ما هو توقيت الفطر والفجر للصائم؟ حيث طلبت وزارة العدل المصرية الاستفسار عن الرأي الفقهي والفلكي بالنسبة لموعدي الإفطار والإمساك والفجر للصائم، وبيان صحة المواعيد المعمول بها حاليًّا.
المجمع عليه بين المسلمين سلفًا وخلفًا، جيلًا بعد جيل، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وطوائفهم وأعصارهم وأمصارهم: أن وقت إفطار الصائم إنما يحين بتمام غروب الشمس واختفاء قرصها، لا بعد ذلك، ولا قبله، وأن وقت الإمساك هو وقت الفجر الصادق، علامته الدقيقة المنضبطة هي: أن يظهر ضوؤه ويبزغ خيطًا دقيقًا معترضًا في الأفق الشرقي مختلطًا بظلمة آخر الليل.
وعلى ذلك دلّت النصوص الشرعية القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الأمة سلفًا وخلفًا، حتى صار يُشكِّل جزءًا من هُوية الإسلام الثابتة وأحكامه القطعية.
يضاف إلى ذلك إقرارُ هذا الوقت من علماء مصر على مَرِّ عقودٍ من الزمان؛ حيث كان علم الهيئة من العلوم المقررة في الأزهر الشريف، ولم ينكر ذلك أحدٌ من أهل العلم والفتوى في مصر على مدى قرنٍ من الزمان، مع توقف صلاتهم وصيامهم على صحة ذلك، وهم أئمة الأمة وسادة أهل العلم فيها؛ فكان ذلك إجماعًا واضحًا من علماء مصر وفلكيّيها وأهل الهيئة فيها على صحة هذا التوقيت.
كما أن هذا التوقيت هو ما اعتمده الفلكيون العرب والأوربيون وغيرهم في العصر الحديث، وبه أخذت تقارير الهيئات الفلكية والمؤسسات الرصدية المتخصصة المعتمدة في علوم الفلك في البلاد العربية والإسلامية، بل وفي دول العالم كله.
فالتوقيتُ الحاليُّ صحيحٌ يَجبُ الأخذُ به؛ لأنه ثابِتٌ بإقرارِ المُتخصِّصين، وهو ما استَقَرَّت عليه اللِّجانُ العِلمية، فلا يجوز إنكارُه ولا يسوغ الخلاف فيه، ولا يجوز الالتفات إلى الأقوال الباطلة والدعاوى الكاذبة والآراء الشاذة التي تخالف إجماع المسلمين وتطعن في القطعي من الدين، وقد تكفل الدستور المصري بتقويض أمثال هذه الدعاوى حين نص على أن أحكام الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع.
المحتويات
أوَّلًا: موعد إفطار الصائم:
وقتُ الإفطار في الصوم إنما يكونُ بغروب الشمس، وذلك ثابت بالكتاب الكريم، والسُنَّة النبوية الشريفة، وفهم الصحابة والسلف الصالح، واتفاق أهل اللغة، وإجماع الأمة سلفًا وخلفًا، جيلًا عن جيل، عبر الأمصار والأعصار:
من الكتاب: قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187].
وهذه آيةٌ محكَمَةٌ تبين أن موعد الصوم يبدأ من طلوع الفجر الصادق وينتهي ببداية الليل، وقد أجمع المفسرون سلفًا وخلفًا على أن المقصود بالليل هو غروب الشمس:
قال الإمام الشافعي في "الأم" (2/ 105، ط. دار المعرفة): [الوقت الذي يَحْرُمُ فيه الطعامُ على الصائم: حين يتبين الفجرُ الآخرُ معترضًا في الأفق -وكذلك بلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أن تغيب الشمس، وكذلك قال الله عز وجل: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾] اهـ.
وقال الإمام أبو الليث السمرقندي الحنفي (ت: 373هـ) في تفسيره "بحر العلوم" (1/ 186، ط. دار الكتب العلمية): [﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ أي: إلى أول الليل، وهو غروب الشمس] اهـ.
وقال الإمام الماوردي الشافعي (ت: 450هـ) في تفسيره "النكت والعيون" (1/ 247، ط. دار الكتب العلمية): [﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ يعني به: غروب الشمس] اهـ.
