تناقلت وسائل الإعلام هجوم بعض المتصدرين على الإمام البخاري رحمه الله تعالى واتهامه بالجهل في الحديث وقلة التمييز بين الصحيح والباطل، بل صرَّح بعضهم بأنه هدم علم الحديث! فنرجو من فضيلتكم بيان حكم ذلك، مع توضيح منزلة الإمام البخاري بين المحدثين.
الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى ورضي عنه، إمامٌ مجتهد، من أكابر أئمة المسلمين المجتهدين في الحديث والفقه، الذابِّين للكذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، علَمٌ من كبار علماء الحديث روايةً ودرايةً، أميرُ أُمَراء صَنْعَة الحَدِيث، وسيدُ المحدثين، إمامُ زمانه، لم يُرَ فيه مثله في علم الحديث والأهلية والفهم فيه، لا يبغضه إلا حاسد، وهذا ما صرَّح وشهد به علماء المسلمين وأئمتهم عبر القرون، حتى قالوا عنه: إنه في زمانه كعمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصحابة. وقد امتازت هذه الشهادة بالتنوع الشديد الذي يستحيل معه التواطؤ على الخطأ أو الكذب عادة؛ فقد أثنى عليه شيوخُه وأقرانُه ومعاصروه وتلامذتُه، ثم من جاء بعده، واجتماع كل هذه الطبقات على الشهادة له بالإمامة يجعل ذلك أمرًا قطعيًّا لا مرية فيه، بل إن بعض هؤلاء الأئمة الشاهدين له كانت لهم معه مواقفُ قطيعةٍ وخصومةٍ أدت إلى خروجه من بلده، فلم يمنعهم ذلك من قول الحق والشهادة له بالتفرد والأهلية، وهذا يقطع كل شبهة ويرد كل تشغيب، وبذلك يكون الطعن في الإمام البخاري خروجًا عن المسلك العلمي، وشذوذًا عن المنهج الإسلامي، وذلك من وجوه عدة: ففيه إهدارٌ لشهادة أهل التخصص على اختلاف أزمانهم وبلدانهم وطبقاتهم؛ فقد ثبتت إمامته وأهليته وإتقانه بشهادة أهل الحديث وجهابذة الرواية قاطبة، وإهدار شهادتهم مخالفٌ لِمَا اتفق عليه العقلاء مِن الرجوع في كل علمٍ وفنٍّ إلى قول أهله، وفيه طعن في أئمة الحديث وجهابذة الرواية الذين قدموا الإمام البخاري على أنفسهم في العلم والفهم والرواية والدراية، وهؤلاء الطاعنون في الإمام البخاري لا هُمْ من أهل التخصص والعلم بالحديث وفنونه وأسانيده ومتونه، ولا هُمْ أحالوا في طعنهم هذا على منهج علمي معياري بديلٍ يمكن الرجوع إليه، كما لا يخفى على أحدٍ أن الطعن في الناقل طعنٌ في المنقول، ولهذا كثف أعداء الإسلام عبر القرون محاولاتهم اليائسة للطعن في نقلة الحديث النبوي ورواة السنة النبوية الشريفة، يريدون التوصل بذلك إلى الطعن في السنة وإسقاط المصدر الثاني للشريعة.
فحسبنا الله ونعم الوكيل في كل جاهل سفيه يطعن في أئمة المسلمين وعلومهم ودينهم، وعلى المسلمين جميعهم أن يتكاتفوا للدفاع عن أئمتهم وعلمائهم ضد هؤلاء المفسدين، وأن يأخذوا على أيدي المغرضين، الذين يتكلمون فيما لا يحسنون، ويهرفون بما لا يعرفون، والله تعالى كفيل بهم، مبطلٌ لكيدهم، وسيذهبون كما ذهب غيرهم، وسيبقى الإمام البخاري رحمه الله تعالى ورضي عنه جبلًا شامخًا، ومنارَ هدًى، وعلامةً فارقة في تاريخ الأمة وعلومها وتراثها؛ مصداقًا لقول الحق جل شأنه وتبارك اسمه: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الرعد: 17].
