ما حكم الدين في التحرُّش الجنسي بالأطفال؟
اهتمَّتِ الشريعة الإسلامية بالطفل منذ ولادته، بل ومن قبل ولادته، وجعلت له حقوقًا، وعَمِلَتْ على حمايته والمحافظة عليه، والتحرُّش الجنسي بالأطفال يُعَدّ من أشنع الأفعال وأقبحها في نظر الشرع الشريف، وكبيرةً من كبائر الذنوب تنأى عنها كل الفطر السويَّة، وانتهاكًا صارخًا للقيم الإنسانية في المجتمع، فهو قتلٌ للطفولة، وانتهاكٌ للبراءة، وهو أيضًا -إلى كونه فعلًا فاحشًا- غدرٌ وخيانةٌ؛ لأن الصغير لا يَعِي ولا يَفهَم ما يَقعُ عليه، كما أنَّ أهل الصغير لا يَتَحَرَّزُون مِن تَركِهِ مع الكبار؛ لأن الأصل أنه غير مُشتَهًى، واشتهاؤه إنما هو على خلاف الفطرة السليمة، فلا يصدر هذا الفعل إلا عن ذوي النفوس المريضة والأهواء الدنيئة التي تَتَوجَّه همَّتُها إلى التلطُّخ والتدنُّس بأوحال الشهوات بطريقةٍ بهيميةٍ، وبلا ضابطٍ عقليٍّ أو إنسانيّ، ولا يفكر فيه -فضلًا عن ممارسته- إلا الشُّذاذُ الذين نُزِعَت الرحمةُ من قلوبهم، بالإضافة إلى أنه من أفعال الفحش والتفحُّش التي يُبغضُ اللهُ عزّ وجلّ صاحبَها، وصدر بشأنها الوعيد الشديد في الشرع الشريف؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيء»، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْمُتَفَحِّشَ».
ومن هنا، فإن على أُولِي الأمر أن يتصدوا لهذه الجريمة النَّكراء بكلِّ حزمٍ وحسمٍ، وأن يأخذوا بقوةٍ على يدِ كلِّ مَن تُسَوِّل له نفسُه تلويثُ المجتمع بهذا الفعل المُشِين.
المحتويات
حرص الإسلام كلَّ الحرص على المحافظة على كرامة الإنسان وعِرضه، وجعل ذلك من المقاصد الكلية العُليا التي جاءت الشريعة بتحقيقها، وهي: (حفظ النفس، والعرض، والعقل، والمال، والدين)، وهي مقاصد جاءت بالمحافظة عليها كل الشرائع السماوية.
ومن عظمة الشريعة أنها ارتقت بها من رتبة الحقوق إلى رتبة الواجبات؛ فلم تكتف بجعلها حقوقًا للإنسان حتى أوجبت عليه اتخاذ وسائل الحفاظ عليها، ثم جعلتها مقدمة على حقوق الله المحضة؛ فتقرر في قواعدها: أنَّ حقوق الله مبنيَّة على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المُشَاحَّة؛ فلا يبرأ الإنسان من عهدتها حتى يؤدي الحقوق لأصحابها، وجعلت الشريعة انتهاك الحرمات والأعراض من كبائر الذنوب، كما أفردت الحفاظ على الأعراض بمزيد احتياط، فلم يكتف الشرع بتحريم الاعتداء عليها، بل حرَّم كل الطرق والوسائل التي قد تؤدي إلى ذلك؛ فحرم النظرة، والخلوة، والخضوع في القول؛ لأنها كلها قد تؤدي إلى الاعتداء على الأعراض.
كما دلَّت الآيات والأحاديث على قدر الحرمات في الشرع، وعلى عظم جريمة من ينتهكها؛ فقد أخرج الإمام البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا»، قالوا: يوم حرام، قال: «فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا»، قالوا: بلد حرام، قال: «فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا»، قالوا: شهر حرام، قال: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا»، فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه فقال: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ»، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فو الذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمَّتِه: «فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض».
ومن صور انتهاك الأعراض جريمة "التحرش".
و"التحرُّش" كما في "المعجم الوسيط" (1/ 189، ط. دار الدعوة): [مصدر "تَحَرَّش" به؛ أي: تعرَّض به ليَهِيجَه، وتحرش بالشَّيْء؛ أي: احتكَّ بِهِ، وَيُقَال: يتحكك بِي يتحرش، ويتعرض لي] اهـ.
وأصل "الحَرْش" في اللغة: التهييج والإفساد والخدش والإغراء.
ويُطلَق "التحرُّش" عرفًا على الأفعال والأقوال ذات الطَّابع الجنسي التي يُتَعرَّض بها للغير، أو تقديم مفاتحات جنسيٌة مهينة ومنحطٌة بُغْية الإثارة.
