ما حكم الهجرة غير الشرعية على الوجه الذي نراه ونسمع به في بلادنا هذه الأيام؟
الهجرة غير الشرعية على الوجه الذي يحصل في بلادنا الآن لا لا يجوز فعله شرعًا ولا الإقدام عليه؛ سواء كان عن طريق التسلل خفيةً، أو باستخدام وثائق مزورة، أو بالمكث بعد المدة المحددة بالوثائق المؤقتة بمدةٍ دون موافقة قانونية مماثلة؛ لأن هذه الهجرة تتضمن وتستلزم جملة من المخالفات والمفاسد، ففيها مخالفةٌ لولي الأمر ومخالفة للقانون، وهذه المخالفة حرامٌ ما دام ولي الأمر أو الحاكم لم يأمر بمُحَرَّم، وفيها تعريض النفس للمخاطر والهلاك من غير مُسَوِّغ شرعي، ومن المقرر شرعًا أن حفظ النفس أحد مقاصد الشرع الخمسة التي تقع في مرتبة الضروريات، وفيها إذلال المسلم نفسه؛ فإن الدخول إلى البلاد المهاجَر إليها من غير الطرق الرسمية المعتبَرة يجعل المهاجِرَ تحت طائلة التَّتَبُّع المستمر له من قِبَل سلطات تلك البلد، فيكون مُعرَّضًا للاعتقال والعقاب، فضلًا عمَّا يضطر إليه كثير من المهاجرين غير الشرعيين من ارتكاب ما يُسِيء إليهم وإلى بلادهم، بل وإلى دينهم أحيانًا، ويعطي صورة سلبية عنهم؛ كالتسول وافتراش الطرقات، كما أن فيها خرقًا للمعاهدات والعقود الدولية التي تنظم الدخول والخروج من بلد إلى آخر، بل إن في بعض صورها تزويرًا وغشًّا وتدليسًا على سلطات الدولتين: المُهَاجَر منها والمُهَاجَر إليها، ولا يخفى على أحد أن هذا من الكذب، وأن فيه تعاونًا على المعصية غالبًا؛ حيث قد يلجأ المهاجر إلى من يُزَوِّر له أوراقَه، أو إلى من يعينه على الوصول بطريق غير مشروع. جدير بالذكر أن سماسرة الهجرة غير الشرعية داخلون في التعاون على هذه المعصية وآثمون شرعًا ومجرَّمون قانونًا.
المحتويات
الهجرة في علم السكان هي الانتقال الفردي أو الجماعي من موقع إلى آخر؛ بحثًا عن وضع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو ديني أفضل.
وتكون الهجرة غير شرعية: إذا حدثت بشكل لا يسمح به البلد المهاجَر منه أو إليه أو هما معًا بها حسب القوانين الموضوعة للدخول والخروج، فهي صادقة على دخول شخصٍ ما حدود دولة ما دون وثائق قانونية تفيد موافقة هذه الدولة على ذلك، ويتم ذلك عن طريق التسلل خفية عبر الطرق البرية أو البحرية أو باستخدام وثائق مزورة، وكذلك تَصدُق على الدخول بوثائق مؤقتة بمدة، ثم المكث بعد هذه المدة دون موافقة قانونية مماثلة.
ومنه يُعلَم أن الشرعية هنا ليست نسبة للشرع الشريف، إنما هي على معنى موافقة القوانين واللوائح المنَظِّمة لهذا الشأن.
ويطلق عليها أسماء أُخر؛ منها: الهجرة السرية، والهجرة غير القانونية، والهجرة غير النظامية، فكلها أسماء مختلفة لمسمًّى واحد. ويقابلها: الهجرة القانونية، أو الهجرة الشرعية، أو الهجرة النظامية، وهي الهجرة بما يطابق قوانين الهجرة في البلدين المهاجَر منه والمهاجَر إليه عن طريق قنوات العبور، بواسطة أوراق قانونية.
أما الهجرة الشرعية بمعنى النسبة إلى الشرع الشريف؛ فلها معانٍ؛ منها: ترك المكان الذي يحارب الإنسان فيه في دينه وتشتد عليه فيه الفتن؛ بحيث يضطهد ولا يستطيع أن يقيم شعائر دينه وفرائضه، والانتقال إلى مكان آخر يستطيع أن يعبد الله دون خوف؛ وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97].
ومنها: ترك المعصية، ومن ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «المُهَاجِرُ مَن هَجَرَ مَا نَهَى الله عَنهُ»؛ فأصل الهجرة: هجران الشر ومباعدته لطلب الخير ومحبته والرغبة فيه. انظر: "فتح الباري" للحافظ ابن رجب (1/ 39، ط. مكتبة الغرباء الأثرية بالمدينة المنورة).
تعد الهجرة غير الشرعية -بالمعنى سالف الذكر- ظاهرة عالمية ومشكلة رئيسة تعاني منها كثير من الدول؛ لما يترتب عليها من أضرار ترتبط بالخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمكانية لهذه الدول.