المحتويات
أنزل الله تعالى الوحيَ على نبيه المصطفى وحبيبه المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم، وتكفل بحفظه؛ فقال سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وأخبر سبحانه أن كل ما ينطق به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فهو وحي يوحيه الله إليه؛ فقال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۞ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3-4]، فكانت السنة النبوية بذلك جزءًا من الوحي المنزل على النبي المرسل صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى آتاه السنة كما آتاه القرآن؛ فروى الإمام أحمد، وأبو داود، والمروزي في "السنة"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"، وابن حبان، والطبراني، وغيرهم، من حديث المِقْدَام بن مَعْدِيكَرِب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»، وفي لفظٍ: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمَا يَعْدِلُهُ»، وعنون له الحافظ ابن حبان بقوله: (ذكر الخبر المصرِّح بأن سنن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كلَّها عن الله، لامن تلقاء نفسه).
قال الإمام أبو محمد بن قُتيبة الدينوري في "تأويل مختلف الحديث" (ص: 245-246، ط. المكتب الإسلامي): [ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يَعْلَم مِن حكم الله تعالى إلا ما علَّمه الله عز وجل، ولا كان الله تبارك وتعالى يُعَرِّفُه ذلك جملة، بل ينزله شيئًا بعد شيء؛ ويأتيه جبريل عليه السلام بالسنن، كما كان يأتيه بالقرآن، ولذلك قال: «أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»، يعني من السنن] اهـ.
وأكد سبحانه على إنزالها وعلى بيان أن وظيفة السنة هي بيان الوحي القرآني، فقال جل شأنه: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44]، فكانت السنة بذلك داخلة في الذكر الذي تكفل الله بحفظه لهذه الأمة عبر القرون؛ قال الإمام أبو محمد بن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (1/ 98، ط. دار الآفاق الجديدة): [فأخبر تعالى أن كلام نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كله وحيٌ، والوحيُ بلا خلافٍ ذكرٌ، والذكر محفوظ بنص القرآن؛ فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه وآله وسلم كله محفوظ بحفظ الله عز وجل، مضمونٌ لنا أنه لا يضيع منه شيء] اهـ، وامتنَّ الله على نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم بإنزال الكتاب والحكمة؛ فقال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]، وقد فسر الإمام الشافعي وجماعة من السلف الحكمة بالسنة؛ فالكتاب هو النص الإلهي المطلق الخارج عن قيود الزمان وحدود المكان، وأما الحكمة فهي السنَّة التي تمثِّل التطبيق النبوي المعصوم لهذا الكتاب الكريم، والتي لا يُستَغْنَى عنها في فهم علله ومعانيه وإدراك مقاصده ومراميه.
وقد وفق الله المسلمين لأسباب حفظ القرآن والسنة؛ فابتكروا من علوم النقل والتوثيق ما لم تسبقهم إليه ديانة من الديانات أو حضارة من الحضارات: فنقل المسلمون القرآن جيلًا عن جيلٍ بأدق ما يكون النقل؛ كتابةً وتلاوة؛ حتى على مستوى النطق الحرفي والأداء الصوتي، وذلك بالأسانيد المتصلة المتكاثرة التي بلغت حد التواتر في كل جيل من أجيال المسلمين، وأورد شيخ القُرَّاء في عصره العلامة ابن الجزري في كتابه "النشر في القراءات العشر" أكثر من ألف سند من عصره (في القرن التاسع الهجري) إلى القراء العشرة، الذين نقلوا قراءة أهل الأمصار؛ وكان كل واحد منهم فيها ممثلًا لأهل مصره؛ يقرأ على قراءتهم التي يقرأ بها كل أهل بلده؛ أصولًا وفَرْشًا، والتي تلقَّوْها وتناقلوها بأسانيدهم المتواترة المتكاثرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فكان هؤلاء القُرَّاء منتدبين عنهم وممثلين لقراءتهم وحافظين لطريقتهم في التلاوة والأداء، وإنما جاء السند من جهتهم لأن أهل بلدهم قد ارتضَوْهم لما رأوا فيهم مزيد الاهتمام وتمام العلم، فشهدوا لهم جميعًا بذلك، وهذا ما يُسمَّى بالتواتر الجملي.