وقال الإمام محيي السنة البغوي الشافعي (ت: 510هـ) في "تفسيره" (1/ 231، ط. دار إحياء التراث العربي): [﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ فالصائم يحرم عليه الطعام والشراب بطلوع الفجر الصادق ويمتد إلى غروب الشمس، فإذا غربت حصل الفطر] اهـ.
وقال الإمام ابن عطية المالكي (ت: 542هـ) في تفسيره "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" (1/ 259، ط. دار الكتب العلمية): [والليل الذي يتم به الصيام: مغيبُ قُرص الشمس] اهـ.
وقال الإمام الفخر الرازي الشافعي (ت: 606هـ) في تفسيره "مفاتيح الغيب" (5/ 274، ط. دار إحياء التراث العربي): [لَمَّا بحثنا عن حقيقة الليل في قوله: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ وجدناها عبارة عن زمان غيبة الشمس؛ بدليل أنَّ الله تعالى سمَّى ما بعد المغرب ليلًا مع بقاء الضوء فيه] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي (ت: 620هـ) في "الكافي" (1/ 438، ط. دار الكتب العلمية): [ووقت الصوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، لقول الله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾] اهـ.
وقال الإمام الخازن الشافعي (ت: 741هـ) في "لباب التأويل في معاني التنزيل" (1/ 117، ط. دار الكتب العلمية): [فإذا تحقق طلوع الفجر الثاني وهو الصادق حرم على الصائم الطعام والشراب والجماع إلى غروب الشمس وهو قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾] اهـ.
وقال الإمام الحافظ ابن كثير الشافعي (ت: 774هـ) في تفسيره "تفسير القرآن العظيم" (1/ 517، ط. دار طيبة): [وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكمًا شرعيًّا] اهـ.
أمّا السُنَّة النبوية المشرفة فأحاديثها الدالّة على ذلك كثيرة؛ منها:
- حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَابَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» متفق عليه.
قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (7/ 209، ط. دار إحياء التراث العربي): [معناه: انقضى صومُهُ وَتَمَّ، ولا يوصف الآن بأنه صائم، فإنَّ بغروب الشمس خرج النهار ودخل الليل، والليل ليس محلًّا للصوم] اهـ.
- وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر وهو صائم، فلما غربت الشمس قال لبعض القوم: «يَا فُلَانُ، قُمْ فَاجْدَحْ لَنَا»، فقال: يا رسول الله، لو أمسيتَ؟ قال: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا»، قال: يا رسول الله، فلو أمسيت؟ قال: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا»، قال: إن عليك نهارًا، قال: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا»، فنزل فجدح لهم، فشرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: «إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» متفق عليه.
قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (7/ 211): [وفيه بيانُ انقضاء الصوم بمجرد غروب الشمس واستحباب تعجيل الفطر] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (4/ 198، ط. دار المعرفة): [وفي حديثي الباب -يعني: حديث عمر وحديث ابن أبي أوفى رضي الله عنهما- من الفوائد: بيان وقت الصوم وأن الغروب متى تحقق كفى، وفيه إيماء إلى الزجر عن متابعة أهل الكتاب؛ فإنهم يؤخرون الفطر عن الغروب] اهـ.
أمّا فهم الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنه؛ فهو متواترٌ عنهم قولًا وفعلًا من غير خلاف بينهم؛ فمن ذلك:
- ما أخرجه الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف": عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت جالسًا مع ابن مسعود رضي الله عنه فوق بيته، فوجبت الشمس (أي: غربت)، فقال عبد الله رضي الله عنه: "هذا والذي لا إله غيره حين أفطر الصائم".
- وأخرج الحافظ إبراهيم بن إسحاق الحربي في "غريب الحديث" (2/ 878، ط. جامعة أم القرى): عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى الشَّمْسِ حِينَ غَرَبَتْ وَنَشَأَ اللَّيْلُ، فقال: هَذَا وَقْتُ الْمَغْرِبِ".
أمّا اتفاق أهل اللغة على أن الليل يبدأ من غروب الشمس، وأن ذلك هو آخر النهار:
فقد قال إمام أهل اللغة الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت: 170هـ) في كتاب "العين" (4/ 44، ط. دار ومكتبة الهلال): [والنَّهارُ: ضياء ما بينَ طلوع الفَجْر إلى غُروب الشَّمس] اهـ.