ومفهوم "التحرُّش الجنسي بالأطفال": هو جعل الطفل محلًّا لوقوع أفعال وسلوكيات جنسيَّة عن طريق التلامس، أو غيره من الحواس كالسمع والبصر، وسواءٌ أكان يفهمها أو يعيها، أو لا.
ويشمل التحرُّش بناءً على ذلك: الألعاب الجنسية، والاتصال الجنسي الذي يتضمن المداعبة بكافة أشكالها، إضافة لتعريض الطفل للمشاهد الإباحية، أو وضعه فيها، أو استخدام الطفل لإشباع الرغبات الجنسية لبالغٍ أو مراهقٍ.
والسنُّ الفاصل المعتبر لدى غالبية دول العالم هو 18 سنة؛ فكل شخص تحت سن الثامنة عشر يعد طفلًا بالنسبة إلى هذه الأحكام، ولا تناقض بين ذلك وبين إلزامه بالتكاليف الشَّرعيَّة بمجرد البلوغ، وذلك لاختلاف مناط الحكم؛ كما أن الشريعة قد ألزمت الأب بالإنفاق على الصغير حتى لو بلغ إذا كان عاجزًا عن الكسب، فمناط الحكم هنا هو ضعف العقل وعدم اكتمال الإدراك الذي قد لا يميز معه حقيقة الفعل الواقع عليه.
لقد اهتمَّتِ الشريعة الإسلامية بالطفل، فجعلت له حقوقًا وعَمِلَتْ على حمايته والمحافظة عليه؛ بدءًا من اختيار أمه؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تَخَيِّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَأَنْكِحُوا الْأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ» رواه ابن ماجه في "سننه"، والحاكم في "المستدرك"، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما.
واهتمت الشريعة بالطفل وهو جنين في بطن أمِّه حتى بلوغه؛ حيث منحته حقوقًا متعددة، وشرعت له من الأحكام ما يكفل استمراره وبقاءَه واستمرار نموه، وقررت عقوبات على من يعتدي عليه، ومن ضمن حقوق الطفل: "حسن المعاملة والرأفة والرفق به ورعايته وحمايته، واتِّباع الطريقة المثلى في تربيته وتأديبه وتوجيهه"، بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عدَّ إهمال القائم على الصغير من أكبر الإثم فقال: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» رواه الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود في "السنن"، والحاكم في "المستدرك" من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهو في "صحيح مسلم" بلفظ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ».
وقد اهتمت الشريعة اهتمامًا خاصًّا بالصحة النفسية للصغير، وتنشئته معافًىً نفسيًّا؛ لأن الصحة النفسية هي أساس أمن المجتمع وسلامته وانسجامه، فحرص الشرع على ملاعبته في الوقت الذي يحتاج فيه إلى الملاعبة، وعلى تأديبه في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تأديب، وحرص أن يكون تأديبه برفقٍ دون عنفٍ، وشدَّدَ على تعليمه الصلاة؛ لأنها أساس الاتِّزان النَّفسي والقوَّة الروحيَّة التي سيواجه بها الحياة بعد ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبَّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن بن عليٍ عليه السلام وعنده الأقرع بن حابسٍ التميمي جالسًا، فقال الأقرع: "إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا"، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ».
كما أنَّ الشرع قد بين أنَّ أهم عناصر السلامة النفسية للصغير هو ضبط المعلومة الجنسيَّة التي قد تصل إليه عن طريق إحدى حواسِّه؛ بحيث لا يتأذى الصغير نفسيًّا بمشهدٍ لا يجوز له رؤيته، أو معلومة صادمةٍ في مرحلة عمريَّةٍ يعيشها؛ وهذه هي الحكمة مِن شرع الأحكام.
كما أمر بالتفريق بين الجنسين في المضاجع عند بلوغ سنِّ التَّمييز؛ حفاظًا على الصغير والصغيرة؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» رواه الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود في "السنن".
لا شك أنَّ التَّحرُّش الجنسيَّ بالطِّفل قد يدمِّره نفسيًّا، ويخرجه إلى المجتمع شخصًا مشوَّهًا يحمل في قلبه العداوة لمن حوله، وقد ينظر إلى كلِّ أفراد المجتمع على أنهم نفس الشخص الذي اعتدى عليه، وربما أدَّى ذلك بكثيرٍ من الفتيات إلى رفض الزَّواج بسبب حادثةِ تحرُّشٍ حدثت لها في صغرها، وكم من الأشخاص من لا يفارقهم الشَّكُّ والأوهام الجنسية بسبب حادثةِ تحرش، أو مشهدٍ كان لا يليق أن يراه.