وقد اهتم المسلمون بنقل كتاب الله سواء عن طريق الكتاب أو التلقي بأدق معايير التوثيق في الأرض، والتي ابتكرها المسلمون أنفسهم، فاهتموا بالنقل على مستوى اللفظ والشكلة والحركة، والأداء الصوتي في صورة أعجزت وأبهرت كل من اطلع على كيفية نقل القرآن الكريم، وقد أنشأ المسلمون العلوم وابتكروها حتى في طريقة قراءة القرآن وبرزت علوم القراءات والتجويد لأداء ذلك الغرض.
وأما السنة النبوية: فقد وثقها المسلمون أعظم ما وثقت به البشرية في تاريخها سيرة نبي أو عالم أو رئيس أو متبوع؛ أقوالًا وأفعالًا، وأوصافًا وأحوالًا، حتى أبدع علماء المسلمين قواعد التوثيق وقوانين المصطلح في أدق منهج علمي توثيقي تمحيصي للأسانيد والمتون، فابتكروا في فنون مصطلح الحديث وأنواع علومه نحوًا من مائة علم لنقل السنة النبوية الشريفة وتوثيقها رواية ودراية؛ كما ذكر العلامة الحازمي [ت584هـ] في "عجالة المبتدي وفضالة المنتهي"، وقد عدَّ منها الحافظ ابن الصلاح [ت643هـ] في "المقدمة" خمسة وستين نوعًا، وأتم تعدادها كلَّها الحافظُ السيوطي [ت911هـ] في "البحر الذي زخر في شرح ألفية الأثر"؛ فميزوا بذلك صحيح الآثار من سقيمها، وسبروا كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كلام غيره.
من أعظم الجهابذة والعباقرة الذين أنجبتهم مدرسة أهل الحديث في الإسلام: الإمام الحافظ المحدِّث الفقيه اللغويُّ المجتهد أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري [ت256هـ] صاحب "الصحيح"، رحمه الله تعالى ورضي الله عنه؛ فهو زَيْنُ هذه الأمة، وأمير المؤمنين في الحديث، وأستاذ أهل الصنعة الحديثية، وإمام أئمة أهل الحديث في القديم والحديث، وكان إمامًا حافظًا فقيهًا واعيًا؛ بهر أهل عصره ومن جاء بعدهم بحفظه وفهمه النافذ وبصره الناقد في علوم الحديث، وقد وُصِف بالحفظ من صباه وصغره؛ فروى الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (2/ 24، ط. دار الكتب العلمية) [عن سليم بن مجاهد قال: كنت عند محمد بن سلام البيكندي، فقال: لو جئتَ قبلُ لرأيتَ صبيًّا يحفظ سبعين ألف حديث، قال: فخرجت في طلبه حتى لقيتُه، فقلتُ: أنت الذي تقول: أنا أحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: نعم، وأكثر منه، ولا أجيئك بحديث من الصحابة والتابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثًا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي في ذلك أصل؛ أحفظه حفظًا عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
قد أجمع علماء المسلمين وأئمتهم ومحدثوهم وفقهاؤهم عبر القرون على إمامته في علم الحديث وتقدمه فيه رواية ودراية. فممن نقل هذا الإجماعَ: الإمامُ الحافظ أبو عبد الله الحاكم [ت405هـ]؛ فقال فيما نقله عنه الإمام النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 71، ط. إدارة الطباعة المنيرية): هو إمام أهل الحديث، بلا خلاف بين أئمة النقل، والإمام الحاكم هو إمام أهل الحديث في عصره ، كما قال الإمامان أبو حازم العبدوي الحافظ، وأبو الحسن الفارسي، وزاد: العارف به حق معرفته؛ نقله الذهبي في "تاريخ الإسلام" (28/ 127-128، ط. دار الكتاب العربي). ونقله أيضًا الإمامُ النوويُّ شيخ الشافعية رحمه الله تعالى [ت676هـ] في كتابه "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 71)؛ فقال: [واعلم أن وصف البخاري رحمه الله