ماحكم سفر المرأة لمنحة علمية بدون محرم؟ فهناك امرأة متزوجة تعمل في مركز بحثي كبير، تيسَّر لها الحصولُ على منحة علمية خارج البلاد تستمر مدة ثلاثة أشهر، فهل يجوز لها السفر من غير زوج أو محرم لحضور هذه المنحة؟
يجوز لهذه المرأة السفر لحضور هذه المنحة العلمية مع الرفقة المأمونة بشرط الأمان وموافقة الزوج أو الولي؛ عملًا بقول الـمجيزين.
المحتويات
السَّفَر لغة: قطع المسافة، يقال ذلك إذا خرج للارتحال أو لقصد موضع فوق مسافة العدوى؛ لأن العرب لا يسمون مسافة العدوى سفرًا. "المصباح الـمنير في غريب الشرح الكبير" للفيومي (مادة: س ف ر، ص: 278، ط. المكتبة العلمية).
وشرعًا: هو الخروج على قصد قطع مسافة القصر الشرعية فما فوقها. "التعريفات" للجرجاني (ص: 52، ط. المطبعة الخيرية بـمصر)، و"الكليات" لأبي البقاء الكفوي (ص: 511، ط. مؤسسة الرسالة - بيروت)، و"جامع العلوم في اصطلاحات الفنون" للقاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري (2/ 123، ط. دار الكتب العلمية- بيروت).
وذلك على خلافٍ بين الفقهاء في مسافة القصر؛ فيرى الأحناف أنـها مسيرة ثلاثة أيام سير الإبل ومشي الأقدام، بينما يرى الـمالكية والشافعية والحنابلة أنـها مسيرة يومين معتدلين بلا ليلة، أو ليلتين بلا يوم، أو يوم وليلة.
المَحْرَمُ في اللغة: مَن لا يحل نكاحه؛ جاء في "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" للفيومي (ص: 132، مادة: ح ر م): [قال الأزهري: الـمحرم ذات الرحم في القرابة التي لا يحل تزوجها] اهـ.
وفي الشرع: هو من يجوز معه السفر والخلوة؛ فهو كل من حرم نكاح المرأة عليه؛ لحرمتها على التأبيد بسبب مباح.
فقولنا "على التأبيد": احترازًا من أخت الزوجة وعمتها وخالتها، وقولنا "بسبب مباح": احترازًا من أم الـموطوءة بشبهة، فإنـها ليست محرمًا بـهذا التفسير، فإن وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة، وقولنا "لحرمتها": احترازًا من الـملاعنة، فإن تحريـمها ليس لحرمتها، بل تغليظًا. "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (2/ 57، ط. مطبعة السنة المحمدية).
المختار للفتوى في شأن سفر المرأة لحضور منحة علمية من دون زوج أو محرم: هو جواز سفرها مع الرفقة المأمونة بشرط الأمان وموافقة الزوج أو الولي.
واسْتُدل على ذلك بما رواه الإمام البخاري في "صحيحه" عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ثم أتاه آخر فشكا قطع السبيل، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا عَدِيُّ، هَلْ رَأَيْتَ الحِيرَةَ؟» قلت: لم أرها وقد أنبئت عليها، قال: «فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللهَ». قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله. فدلَّ ذلك على الجواز؛ لأنه لو لم يجز ذلك لـما مدح به الإسلام. "البيان شرح الـمهذب" في مذهب الإمام الشافعي للعمراني (4/ 36، ط. دار المنهاج - جدة).
قلنا: وكذلك كلُّ سفرِ طاعةٍ.
ولا يقال: إنه لا يلزم من حديث عديٍّ جواز سفرها بغير مَحْرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن هذا سيقع ووقع ولا يلزم من ذلك جوازه، كما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم بأنه سيكون دجالون كذابون، ولا يلزم من ذلك جوازه. وذلك؛ لأن هذا الحديث خرج في سياق ذم الحوادث، أما حديث عدي فخرج في سياق الـمدح والفضيلة واستعلاء الإسلام ورفع مناره، فلا يـمكن حمله على ما لا يجوز.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 76، ط. دار المعرفة – بيروت): [وتعقِّب بأنه يدل على وجود ذلك لا على جوازه، وأجيب: بأنه خبر في سياق المدح ورفع منار الإسلام فيحمل على الجواز] اهـ.
وهذا الذي اخترناه هو قول بعض المالكية ووجه عند الشافعية؛ فقد ذهب بعض المالكية إلى القول بجواز ذلك، وهو رواية عن الإمام مالك؛ ففي "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" للعلامة الحطاب (2 /524، ط. دار الفكر) نقلًا عن "شرح الرسالة" للزناتي قال -عن سفر المرأة-: [إذا كانت في رفقة مأمونة ذات عَدَد وعُدَد أو جيش مأمون من الغلبة والـمحلة العظيمة، فلا خلاف في جواز سفرها من غير ذي محرم في جميع الأسفار الواجب منها والـمندوب والمباح من قول مالك وغيره، إذ لا فرق بين ما تقدم ذكره وبين البلد، هكذا ذكره القابسي. انتهى] اهـ.