ولذلك حرص القانون المصري على سلامة الصَّغير، وتجريم كل محاولةٍ للمساس بسلامته الجسديَّة والنَّفسيَّةِ عن طريق التَّحرُّش الجنسي؛ فنصَّ قانون "العقوبات المصري" في المادة (306) مكرر ("أ") على أنَّه: [يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسة آلاف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين: كلُّ مَن تعرَّض للغير في مكانٍ عامٍّ أو خاصٍّ أو مطروقٍ، بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسيَّة أو إباحيَّة، سواء بالإشارة أو بالقول أو بالفعل أو بأيَّة وسيلة بما في ذلك وسائل الاتصالات السِّلكيَّة أو اللَّاسلكيَّة، وتكون العقوبة: الحبس مدَّة لا تقل عن سنة، وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه، وبإحدى هاتين العقوبتين إذا تكرر الفعل من الجاني من خلال الملاحقة والتتبع للمجنيِّ عليه، وفي حالة العودة تُضاعَفُ عقوبتا الحبس والغرامة في حدَّيهما الأدنى والأقصى] اهـ.
كما نصَّ في المادة (306) مكرر ("ب") على أنَّه: [يُعَدُّ تحرشًا جنسيًّا إذا ارتُكِبَت الجريمة المنصوص عليها في المادة (306) مكرر ("أ") من هذا القانون بقصد حصول الجاني من المجني عليه على منفعة ذات طبيعة جنسية، ويعاقب الجاني بالحبس مدة لا تقل عن سنة، وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين. فإذا كان الجاني ممن نصَّ عليهم في الفقرة الثانية من المادة (267) من هذا القانون، أو كانت له سلطة وظيفية أو أسرية أو دراسية على المجني عليه، أو مارس عليه أي ضغط تسمح له الظروف بممارسته عليه، أو ارتُكِبَت الجريمة من شخصين فأكثر، أو كان أحدهم على الأقل يحمل سلاحًا- تكون العقوبة الحبس مدةً لا تقل عن سنتين ولا تجاوز خمس سنين، والغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تزيد على خمسين ألف جنيه] اهـ.
بناءً عليه: فالتحرُّش الجنسي بالأطفال من الكبائر، ومن أشنع الأفعال وأقبحها في نظر الشرع الشريف، ولا يصدر هذا الفعل إلا عن ذوي النفوس المريضة والأهواء الدنيئة التي تَتَوجَّه همَّتُها إلى التلطُّخ والتدنُّس بأوحال الشهوات بطريقةٍ بهيميةٍ، وبلا ضابط عقليٍّ أو إنسانيّ.
وهذه الأفعال هي من الفحش والتفحُّش الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه عز وجل بُغضَه لصاحبها، وصدر بشأنها الوعيد الشديد من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فأخرج الترمذي في "سننه" والبخاري في "الأدب المفرد"، وابن حبان في "صحيحه"، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيء».
وأخرج الإمام أحمد في "مسنده"، وابن حبان في "صحيحه"، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْمُتَفَحِّشَ».
قال الإمام النووي في "شرحه على مسلم" (15 /78، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال القاضي: أصل الفحش الزيادة والخروج عن الحد. قال الطبري: الفاحش البذيء، قال ابن عرفة: الفواحش عند العرب القبائح، قال الهروي: الفاحش ذو الفحش، والمتفحش الذي يتكلف الفحش ويتعمده لفساد حاله. قال: وقد يكون المتفحش الذي يأتي الفاحشة] اهـ.
بناءً على ما سبق: فإن التحرُّش الجنسي بالأطفال كبيرةٌ من كبائر الذنوب تنأى عنها كل الفطر السويَّة، وانتهاكٌ صارخٌ للقيم الإنسانية في المجتمع، فهو قتلٌ للطفولة، وانتهاكٌ للبراءة، وهو -إلى كونه فعلًا فاحشًا- غدرٌ وخيانةٌ؛ لأن الصغير لا يَعِي ولا يَفهَم ما يَقعُ عليه، كما أنَّ أهل الصغير لا يَتَحَرَّزُون مِن تَركِهِ مع الكبار؛ لأن الأصل أنه غير مُشتَهًى، واشتهاؤه على خلاف الفطرة السليمة، ولا يفكر فيه -فضلًا عن ممارسته- إلا الشُّذاذُ الذين نُزِعَت الرحمةُ من قلوبهم، وعلى أُولِي الأمر أن يتصدوا لهذه الجريمة النَّكراء بكلِّ حزمٍ وحسمٍ، وأن يأخذوا بقوةٍ على يدِ كلِّ مَن تُسَوِّل له نفسُه تلويثُ المجتمع بهذا الفعل المُشِين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.