وكذلك قال الإمام أبو الحسن بن سيده في "المحكم والمحيط الأعظم" (4/ 303، ط. دار الكتب العلمية).
وقال الإمام أبو الحسن بن سِيده (ت: 458هـ) في "المحكم والمحيط الأعظم" (10/ 396): [اللَّيْلُ: عَقيبُ النَّهَارِ، ومَبْدَؤُهُ من غُروبِ الشَّمْسِ] اهـ.
وكذلك قال العلَّامة ابن منظور المصري (ت: 711هـ) في "لسان العرب" (11/ 607، ط. دار صادر).
وقال العلَّامة الفيومي (ت: 770هـ) في "المصباح المُنير" (2/ 561، ط. المكتبة العلمية): [وَاللَّيْلَةُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ] اهـ.
وقال العلَّامة مجد الدين الفيروزآبادي (ت: 818هـ) في "القاموس المُحيط" (1/ 1055، ط. مؤسسة الرسالة): [والنَّهارُ: ضِياءُ ما بينَ طُلوعِ الفَجْرِ إلى غُروبِ الشمسِ، أو من طُلوعِ الشمسِ إلى غُروبِها] اهـ.
أمَّا الإجماع:
فقد أجمعت الأمة الإسلامية قولًا وفعلًا، منذ أن بعث الله نبيه سيدنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم الناس هذا، بفقهائها ومحدثيها وعلمائها، بنقل الكافة عن الكافة، والخلف عن السلف، جيلًا عن جيل، عبر الأمصار والأعصار: على أنَّ وقت الصوم ينتهي بتمام غروب الشمس وغياب كامل قرصها، ونقل هذا الإجماعَ كلُّ أصحاب المذاهب الفقهية الإسلامية:
قال الإمام الحافظ محمد بن نصر المروزي (ت: 294هـ) في كتاب "قيام الليل" -كما في "مختصره" للعلامة المقريزي (ص: 71، ط. حديث أكادمي)-: [قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، فأجمع أهل العلم على أنَّ الشمس إذا غربت: فقد دخل الليل وحَلَّ فطر الصائم] اهـ.
وقال الإمام أبو محمد بن حزم الأندلسي (ت: 456هـ) في "مراتب الإجماع" (ص: 39، ط. دار الكتب العلمية): [وَاتَّفَقُوا على أَن الاكل لما يغذي من الطَّعَام مِمَّا يسْتَأْنف ادخاله فِي الْفَم وَالشرب وَالْوَطْء حرَام من حِين طُلُوع الشَّمْس إلى غُرُوبهَا، وَاتَّفَقُوا على أَن كل ذَلِك حَلَال من غرُوب الشَّمْس إلى مِقْدَار مَا يُمكن الْغسْل قبل طُلُوع الْفجْر الآخر] اهـ.
وقال الإمام الحافظ ابن عبد البر المالكي (ت: 463هـ) في "التمهيد" (10/ 62، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية): [والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، على هذا إجماع علماء المسلمين فلا وجه للكلام فيه] اهـ.
وقال الإمام العلامة أبو محمد بن السِّيدِ البَطَلْيَوْسِيُّ (ت: 521هـ) في "حل مشكلات موطأ مالك بن أنس" (ص: 121، ط. دار ابن حزم): [ودليل ذلك إجماع المسلمين على أن اليوم المفروض صومه أو المنذور: إنما هو من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس] اهـ.
وقال الإمام الحافظ أبو الحسن بن القطان المالكي (ت: 628هـ) في "الإقناع في مسائل الإجماع" (1/ 230-231، ط. الفاروق الحديثة): [وأجمعوا أنه إذا حلت صلاة المغرب حل الفطر، وأجمعوا أن صلاة المغرب من الليل، والله تعالى يقول: ﴿أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، واتفق العلماء على أن الليل من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر المعترض في الأفق إلا من لا يعد خلافه... واتفقوا على أن الأكل لِمَا يغذي من الطعام مما يستأنف إدخاله في الفم والشرب والوطء حرام من حين طلوع الفجر إلى غروبها، واتفقوا على أن كل ذلك حلال من غروب الشمس إلى مقدار ما يمكن الغسل من قبل طلوع الفجر الآخر] اهـ.