بارتفاع المحل والتقدم في هذا العلم على الأماثل والأقران، متفق عليه فيما تأخر وتقدم من الأزمان، ويكفي في فضله: أن مُعْظَمَ مَن أثنى عليه ونشر مناقبه شيوخُه الأعلام المبرزون، والحُذَّاق المتقنون] اهـ. وهذا إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة [ت311هـ] -وهو إمامُ أهل الحديث في عصره بلا مدافعة، كما يقول الحاكم في "المستدرك" (1/ 593، ط. دار الكتب العلمية)- يقدِّم الإمام البخاري في علم الحديث على كل من رآهم من علماء عصره؛ فيقول: ما رأيت تحت أديم هذه السماء أعلم بالحديث مِن محمد بن إسماعيل البخاري، وفي لفظ: ما رأيت تحت أديم السماء أحفظَ لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أعرَفَ به من محمد بن إسماعيل البخاري. خرجه الحاكم في "تاريخ نيسابور"، والحافظ الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (2/ 26، ط. دار الكتب العلمية)، والحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 65)، والحافظ شرف الدين بن المفضل المقدسي في "الأربعين على الطبقات" (ص: 294، ط. أضواء السلف)، والحافظ أبو بكر بن نقطة الحنبلي في "التقييد" (ص: 32، ط. دار الكتب العلمية)، وغيرهم.
ونقل الحافظ أبو الفضل بن طاهر المقدسي [ت507هـ] إجماعَ أهل الحديث قاطبة في عصر الإمام البخاري على تقدُّمه عليهم؛ فقال بعد ذكره كلامَ ابنِ خزيمة السابق: [وحسبك بإمام الأئمة ابن خزيمة يقول فيه هذا القول مع لُقِيِّه الأئمةَ والمشايخَ شرقًا وغربًا، ولا عجب فيه؛ فإن المشايخ قاطبة أجمعوا على قدمه، وقَدَّمُوُه على أنفسهم في عنفوان شبابه، وابن خزيمة إنما رآه عند كبره وتفرده في هذا الشأن] اهـ. نقله الإمام النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 70).
وهذه نبذة من أقوال أهل الحديث وأئمة المسلمين في الإقرار للإمام البخاري بالعلم والإمامة والتقدم في علم الحديث وتوثيقه، والطعن على من قدح فيه؛ فهذا إمام أهل السنة والصابر في المحنة الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يَعُدُّه أحدَ المحدِّثين الأربعة الذين انتهى إليهم الحفظ؛ فيقول: انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان: أبو زرعة الرازي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي، والحسن بن شجاع البلخي، بل ويفضله عليهم جميعًا فيقول: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل.
وهذا الإمام الحافظ أبو حاتم الرازي [ت277هـ] -وهو الإمام الحافظ الناقد، شيخ المحدثين؛ كما يصفه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (13/ 247، ط. مؤسسة الرسالة)- يُفَضِّله على كل أهل خراسان؛ فيقول: لم يخرج من خراسانَ أحفظُ منه، ولا قدم العراقَ أعلمُ منه.
وهذا شيخُه الإمامُ محمد بن بشار [ت252هـ] الملقَّب بـ بُنْدَار؛ أي التاجر الكثير المال الذي يخزن البضائع، والمراد به: الحافظ -وهو إمام أهل زمانه في العلم والأخبار؛ كما يقول ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" (2/ 512، ط. مكتبة الرشد)- يَعُدُّ الإمامَ البخاريَّ مِن حُفِّاظ الدنيا الأربعة؛ فيقول: حُفَّاظُ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل البخاري ببخارى، ثم يقدِّمه على كل مَن رآه؛ فيقول: ما قدم علينا مثل محمد بن إسماعيل، ويقول أيضًا: لم يدخل البصرة رجل أعلم بالحديث من أخينا أبي عبد الله.
