ما حكم الدعاء جهرًا عند الدفن، بأن يدعو الإمام ويؤمن الناس خلفه؟
الدعاء للميت على القبر بعد دفنه مستحبٌّ مُطلَقًا دونَ تقييدٍ بسرٍّ أو جهر، فالأمر في ذلك واسع ولا يصح التضييق فيه، على أن الجهر به آكد في الاستحباب والمشروعية، وصحّت به الأحاديث والآثار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة من بعده رضي الله عنهم من غير نكير، وهو في الجَمْعِ أرجى للقبول، وأيقظُ للقلب، وأَدعى للتضرع والذلة بين يدي الله تعالى، خاصة إذا كانت هناك موعظة؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَدُ اللهِ مع الجَماعةِ» رواه الترمذي -وحسَّنه- والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
المحتويات
من السنة أن يقف المشيعون للجنازة عند القبر ساعة بعد دفن الميت والدعاء له؛ لِما رواه أبو داود في "السنن" والحاكم في "المستدرك" وصححه، من حديث عثمان رضي الله عنه قال: كانَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا فَرَغَ مِن دَفنِ المَيِّتِ وَقَفَ عليه فقالَ: «استَغفِرُوا لأَخِيكم وسَلُوا له التَّثبِيتَ؛ فإِنَّه الآنَ يُسأَلُ»، وروى الإمام مسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قـال: «إذا دَفَنتُمُونِي فَشُنُّوا عليَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُم أَقِيمُوا حَولَ قَبرِي قَدرَ ما تُنحَرُ جَزُورٌ ويُقسَمُ لَحمُها حتى أَستَأنِسَ بكم وأَنظُرَ ماذا أُراجِعُ به رُسُلَ رَبِّي». وذلك إنما يكون بعد الدفن.
ويستحب أن يسبق الدعاءَ موعظةٌ موجزةٌ تذكّر بالموت والدار الآخرة؛ لِما في ذلك مِن ترقيق القلوب وتهيئتها للتضرع إلى الله تعالى، وجمع الهمة في الدعاء.
وقد خص المحدثون أبوابًا في مصنفاتهم لجمع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء للميت عند القبر.
فبوب الإمام أبو داود في "سننه" (باب الاستغفار عند القبر للميت) و(باب الدعاء للميت إذا وضع في قبره)، وبوب الإمام البيهقي في "الدعوات الكبير" (باب الاستغفار للميت عند القبر)، وبوب الإمام النووي في "خلاصة الأحكام" (باب استحباب المكث عند القبر بعد دفنه ساعة، والدعاء له بالتثبيت وغيره، وقراءة القرآن).
فعن علي كرم الله وجهه قال: كُنّا في جَنازةٍ في بَقِيعِ الغَرقَدِ، فأَتانا النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فقَعَدَ وقَعَدنا حَولَه، ومَعَه مِخصَرةٌ، فـنَكَّسَ، فجَعَلَ يَنكُتُ بمِخصَرَتِه، ثُم قالَ: «ما مِنكم مِن أَحَدٍ- ما مِن نَفسٍ مَنفُوسةٍ، إلّا كُتِبَ مَكانُها مِنَ الجَنّةِ والنّارِ، وإلّا قد كُتِبَ شَقِيّةً أو سَعِيدةً»، فقالَ رَجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، أفَلا نَتَّكِلُ على كِتابِنا؟ فقال: «اعمَلُوا؛ فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له» متفق عليه.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ بصر بجماعة، فقال: «عَلَامَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ؟» قيل: على قبر يحفرونه، قال: ففزع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبدر بين يدي أصحابه مسرعًا حتى انتهى إلى القبر، فجثا عليه، قال: فاستقبلتُه من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بل الثرى مِن دموعه، ثم أقبل علينا قال: «أَيْ إِخْوَانِي! لِمِثْلِ الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا» رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، والإمام أحمد في "المسند" واللفظ له، وابن ماجه في "السنن"، والبخاري في "التاريخ الكبير"، والطبراني في "المعجم الأوسط"، والبيهقي في "السنن الكبرى"، وحسَّنه الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 120، ط. دار الكتب العلمية)، والإمام النووي في "خلاصة الأحكام" (2/ 894، ط. مؤسسة الرسالة).
أما عن كيفية الدعاء للميت وهل يكون سرًّا أو جهرًا: فالمستحب أن يكون جهرًا، والأمر في ذلك واسع، والتنازع من أجل ذلك لا يرضاه الله ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنكار الدعاء على القبر جهرًا هو من البدع المذمومة؛ إذ قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء على القبر جهرًا، ومن البدعة تضييق ما وسَّع الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا شَرَع اللهُ سبحانه وتعالى أمرًا على جهة الإطلاق، وكان يحتمل في فعله وكيفية إيقاعه أكثرَ مِن وجه فإنه يؤخذ على إطلاقه وسعته ولا يصح تقييده بوجه دون وجه إلا بدليل، فكيف والجهر بالدعاء ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة الأكرمين رضي الله عنهم، والسلف الصالحين رحمهم الله تعالى.