وقال الإمام الموفق بن قدامة الحنبلي (ت: 620هـ) في "المغني" (3/ 105، ط. مكتبة القاهرة): [والنهار الذي يجب صيامه: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، هذا قول جماعة علماء المسلمين] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي (ت: 676هـ) في "المجموع" (6/ 304، ط. دار الفكر): [ينقضي الصوم ويتم بغروب الشمس بإجماع المسلمين] اهـ.
بناءً على ذلك: فإن المجمع عليه بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وطوائفهم وأعصارهم وأمصارهم: أن وقت إفطار الصائم إنما يحين بتمام غروب الشمس واختفاء قرصها، لا بعد ذلك، ولا قبله، وعلى ذلك دلت النصوص القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الأمة سلفًا وخلفًا، وهذا من الأمور القطعية المجمع عليها التي صارت تشكل جزءًا من هوية الإسلام الثابتة وأحكامه القطعية؛ فلا يجوز إنكارُها ولا يسوغ الخلاف فيها، ولا يجوز الالتفات إلى هذه الأقوال الباطلة والدعاوى الكاذبة والآراء الشاذة التي تخالف إجماع المسلمين وتطعن في القطعي من الدين، وقد تكفل الدستور المصري بتقويض أمثال هذه الدعاوى حين نص على أن أحكام الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع.
ثانيًا: وقت الفجر الصادق:
الفجر يعرف بعلاماته التي جعلها الشارع أسبابًا دالةً عليه، وذلك بانتشار ضوئه المستطير في الأفق؛ كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بسنته بيانًا واضحًا: فرق فيه بين الفجر المستطير الصادق الذي يدخل به وقتُ صلاة الفجر والذي ينتشر ضوؤه يمينًا وشمالًا، وبين الفجر المستطيل الكاذب الذي هو كهيئة المخروط المقلوب.
أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الفَجْرُ»، وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل «حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا»، وقال زهير -أحد رواة الحديث- بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى، ثم مدها عن يمينه وشماله.
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/ 288، ط. مكتبة الرشد) عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْفَجْرُ فَجْرَانِ: فَأَمَّا الَّذِي كَأَنَّهُ ذَنَبُ السِّرْحَانِ، فَإِنَّهُ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَلَكِنِ الْمُسْتَطِيرُ». قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 136، ط. دار المعرفة): [أيْ: هو الذي يحرم الطعام ويُحل الصلاة] اهـ.
وأخرجه الدارقطني في "سننه" (3/ 114، ط. مؤسسة الرسالة) من حديث عبد الرحمن بن عائشٍ رضي الله عنه، وقال: "إسناده صحيح" اهـ.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 304، ط. دار الكتب العلمية) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: [هذا حديث صحيح على شرط الشيخين في عدالة الرواة ولم يخرجاه، وأظن أني قد رأيته من حديث عبد الله بن الوليد، عن الثوري موقوفًا والله أعلم، وله شاهد بلفظ مفسر، وإسناده صحيح] اهـ، ووافقه الحافظ الذهبي.
وقد فَهِم علماء الفلك المسلمون والمختصون في المواقيت عبر القرون هذه العلامات والمعايير الشرعية فَهمًا دقيقًا، ووضعوها في الاعتبار، وضبطوها بالمعايير الفلكية المعتمدة، ونقلوا ذلك جيلًا عن جيل، بالوسائل العلمية الصحيحة، والقواعد الفقهية الواضحة؛ بحيث صار التشكيك في فعلهم نوعًا من الجهل وضربًا من الهذيان.