وهذا شيخُه الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن حُجْر السعديُّ [ت244هـ] -وهو الحافظ العلَّامة الحجة؛ كما يقول الذهبي في "السِّيَر" (11/ 507)- يقول: أخرجَتْ خراسانُ ثلاثةً: أبا زرعة الرازي بالري، ومحمد بن إسماعيل البخاري ببخارى، وعبد الله بن عبد الرحمن بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل عندي أبصرهم وأعلمهم وأفقههم. ويقدِّمه على نفسه: شيخُه إمامُ أهل العلل الحافظُ أبو الحسن علي بن المديني [ت234هـ] -وهو أحد أئمة الحديث في عصره، والمقدَّم على حُفَّاظ وقته؛ كما يقول الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (11/ 455، ط. دار الكتب العلمية)-؛ فإنه لَمَّا بلغه قولُ الإمام البخاري فيه: ما استصغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني، قال لمن أخبره: دع قولَه؛ ما رأى مثل نفسه.
وقال الإمام البخاري: قال لي علي بن المديني: الناس يقولون: إنك تتعلم مني، ووالله إني لأتعلم منك أكثرَ مما تتعلم مني، ورأيتَ أنتَ مثلَ نفسك يا أبا عبد الله؟! حكاه الحافظ ابن رُشَيد الفهريُّ في "السَّنَنِ الأَبْيَن" (ص: 88، ط. مكتبة الغرباء).
ويقدمه على نفسه: شيخُه الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه [ت238هـ] -وهو أميرُ المؤمنين في الحديث؛ كما لقَّبه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وأسنده عنه الخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 348)-، وكذا شيخاه الإمامان الحافظان: عمرو بن زرارة، ومحمد بن رافع، ويرجعون إلى قوله: قال الإمام حاشد بن إسماعيل البخاري الحافظ: رأيت إسحاق بن راهويه جالسًا على السرير، ومحمد بن إسماعيل معه، وإسحاق يقول: حدثنا عبد الرزاق، حتى مر على حديث، فأنكر عليه محمد، فرجع إلى قول محمد، ثم رأيت عمرو بن زرارة ومحمد بن رافع عند محمد بن إسماعيل يسألانه عن علل الحديث، فلما قاما قالا لمن حضر: لا تُخدَعُوا عن أبي عبد الله؛ فإنه أفقه منا وأعلم وأبصر.
وقال حاشد بن عبد الله بن عبد الواحد: كنا عند إسحاق وعمرو بن زرارة ثَمَّ، وهو يستملي على البخاري، وأصحاب الحديث يكتبون عنه، وإسحاق يقول: هو أبصر مني، وكان محمد يومئذٍ شابًّا.