والهجرة غير الشرعية على الوجه الذي يحدث في بلادنا هذه الأيام تتضمن وتستلزم جملة من المخالفات والمفاسد، منها ما يلي:
أولًا: ما في ذلك من مخالفة ولي الأمر، وهذه المخالفة غير جائزة؛ ما دام أن ولي الأمر أو الحاكم لم يأمر بمُحَرَّم؛ فقد أوجب الله تعالى طاعة أولي الأمر؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59].
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" (5/ 97-98، ط. الدار التونسية للنشر): [أولو الأمر مِن الأمَّة ومِن القوم: هم الذين يُسنِد الناسُ إليهم تدبير شئونهم ويعتمدون في ذلك عليهم، فيصير الأمر كأنَّه مِن خصائصهم ... فأولو الأمر هنا هم مَن عدا الرسول مِن الخليفة إلى والي الحسبة، ومِن قواد الجيوش، ومِن فقهاء الصحابة والمجتهدين، إلى أهل العلم في الأزمنة المتأخِّرة، وأولو الأمر هم الذين يُطلَق عليهم أيضًا: أهل الحلِّ والعقد] اهـ.
وأخرج الستة عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «السَّمعُ والطَّاعةُ على الـمَرءِ الـمُسلِمِ فيما أَحَبَّ وكَرِهَ، ما لم يُؤمَر بمَعصِيةٍ، فإذا أُمِرَ بمَعصِيةٍ فلا سَمعَ ولا طاعةَ»، والأدلة على هذا كثيرة.
وقد جاء في كتب السادة الشافعية أن وليَّ الأمر إذا أمر بمستحبٍّ أو مكروه أو مباح وَجَب فعله؛ قال الإمام ابن حجر الهيتمي في "فتاواه الفقهية" (1/ 278، ط. المكتبة الإسلامية): [قولهم: تجب طاعة الإمام فيما يأمر به وينهى عنه ما لم يخالف حكم الشرع. والظاهر أن مرادهم بمخالفة حكم الشرع: أن يأمر بمعصية أو ينهى عن واجب، فشمل ذلك المكروه، فإذا أمر به وجب فعله؛ إذ لا مخالفة حينئذٍ] اهـ.
وسبب ذلك كله أن طاعة أولي الأمر سببٌ لاجتماع الكلمة وانتظام المعاش؛ فلا بُدّ للناس مِن مَرجِعٍ يأتمرون بأمره؛ رفعًا للنزاع والشقاق، وإلا عَمَّت الفوضى واختل النظام العام، ودخل على الناس فساد عظيم في دينهم ودنياهم.
فللحاكم أن يَسُنَّ مِن التشريعات ما يراه محققًا لمصالح العباد؛ فإنَّ تَصَرُّف الإمام على الرعية مَنُوطٌ بالمصلحة، والواجب له على الرعية الطاعةُ والنُّصرة. ومَن أراد أن يهاجر من بلد إلى آخر فعليه الالتزام بالقوانين المتفق عليها بين الدول في هذا الشأن والتي أمر الحاكم بالالتزام بها ونهى عن مخالفتها، ومن ثم تجب طاعته على الفور ولا تجوز الهجرة خارج هذا الإطار الـمُنظِّم لها.
وقد نَصَّ القانون رقم 97 لسنة 1959م المعدَّل بالقانون رقم 78 لسنة 1968م في شأن جوازات السفر على أنه لا يجوز لمصري مغادرة البلاد أو العودة إليها إلا إذا كان حاملًا لجواز سفر، ومن الأماكن المخصصة لذلك، وبتأشيرة على جواز سفره، ويُعاقب مَن يخالف أحكام هذا القانون بالحبس مدة لا تجاوز ثلاثة أشهر وبغرامة لا تزيد على خمسين جنيهًا.
ثانيًا: ما يكون في بعض صورها من تعريض النفس للمخاطر والهلاك من غير مُسَوِّغ شرعي، حيث يُخاطِر المهاجرون بركوب البحر بمراكب غير مُرَخَّص لها بالإبحار في أعالي البحار لعدم صلاحيتها لذلك، وبالرغم من عدم صلاحيتها فإنها تُحَمَّل أكثر من سعتها، وتسلك دروبًا بحرية خطرة -يتجنبها الملاحون في الظروف العادية-؛ اتقاءً لمراقبة خفر السواحل، وهم بهذا يقامرون بأرواحهم بعلمهم بخطورة هذه الوسيلة وكونها مظنة للتلف والغرق، ثم إصرارهم بعد ذلك على ركوبها، مما يجعلهم مقصرين في الحفاظ على أنفسهم مُورِدين إياها موارد الهلاك، وقد اتفق العلماء على أن البحر إذا كان مظنة للهلاك لم يَجُزْ ركوبه؛ قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 234، ط. وزارة الأوقاف المغربية): [ولا خلاف بين أهل العلم أن البحر إذا ارتجَّ لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه] اهـ.
