌ واقعٌ يترتب عليه كل الآثار باتفاق الأئمة الأربعة المَتبُوعين، وبِدعية الطلاق في الحيض لا تستلزم عدم وقوعه، وإنما هو واقعٌ وصاحبه آثمٌ شرعًا؛ لمخالفته لأمر الشرع، وقد وردت آيات الطلاق مطلقة غير مقيدة ولا يوجد من النصوص ما يقيدها، فوجب القول بوقوعه، وأما ما ورد من النهي عن الطلاق في وقت الحيض فقد كان لأمر خارج عن حقيقته؛ وهو الإضرار بالزوجة بتطويل العدة عليها.
قد استدل الجمهور بما رواه الإمام البخاري عن ابن عمرَ رضِي اللهُ عنهما أنه طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا: «فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»؛ يعني قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1]، أي مستقبلات لعدتهن، وقد بوَّب على ذلك الإمام البخاري في "الصحيح" بقوله: (باب إذا طُلِّقَت الحائضُ يُعتَدُّ بذلك الطلاق)، وأورد فيه من طرُقٍ عدةٍ حديث ابن عمر رضي الله عنهما لَمَّا طلَّق امرأته في الحيض، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، وأمر عمر أن يأمره بمراجعتها: فأورد من طريق أنس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما قال: طلَّق ابنُ عمر امرأتَه وهي حائض، فذكر عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «لِيُرَاجِعْهَا»، قلت: أتُحتَسَبُ؟ قال: «فمَهْ». ومن طريق يونس بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»، قلت: تُحتَسَبُ؟ قال: «أرأيتَ إن عَجز واسْتَحْمق»، ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حُسِبَتْ عليَّ بتطليقة، وأخرج في موضع آخر عن نافع قال: وكان عبد الله رضي الله عنه إذا سُئِل عن ذلك قال لأحدهم: "إن كنتَ طلقتَها ثلاثًا فقد حَرُمَتْ عليك حتى تنكح زوجًا غيرك"، وجاء التصريح بذلك أيضًا فيما رواه الدارقطني في "سننه" أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أرأيت يا رسول الله لو طلقتُها ثلاثًا؟، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَن عَصَيْت رَبَّك، وَبَانَتْ مِنْك امْرَأتُك»، ومعنى قوله: «أرأيتَ إن عجز واستحمق» -كما قال الإمام المهلب-: [يعنى أرأيت إن عجز في المراجعة التي أُمِر بها عن إيقاع الطلاق واستحمق، أي: فقد عقله فلم تمكن منه الرجعة، أتبقى معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة؟ وقد نهى الله عن ترك المرأة بهذه الحال، فلا بد أن يحتسب بتلك التطليقة التي أوقعها على غير وجهها، كما أنه لو عجز عن فرض آخر لله تعالى، فلم يقمه واستحمق فلم يأتِ به، أكان يعذر بذلك وسقط عنه؟ وهذا إنكار على من شك أنه لم يعتد بتلك التطليقة] اهـ. نقلًا عن "شرح البخاري" لابن بطال (7/ 385، ط. مكتبة الرشد).
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في "اختلاف الحديث" (8/ 661، ط. دار المعرفة ملحقًا بكتاب "الأم"): [أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج: أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه: هل حُسِبَتْ تطليقةُ ابن عمر رضي الله عنهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم. قال الشافعي: حديث مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر عمر رضي الله عنه أن يأمر ابن عمر رضي الله عنهما أن يراجع امرأته، دليل بيِّن على أنه لا يقال له: راجع، إلا ما قد وقع عليه طلاقه؛ لقول الله في المطلقات: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ [البقرة: 228]، ولم يقل هذا في ذوات الأزواج، وإن معروفًا في اللسان بأنه إنما يقال للرجل: راجع امرأتك، إذا افترق هو وامرأته. وقد وافق نافعًا غيره من أهل التثبيت في الحديث، فقيل له: أحسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله تطليقة؟ فقال: فَمَه؟ أَوَانُ عَجْزٍ، يعني أنها حُسِبت. قال: والقرآن يدل على أنها تحسب، قال الله عز وجل: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229]، لم يخصص طلاقًا دون طلاق] اهـ.