ويقدمه على نفسه: الإمامُ الحافظُ الدارمي [ت255هـ]؛ فيقول: محمد أبصر مني؛ لأن همه النظر في الحديث، وأنا مشغول مريض، محمد أكيس خلق الله، إنه عقل عن الله ما أمره به، ونهى عنه في كتابه، وعلى لسان نبيه، إذا قرأ محمد القرآن، شغل قلبه وبصره وسمعه، وتفكر في أمثاله، وعرف حلاله وحرامه. وقال أيضًا: محمد بن إسماعيل أعلمنا وأفقهنا وأغوصنا، وأكثرنا طلبًا. بل كان أئمة أهل الحديث وعلماء الأمصار قاطبة يقدِّمونه على أنفسهم: فقال إبراهيم بن محمد بن سلام: إن الرُّتُوتَ -أي الرؤساء- من أصحاب الحديث مثل: سعيد بن أبي مريم، ونعيم بن حماد، والحميدي، وحجاج بن منهال، وإسماعيل بن أبي أويس، والعدني، والحسن الخلال بمكة، ومحمد بن ميمون صاحب ابن عيينة، ومحمد بن العلاء، والأشج، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وإبراهيم بن موسى الفراء، كانوا يهابون محمد بن إسماعيل، ويقضون له على أنفسهم في المعرفة والنظر. وقال الإمام أبو سهل محمود بن النضر الشافعي: دخلت البصرة، والشام، والحجاز، والكوفة، ورأيت علماءها، فكلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل فضَّلوه على أنفسهم. ويقدمه جماعة من كبار المُحدِّثين على الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما، وهما مَن هما عِلمًا وحديثًا وفقهًا وجلالةً، فيقول الإمام أبو مصعب أحمد بن أبي بكر المديني: محمد بن إسماعيل أفقه عندنا وأبصر من ابن حنبل، فقال له رجل من جلسائه: جاوزتَ الحدَّ! فقال أبو مصعب: لو أدركتَ مالكًا ونظرتَ إلى وجهه ووجه محمد بن إسماعيل لقلتَ: كلاهما واحد في الفقه والحديث.
وقال الإمام الحافظ أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف: محمد بن إسماعيل أعلم في الحديث من إسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وغيره بعشرين درجة، ومن قَالَ في محمد بن إسماعيل شيئًا فمني عليه ألف لعنة. ولَمَّا سُئِلَ الإمام أبو علي صالح بن محمد الحافظ عن البخاري، وأبي زرعة الرازي، والدارمي، قال: أعلمهم بالحديث البخاريُّ.
وينقاد لقوله في معرفة الحديث وعلله مشايخُه وأئمةُ أهل الحديث في عصره؛ كشيخه الإمامِ الحافظِ أبي زكريا يحيى بن معين [ت233هـ] -وهو إمام أهل الحديث ومزكي الرواة بلا مدافعة؛ كما يقول الحاكم في "المستدرك" (1/ 313، ط. دار الكتب العلمية)-، وإمامي أهل خراسان أبي زرعة [ت265هـ] وأبي حاتم [ت277هـ] الرازيين: قال أبو عمرو الكرماني: حكيت لمهيار بالبصرة، عن قتيبة بن سعيد، أنه قال: لقد رُحِلَ إليَّ مِن شرق الأرض وغربها، فما رَحَلَ إليَّ مثلُ مُحَمَّد بن إسماعيل، فقال مهيار: صدق؛ أنا رأيته مع يحيى بن معين، وهما جميعًا يختلفان إلى مُحَمَّد بن إسماعيل، فرأيت يحيى ينقاد له في المعرفة، وينهى شيخُه الإمامُ الحافظُ الحجةُ مسددُ بنُ مسرهد [ت228هـ] أن يُقَدَّمَ أحدٌ على الإمام البخاري؛ فيقول: لا تختاروا على محمد بن إسماعيل، يا أهل خراسان.
ووصل من قوة معرفته وعلمه بالحديث: أن وصفه المحدِّثون بالاستقراء التام؛ فعَدُّوا كل حديث لا يعرفه ليس بحديث، وهذا مقامٌ يعسر مَنَالُه في علم الحديث؛ فهذا الحافظ عمرو بن علي الفلاس يقول: حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث.
ونص جهابذة المحدِّثين وأساطين الرُّواة في عصرهم على أنهم لم يروا مثل الإمام البخاري في معرفة أسانيد الحديث وفهمه والبصر به: فهذان شيخاه الإمامان الحافظان أبو بكر بن أبي شيبة [ت235هـ] ومحمد بن عبد الله بن نمير [ت234هـ]، يقولان: ما رأينا مثل محمد بن إسماعيل.
وقال شيخُه الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن عبد الله بن عثمان الملقَّب بـ عَبْدان [ت221هـ]: ما رأيت بعيني شابًّا أبصرَ من هذا، وأشار بيده إلى الإمام البخاري.