وحفظ النفس أحد مقاصد الشرع الخمسة التي تقع في مرتبة الضروريات، وقد جاءت نصوص الشريعة في النهي عن تعريض النفس للهلاك؛ من ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]. قال العلامة ابن عاشور في "تفسيره" (2/ 214، ط. الدار التونسية للنشر - تونس): [ومعنى النهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة: النهي عن التسبب في إتلاف النفس أو القوم عن تحقق الهلاك بدون أن يُجتَنى منه المقصود] اهـ.
وكذلك قوله تعالى أيضًا: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29]. قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (5/ 156-157، ط. دار الكتب المصرية): [وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية: النهي أن يَقتل بعض الناس بعضًا. ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصدٍ منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال؛ بأن يَحمل نفسَه على الغَرَر المؤدِّي إلى التلف] اهـ.
ثالثًا: ما يترتب على هذا النوع من الهجرة من إذلال المسلم نفسه؛ فإن الدخول إلى البلاد المهاجَر إليها من غير الطرق الرسمية المعتبَرة يجعل المهاجِرَ تحت طائلة التَّتَبُّع المستمر له من قِبَل سلطات تلك البلد، فيكون مُعرَّضًا للاعتقال والعقاب، فضلًا عمَّا يضطر إليه كثير من المهاجرين غير الشرعيين من ارتكاب ما يُسِيء إليهم وإلى بلادهم، بل وأحيانًا دينهم، ويعطي صورة سلبية عنهم؛ كالتسول وافتراش الطرقات.
وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم المُسلمَ أن يُذِلَّ نفسه؛ فقد روى الترمذي -وحسَّنه- عن حذيفة بن اليَمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يَنبَغِي للمُؤْمِن أَن يُذِلَّ نَفْسَهُ» قالوا: وكيف يُذِلُّ نَفسَه؟ قال: «يَتَعَرَّض مِن البلاء لما لا يُطِيق».
قال الشيخ علي القاري في شرحه من "مرقاة المفاتيح" (5/ 1739، ط. دار الفكر): [أي: لا يجوز للمؤمن أن يذل نفسه؛ أي: باختياره] اهـ.
وروى الطبراني في "الأوسط" من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن أَعطى الذل مِن نَفسِه طائعًا غير مُكرَه فليَسَ مِنَّا».
رابعًا: ما في هذه الهجرة من خرق للمعاهدات والعقود الدولية التي تنظم الدخول والخروج من بلد إلى آخر، وقد روى الترمذي في "سننه" -وقال: "حسن صحيح"- عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُروطِهم، إِلَّا شَرطًا حَرَّم حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرامًا»؛ قال الإمام المُناوي في شرحه للحديث في "فيض القدير" (6/ 272، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [«المُسْلِمُونَ عَلَى شُروطِهم» الجائزة شرعًا؛ أي: ثابتون عليها واقفون عندها، وفي التعبير بــ«عَلَى» إشارة إلى علو مرتبتهم، وفي وصفهم بالإسلام ما يقتضي الوفاء بالشرط ويحث عليه] اهـ.
خامسًا: ما يكون في بعض صورها من تزوير وغش وتدليس على سلطات الدولتين المُهَاجَر منها والمُهَاجَر إليها، وهو من باب الكذب، والكذب هو: الإخبار عن الشيء خلاف ما هو عليه، والأصل فيه التحريم؛ وقد قال الله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: 30]، وفي هذه الآية أمر صريح مؤكد باجتناب الزور؛ والكذب زور؛ فالزور من الزور وهو الانحراف، والكذب منحرف مصروف عن الواقع. انظر: "تفسير البيضاوي" (4/ 71، ط. دار إحياء التراث العربي).
وروى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن غَشَّنا فليسَ مِنَّا»، وفي رواية: «مَن غَشَّ فليس مِنِّي».
سادسًا: ما تستلزمه هذه الهجرة من تعاون على المعصية غالبًا؛ حيث قد يلجأ المهاجر إلى من يُزَوِّر له أوراقَه، أو يلجأ إلى من يعينه على الوصول والدخول إلى وجهته بسلوك دروب الهلاك، كل هذا نظير أجرة محددة، وقد قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره للآية (2/ 106، ط. دار طيبة): [يأمر تعالى عبادَه المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات، وهو: البر، وترك المنكرات، وهو: التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المآثم والمحارم] اهـ.
ويدخل في التعاون على هذه المعصية سماسرة الهجرة غير الشرعية الذين يزينون لهم السفر، ويدفعونهم نحو الوقوع في الهلكة.
وهذه الأسباب قد تجتمع كلها في صورة واحدة، وقد يتخلف بعضها في بعض الصور، لكن لا تخلو صورة من صور الهجرة غير الشرعية عن مفسدة منها. وتحقق آحادها في صورة كافٍ للقول بالمنع والتحريم.
عليه: فإن الهجرة غير الشرعية على الوجه الذي يحصل في بلادنا الآن لا يجوز فعله أو الإقدام عليه شرعًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.