وقال الإمام ابن بطال في "شرح البخاري" (7/ 384): [الطلاق يقع في الحيض عند جماعة العلماء، وإن كان عندهم مكروهًا غير سنة، ولا يخالف الجماعة في ذلك إلا طائفة من أهل البدع لا يعتد بخلافها، فقالوا: لا يقع الطلاق في الحيض ولا في طهر قد جامع فيه، وهذا قول أهل الظاهر، وهو شذوذ لم يعرج عليه العلماء؛ لأن ابن عمر الذي عرضت له القصة احتسب بتلك التطليقة وأفتى بذلك] اهـ.
وقال الإمام القسطلاني في "إرشاد الساري" (8/ 128، ط. المطبعة الأميرية): [أجمع على ذلك أئمة الفتوى، خلافًا للظاهرية والخوارج والرافضة حيث قالوا: لا يقع لأنه منهي عنه فلا يكون مشروعًا لنا قوله عليه الصلاة والسلام لعمر: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» وكان طلقها في حالة الحيض، والمراجعة بدون الطلاق محال، ولا يقال: المراد بالرجعة الرجعة اللغوية وهي الرد إلى حالها الأول لا أنه يجب عليه طلقة؛ لأن هذا غلط؛ إذ حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية مقدم على حمله على الحقيقة اللغوية كما تقرر في الأصول، ولأن ابن عمر رضي الله عنهما صرح في الحديث بأنه حسبها عليه طلقة] اهـ. بتصرف.
كما أن الرجعة لا تكون إلا بعد طلاق، وما دام النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر ابن عمر رضي الله عنهما بأن يراجع زوجته؛ فهذا دليل على إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوقوع الطلاق من ابن عمر رضي الله عنهما، وإن خالف طريق السنة في وقوعه، وقد أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرَ ندبٍ لا أمرَ إيجابٍ بالمراجعة؛ لِالْتزام السنة في أمر الطلاق، ولا يخفى على أحد أن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هو أحد الصحابة الذين كانوا دائمًا يحرصون ويتلمسون طريق السنة التماسًا.
والقول بعدم وقوع الطلاق في الحيض يؤدي إلى إيقاف وقوع الطلاق وأيلولته إلى المرأة؛ فقد تدَّعي المرأة كذبًا خاصة عند فساد الذمم وضعف النفوس أنها كانت حائضًا، وهي مصدَّقة فيما تحكيه عن نفسها؛ لأنه لا يُعلم حيضها وطهرها إلا من جهتها.
وعليه: فإذا طلق الرجل زوجته طلاقًا صريحًا طلقت الزوجة بمجرد إيقاعه، سواء أكان وقوعه في حالة الطهر أم في حالة الحيض متى كان صادرًا من أهله؛ لأن وقوعه إزالة للعصمة وإسقاط للحق، فلا يتقيد بوقت معين.
هذا الرأي الذي عليه جمهور الفقهاء من السلف والخلف هو ما جرى عليه العمل في قانون الأحوال الشخصية بالديار المصرية؛ حيث إن المواد الخاصة بالطلاق قررت إيقاع كل طلاق صدر من الزوج في حال الاختيار وعدم الإغلاق، ولم تستثنِ منه الطلاق في حال الحيض ولا في حال الطهر الذي مسها الزوج فيه؛ لأنه طلاق واقع من أهله وصادف محلًّا قابلًا لإيقاعه؛ فقرر في المادة الخامسة من القانون رقم 100 لسنة 1985م أن: [كلَّ طلاقٍ يقع رجعيًّا، إلا المكمِّل للثلاث والطلاق قبل الدخول والطلاق على مالٍ وما نُصَّ على كونه بائنًا في هذا القانون والقانون رقم 25 لسنة 1920م] اهـ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.