فالحق الذي يجب المصير إليه والعمل عليه، ولا يجوز العدول عنه: هو أن توقيت الفجر المعمول به حاليًّا في مصر -وهو عند زاوية انخفاض الشمس تحت الأفق الشرقي بمقدار 19.5°- هو التوقيت الصحيح قطعًا، وأنه الذي جرى عليه العمل بالديار المصرية منذ القرون الإسلامية الأولى إلى يومنا هذا، وهو الذي استقر عليه عمل دار الإفتاء المصرية في كل عهودها، وهو ما كانت عليه مصلحة عموم المساحة المصرية منذ إنشائها سنة 1898م، ثم استمرت على ذلك بعد إنشاء الهيئة المصرية العامة للمساحة سنة 1971م، وهي المؤسسة المصرية الرسمية المختصة بإصدار التقاويم الفلكية المتضمنة لمواقيت الصلاة؛ طبقًا للقرار الجمهوري رقم 827 لسنة 1975م، والمعدل بالقرار الجمهوري رقم 328 لسنة 1983م، وهو ما استقر الموقتون وعلماء الفلك المسلمون عبر الأعصار والأمصار، ودلت عليه الأرصاد الصحيحة المبنية على الفهم الصحيح للفجر الصادق في النصوص الشرعية، وأن ما بين درجتي: 18°، و19.5° من انخفاض الشمس تحت الأفق الشرقي هو التوقيت الصحيح للفجر الصادق المتفق على اعتماده والعمل به في كل بلدان العالم العربي والإسلامي بلا استثناء.
هذا التوقيت للفجر الصادق مبني على أن وقته يبدأ من أول ظهور لعلامته، وعلامته الدقيقة المنضبطة: هي أن يظهر ضوؤه ويبزغ خيطًا دقيقًا معترضًا في الأفق الشرقي مختلطًا بظلمة آخر الليل، وإنما يكون ذلك في نطاق هذا المدى من الانخفاض الزاويّ لا بعد ذلك، وما يستتبعه ذلك من طول نسبيٍّ لوقت الفجر إلى شروق الشمس.
وهذا هو ما دلَّت عليه نصوص الوحيين: من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة القولية والفعلية، وأخذه الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطبقوه قولًا وعملًا، وبه جاءت الآثار المتكاثرة عنهم رضي الله عنهم، وعنهم أخذه السلف الصالح قاطبة.
وبذلك جاء كلام العرب الفصحاء الذين نزل القرآن بلغتهم، وبتأييده أتت نصوص أهل اللغة.
هذا هو الذي أجمع على تحريره واتفق على القول به فقهاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتعدد مشاربهم، وضبطوه بوسائلهم المتنوعة التي لا تُبقِي في تحديده طعنًا لطاعن، ولا رِيبةً لمتشكك، ولا مدخلًا لمشكِّك: بالوصف الدقيق لضوئه الصادق، وعن طريق منازل القمر، وعن طريق غروب القمر وطلوعه ليلتين من الشهر، وبحساب الساعات الفلكية المستوية، والساعات الزمانية، ودرجاتهما.
وعلى ذلك: أجمع المتخصصون من علماء الفلك والهيئة والموقتين المسلمين عبر القرون المتطاولة من غير خلاف؛ فاتفقوا على حساب زاوية انخفاض الشمس تحت أفقه الشرقي فيه: ما بين درجتي 18°، و20°؛ حيث حرروا ذلك بمراصدهم العظيمة؛ جماعات وفرادى، من غير زيادة على هذا المدى أو نقص عنه، وقد استقر راصدوهم ومحققوهم في القرن الثامن الهجري وما بعده على اعتماد درجة 19° ونقلوا الاتفاق على ذلك، ونصوصهم على ذلك أكثر من أن تحصر، ونصوا على أن اعتماد علماء الفلك العرب والمسلمين هذه الدرجة، أما علماء الفلك الأوروبيون فقد اعتمدوا درجة 18°.
كل ذلك وفق منهج علمي استقرائي دقيق، وفهم تراكمي عميق، ترجم -بأمانة بالغة- عمّا كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابُه، ونقلته الأمة الإسلامية قاطبة عن نبيها سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كتابًا وسنةً، وفهمًا وعلمًا، وعملًا وتطبيقًا، بطريق اليقين القطعي، والتواتر القولي والفعلي، الذي لا مدخل للتلاعب أو الاجتهاد فيه، من لدن العصر النبوي إلى يوم الناس هذا، جيلًا بعد جيل، عبر الأعصار والأمصار، شرقًا وغربًا، سلفًا وخلفًا، عربًا وعجمًا، من غير نكير، على غاية ما تكون الدقة في وصف علامته، وأبدع ما يكون الضبط في حساب وقته؛ بحيث لم ينازع أحد من المسلمين عبر القرون المتطاولة والأعصر المتتابعة في أنه وصل إلينا محدَّدًا مضبوطًا على الوجه الذي شرعه الله تعالى وأراده، وبلَّغه رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قولًا وفعلًا، حقًّا لا مرية فيه؛ حتى أصبح ذلك شائعًا مستقرًّا بين المسلمين؛ لا ينكره منهم منكِر، ولا يطعن فيه طاعن.