ولا يخفى أن الدعاء جهرًا في جماعة هو أرجى للقبول وأيقظُ للقلب وأجمعُ للهمة وأَدعى للتضرع والذلة بين يدي الله تعالى، خاصة إذا كانت هناك موعظة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَدُ اللهِ مع الجَماعةِ» رواه الترمذي وحسَّنه والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما
فَمِمَّا صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء جهرًا عند المقابر:
ما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حائطٍ لبني النجارِ على بغلةٍ له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبُر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: «مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟» فقال رجل: أنا، قال: «فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟» قال: ماتوا في الإشراك، فقال: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ»، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ»، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ»، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ»، قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال".
وروى ابن أبي عاصم في "السنة" و"الآحاد والمثاني"، والطبراني في "المعجم الكبير" و"الأوسط" و"الدعاء"، وابن بطة في "الإبانة"، وغيرهم، -وأصله عند أبي داود في "السنن"- عن الحُصَيْنِ بن وَحْوَح رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء حتى وقف على قبر طلحة بن البراء رضي الله عنه، فَصَفَّ وَصَفَّ النَّاسَ مَعَهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ الْقَ طَلْحَةَ يَضْحَكُ إِلَيْكَ وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ»، قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 366، ط. مكتبة القدسي): [هو حسن إن شاء الله] اهـ.
وعلى ذلك جرى عمل الصحابة والسلف الصالحون رضي الله عنهم فيما نُقِلَ عنهم من آثار في الدعاء عند المقابر جهرًا، ولولا أنها سُمِعَت منهم جهرًا لَمَا نُقِلَتْ:
فأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة في "مصنفيهما" عن أبي مدرك الأشجعي، أن عمر رضي الله عنه إذا سوى على الميت قبره قال: "اللهم أَسلَمَه إليك الأهل والمال والعشيرة، وذنبه عظيم، فاغفر له".
وروى عبد الرازق وابن أبي شيبة في "مصنفيهما" عن عمير بن سعيد، قال: صليت خلف على بن أبي طالب رضي الله عنه على يزيد بن المكفف، فكبر عليه أربعًا، ثم أتى قبره، فقال: "اللهم عبدك، وولد عبدك، نزل بك وأنت خير منزول به، اللهم وسع له في مدخله، واغفر له ذنبه، فإنا لا نعلم منه إلا خيرًا وأنت أعلم به".
وروى الإمام أحمد في "مسنده" عن محمد بن سيرين: أن أنَس بن مالك رضي الله عنه شهدَ جنازة رجلٍ من الأنصار، قال: "فأظهَروا له الاستغفَار"، فلم ينكر ذلك أنس رضي الله عنه. قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 44): [ورجاله رجال الصحيح] اهـ.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، قال: كان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا سوى على الميت قبره قام عليه فقال: "اللهم عبدك رُدَّ إليك؛ فارأف به وارحمه، اللهم جاف الأرض عن جنبيه، وافتح أبواب السماء لروحه، وتقبله منك بقبول حسن، اللهم إن كان محسنًا فضاعف له في إحسانه، أو قال: فزد في إحسانه، وإن كان مسيئًا فتجاوز عنه".
وأخرج الإمام عبد الرزاق في "مصنفه" عن أيوب قال: وقف ابن المنكدر على قبر بعد أن فرغ منه، فقال: "اللهم ثبته، هو الآن يسأل".
وروى البيهقي في "شعب الإيمان" عن محمد بن حارث قال: لما دفن عمر بن ذَرٍّ ابنَه وقف على قبره فقال: "قد شغلنا الحزنُ لك عن الحزن عليك، ليت شعري ماذا تقول وماذا يقال لك! لولا هول المطلع لتمنيت اللحاق بك، اللهم إني قد وهبتُ له ما قصَّر فيه مِن بِرِّي، فاغْفر له ما قصَّر فيه مِن طاعتك".
ونص أهل العلم على أن للدعاء الجماعي مددًا للمتوفَّى وتأييدًا له؛ قال الإمام أبو عبد الله الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (3/ 226، ط. دار الجيل): [فالوقوف على الْقَبْر وسؤال التثبيت لِلْمُؤمنِ فِي وَقت دَفنه: مددٌ للْمَيت بعد الصَّلَاة؛ لِأَن الصَّلَاة بِجَمَاعَة الْمُؤمنِينَ كالعسكر لَهُ قد اجْتَمعُوا بِبَاب الْملك، فيشفعون لَهُ، وَالْوُقُوف على الْقَبْر لسؤال التثبيت: مدد الْعَسْكَر، وَتلك سَاعَة شغل الْمُؤمن؛ لِأَنَّهُ يستقبله هول المطلع وسؤال وفتنة فتاني الْقَبْر مُنكر وَنَكِير] اهـ.