وفي "المجموع شرح المهذب" للإمام النووي (7/ 70، ط. الـمطبعة المنيرية): [(فرعٌ): هل يجوز للمرأة أن تسافر لحج التطوع أو لسفر زيارة وتجارة ونحوهما مع نسوة ثقات أو امرأة ثقة؟ فيه وجهان: وحكاهما الشيخ أبو حامد والـماوردي والمحاملي وآخرون من الأصحاب في باب الإحصار، وحكاهما القاضي حسين والبغوي والرافعي وغيرهم: (أحدهما) يجوز كالحج، (والثاني) وهو الصحيح باتفاقهم وهو المنصوص في "الأم"] اهـ.
وقد استوجه هذا الرأي الشيخ تقي الدين بن تيمية، فقد نقل عنه العلامة المرداوي في "الإنصاف" (3/ 411، ط. دار إحياء التراث العربي)، والعلامة ابن مفلح في "الفروع" (3/ 236-237، ط. عالم الكتب): [تحج كل امرأة آمنة مع عدم الـمَحْرَم. وقال: إن هذا مُتوجِّه في كل سفر طاعة] اهـ.
ذهب الجمهور إلى عدم جواز سفر المرأة في مثل هذه الحالة بغير زوج أو محرم، وفي ذلك تفصيل:
فذهب الحنفية إلى اشتراط ذلك في السفر الطويل دون القصير، بينما ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى اشتراط الزوجِ أو الـمَحْرَمِ في السفر مطلقًا دون تفرقة بين طويل وقصير.
وحجة الحنفية: أن الـمنع المقيد بالثلاث مُتَحَقِّق، وما عداه مشكوك فيه، فيؤخذ بالمُتَيَقَّن.
قال العلامة ابن بطال في "شرحه على صحيح البخاري" (3/ 79، ط. مكتبة الرشد بالرياض): [واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لاَ تُسَافِرِ المَرْأَةُ ثَلاَثًا إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»، وقالوا: لما اختلفت الآثار والعلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة، وكان الأصل الإتـمام، لم يجب أن ننتقل عنه إلا بيقين، واليقين ما لا تنازع فيه، وذلك ثلاثة أيام] اهـ.
وقد أجاب الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 75) عن هذه الحجة: [بأن الرواية المطلقة شاملة لكل سفر، فينبغي الأخذ بـها وطرح ما عداها؛ فإنه مشكوك فيه، ومن قواعد الحنفية: تقديم الخبر العام على الخاص، وترك حمل الـمطلق على المقيد. وقد خالفوا ذلك هنا] اهـ.
واحتج الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة على ما ذهبوا إليه بعموم الأحاديث التي دلت على حرمة سفر المرأة بلا مَحْرم، ومنها: ما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، إِلَّا وَمَعَهَا أَبُوهَا، أَوِ ابْنُهَا، أَوْ زَوْجُهَا، أَوْ أَخُوهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا»، وما رواه الشيخان في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لَا تُسَافِرِ المَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إِلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ».
وقد نوقش هذا بأن علة النهي في هذه الأحاديث هي حالة خوف الطريق وعدم الأمن، فإذا تحقق الأمن انتفى شرط وجود الـمَحْرَم.
وقد نقل العلامة ابن الـملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (6/ 81، ط. دار العاصمة بالرياض): [أن الذي عليه جمهور أهل العلم أن الرفقة المأمونة من المسلمين تنـزل منـزلة الزوج أو ذي الـمَحْرَم، ثم ذكر عن عائشة رضي الله عنها أن الـمرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم، وقالت: ليس كل النساء تجد محرمًا] اهـ.
واحتج الجمهور أيضًا بأن هذا السفر ليس واجبًا، هكذا علله البغوي من الشافعية، ومن ثم لا يجوز.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (2/ 394، ط. دار الكتب العلمية): [ولأنـها أنشأت سفرًا في دار الإسلام؛ فلم يجز بغير محرم، كحج التطوع] اهـ.
وقد نوقش هذا أيضًا بأن الـملحظ الذي عليه الـمُعَوَّل في الفتوى هو حصول الأمن وتحققه أو عدمه، لا كون السفر واجبًا أو لا، أو كونه مُنْشأً في دار الإسلام أو لا، فإذا تحقق الأمن -كما هو حاصل في هذا الزمان عبر وسائل السفر المأمونة وطرقه المأهولة ومنافذه العامرة؛ من موانئ ومطارات ووسائل مواصلات عامة- أُجيز السفر بلا محرم، وعند عدمه مُنع.
بناءً على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز لهذه المرأة السفر لحضور هذه المنحة العلمية مع الرفقة المأمونة بشرط الأمان وموافقة الزوج أو الولي؛ عملًا بقول الـمجيزين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.