وعلى ذلك قام التقويم الفلكي المصري القديم والحديث، والذي قام به في الأصل علماء أجلاء جمعوا بين العلوم الشرعية والفلكية، وكذلك غيره من تقاويم بلاد المسلمين. وهو الذي اعتمده الفلكيون العرب والأوربيون وغيرهم في العصر الحديث، وبه أخذت تقارير الهيئات الفلكية والمؤسسات الرصدية المتخصصة المعتمدة في علوم الفلك؛ في البلاد العربية والإسلامية، بل وفي دول العالم كله.
أما ما يُدَّعَى من أن وقت الفجر هو قبل ذلك؛ كمن يدعي أنه على درجة 16.5°، أو على درجة 14.7°: فهو محض تخرص لا صحة له، بل ذلك شذوذٌ محضٌ خارج عن إجماع الأمة العملي المتوارث جيلًا عن جيل، واتفاق علمائها وفقهائها وموقتيها، ولا يجوز الأخذ به ولا التعويل عليه.
فإذا أضيف إلى ذلك إقرارُ هذه الدرجة من علماء مصر طيلة هذه العقود، حيث كان علم الهيئة من العلوم المقررة في الأزهر الشريف، ولم ينكر ذلك أحد من أهل العلم والفتوى في مصر على مدى قرن من الزمان، مع توقف صلاتهم وصيامهم على صحة ذلك، وهم أئمة الأمة وسادة أهل العلم فيها، كان ذلك إجماعًا واضحًا من علماء مصر وفلكييها وأهل الهيئة فيها على صحة هذا التوقيت لأذان الفجر.
وبتأييد صحة العمل بهذه الدرجة (18-19.5) صدر بيان "مركز الفلك الدولي" بتاريخ 18 رمضان 1436هـ، الموافق 5 يوليو 2015م، مؤكدًا اتفاق المتخصصين على أنه لا صحة للقول بأن موعد الفجر المبين في التقاويم متقدم عن الوقت الحقيقي لطلوع الفجر الصادق، ومبينًا أن كل بلدان العالم الإسلامي قاطبة تجعل صلاة الفجر ما بين (18-19.5)، وأن ما يثار عن أن بعض الجمعيات الفلكية تعتمد الزاوية 15 غير صحيح على الإطلاق.
فالتوقيتُ الحاليُّ صحيحٌ يَجبُ الأخذُ به؛ لأنه ثابِتٌ بإقرارِ المُتخصِّصين، وهو ما استَقَرَّت عليه اللِّجانُ العِلمية، ولا يجوز إثارةُ أمثالِ هذه المسائلِ التي لا أصل لها ولا يدل عليها نقل صحيح أو عقل صريح، بل هي تشوش على المسلمين أمر عباداتهم، وتشككهم في ثوابت دينهم.
وهذه الدعاوى، وإن كانت تُساق بحجة الاطمئنان على صحة صلاة المسلمين، إلا أنها تنطوي في حقيقة أمرها على الطعن في عبادات المسلمين وشعائرهم وأركان دينهم التي أَدَّوْها ومارسوها عبر القرون المتطاولة؛ من صلاة وصيام وغيرهما، فضلًا عما تستلزمه من تجهيل علماء الشريعة والفلك المسلمين عبر كل هذه العصور إلى يومنا هذا.
وإننا لنهيب بعموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن لا يلتفتوا إلى هذه الدعاوى التي تهرف بما لا تعرف؛ تشكيكًا للمسلمين في صلاتهم وطعنًا في ثوابتهم، وأن لا يأخذوا أحكام الدين إلا من أهل العلم المؤهلين، ولا يتركوا عقولهم نهبًا لكل من هب ودب؛ ممن يخرج بين الفينة والأخرى طعنًا في الثوابت وتشكيكًا في القطعيات.
والله سبحانه وتعالى أعلم.