ونص فقهاء المذاهب المتبوعة على جواز قراءة القرآن عند القبر سرًّا وجهرًّا، ولا يخفى أن الدعاء في معنى القراءة:
قال العلامة ابن مازة البخاري الحنفي في "المحيط البرهاني في الفقه النعماني" (5/ 311، ط. المكتبة العلمية): [وكان الفقيه أبو إسحاق الحافظ رحمه الله، حكى عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن إبراهيم أنه قال: لا بأس بأن يقرأ على المقابر سورة الملك؛ سواء أخفى أو جهر] اهـ.
وقال العلامة ابن نجيم الحنفي في "شرح كنز الدقائق" (8/ 235، ط. دار الكتب العلمية): [وفي "الخانية": أن قراءة القرآن عند القبور إن نوى أن يؤانسهم بصوته يقرأ، وإن لم يقصد ذلك فالله سبحانه وتعالى يسمع القرآن حيث كان] اهـ.
فالأمر بالدعاء عند القبر واسع يشمل كونه سرًّا أو جهرًا، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الأغلوطات وكثرة المسائل، وبيَّن أن الله تعالى إذا سكت عن أمر كان ذلك توسعة ورحمة على الأمة فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ فَرَضَ فَرائِضَ فلا تُضَيِّعُوها، وحَرَّمَ حُرُماتٍ فلا تَنتَهِكُوها، وحَدَّ حُدُودًا فلا تَعتَدُوها، وسَكَتَ عن أَشياءَ رَحمةً لكم مِن غيرِ نِسيانٍ فلا تَبحَثُوا عنها» رواه الدارقطني في "سننه" (5/ 325، ط. مؤسسة الرسالة) وغيره عن أبي ثَعلَبةَ الخُشَنِيِّ رضي الله عنه، وصحّحه ابنُ الصلاح، وحسّنه النوويُّ.
قال العلامة التَّفتازاني في "شرح الأربعين النووية": [(فلا تبحثوا عنها) ولا تسألوا عن حالها؛ لأن السؤال عما سكت اللهُ عنه يُفضِي إلى التكاليف الشاقة، بل يُحكَم بالبراءة الأصلية] اهـ.
وبيَّن رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فَداحةَ جُرمِ مَن ضَيَّق على المسلمين بسبب تَنقِيرِه وكثرة مسألته فقال: «أَعظَمُ المُسلِمِينَ في المُسلِمِينَ جُرمًا رَجُلٌ سأَلَ عن شَيءٍ ونَقَّرَ عنه فحُرِّمَ على النّاسِ مِن أَجلِ مَسأَلَتِه» رواه مسلم من حديث عامِرِ بنِ سَعدٍ عن أَبِيه رضي الله عنه.
وعن أَبي هُرَيرةَ رضي الله عنه قالَ: خَطَبَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فقالَ: «أيها النّاسُ، قد فَرَضَ اللهُ عليكم الحَجَّ فحُجُّوا»، فقالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عامٍ يا رسولَ الله؟ فسَكَتَ حتى قالَها ثَلاثًا، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لو قُلتُ "نعم" لَوَجَبَت، ولَما استَطَعتم»، ثُم قالَ: «ذَرُونِي ما تَرَكتُكم؛ فإنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبلَكم بكَثرةِ سُؤالِهم واختِلافِهم على أَنبِيائِهم، فإذا أَمَرتُكم بشَيءٍ فَأتُوا مِنه ما استَطَعتم وإذا نَهَيتُكم عن شَيءٍ فدَعُوهُ» متفق عليه.
قال العلامة الْمُناوي في "فَيض القدير شرح الجامع الصغير" (3/ 562، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [أي اتركوني من السؤال مدةَ تَركِي إياكم، فلا تتعرضوا لي بكثرة البحث عما لا يَعنِيكم في دِينكم مهما أنا تاركُكم لا أقول لكم شيئًا؛ فقد يوافق ذلك إلزامًا وتشديدًا، وخذوا بظاهر ما أمرتكم ولا تستكشفوا كما فعل أهل الكتاب، ولا تُكثِرُوا من الاستقصاء فيما هو مبيَّن بوجه ظاهر وإن صلح لغيره؛ لإمكان أن يكثر الجواب المرتب عليه فيُضاهِي قصةَ بقرة بني إسرائيل؛ شَدَّدُوا فشُدِّد عليهم، فخاف وقوعَ ذلك بأُمته صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
بناءً عليه: فالدعاء جهرًا عند المقابر مستحب مشروع، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير، وهو في الجمع أرجى للقبول وأيقظُ للقلب وأجمعُ للهمة وأَدعى للتضرع والذلة بين يدي الله تعالى، خاصة إذا كانت هناك موعظة؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَدُ اللهِ مع الجَماعةِ» رواه الترمذي -وحسَّنه- والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والله سبحانه وتعالى أعلم.