وقال شيخُه الإمام قتيبة بن سعيد [ت240هـ]: جالستُ الفقهاء والزهاد والعباد، ما رأيت منذ عقلت كمُحَمَّد بن إسماعيل، وهو في زمانه كعمر في الصحابة.
وقال مُحَمَّد بن يوسف الهمذاني: كنا عند قتيبة، فجاء رجل، فسأله عن مُحَمَّد بن إسماعيل، فقال: يا هؤلاء نظرت في الحديث، ونظرت في الرأي، وجالست الفقهاء والزهاد والعباد، ما رأيت منذ عقلت مثل مُحَمَّد بن إسماعيل.
وكان شيخُه الحافظ أبو عمار الحُسين بن حريث [ت244هـ] يثني على الإمام البخاري، ويقول: لا أعلم أني رأيت مثله، كأنه لم يُخلَق إلا للحديث.
وقال الإمام الدارمي الحافظ [ت255هـ]: قد رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراقين، فما رأيت فيهم أجمع من أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري.
وقال الإمام أبو عيسى الترمذي الحافظ [ت279هـ]: لم أرَ أحدًا بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل.
وقال الإمام أبو علي صالح بن محمد الحافظ [ت293هـ]: ما رأيت خراسانيًّا أفهم منه.
وقال الإمام الحافظ أبو علي الحسين بن محمد المعروف بـ عُبَيْدٍ العِجْلِ [ت294هـ]: ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل، ومسلمٌ حافظ ولكن لم يكن يبلغ مبلغَ محمدَ بن إسماعيل، ورأيت أبا زرعة وأبا حاتم يستمعان إلى محمد بن إسماعيل أي شيء يقول يجلسون بجنبه.
وقال عبد الله بن سعيد بن جعفر الجُعفي البخاري: سمعت العلماء بالبصرة يقولون: ما في الدنيا مثل محمد بن إسماعيل في المعرفة والصلاح.
وقال أبو عمر سليم بن مجاهد بن بَعِيش البخاري [ت255هـ]: ما رأيت بعيني منذ ستين سنة أفقه، ولا أورع، ولا أزهد في الدنيا، من محمد بن إسماعيل.
وقال أيضًا: لو أن وكيعًا، وابن عيينة، وابن المبارك، كانوا في الأحياء لاحتاجوا إلى محمد بن إسماعيل. وكما كان البخاري إمامًا في الحديث، فقد كان إمامًا في الفقه واللغة والتاريخ، وكان موصوفًا بالموسوعية التي لم تتأتَّ لغيره من المحدثين، حتى نُعِتَ بأنه كان آيةً من آيات الله وأمةً وحدَه، وأنه لم يكن في الدنيا مثله:
فوصفه شيخُه محمد بن بشار بُندَار بالسيادة على الفقهاء وأنه أفقه خلق الله في عصره؛ فلَمَّا قدم الإمام البخاري البصرة قال محمد بن بشار: دخل اليوم سيد الفقهاء.
وقال محمد بن يوسف: كنا مع أبي عبد الله عند محمد بن بشار، فسأله محمد بن بشار عن حديث، فأجابه، فقال: هذا أفقه خلق الله في زماننا، وأشار إلى محمد بن إسماعيل.
وقال عنه شيخاه الإمامان الحافظان يعقوب بن إبراهيم الدورقي ونُعَيمُ بن حماد المروزي: محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة.
وقال عنه شيخُه قتيبة بن سعيد: لو كان مُحَمَّد بن إسماعيل في الصحابة لكان آية.
وقال الفربري: كنا عند قتيبة، فسئل عن طلاق السكران، فقال: هذا أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن المديني، قد ساقهم الله إليك، وأشار إلى البخاري.
وقال عبد الله بن سعيد بن جعفر: كنت أسمع أهل المعرفة بنيسابور ينظرون ويقولون: محمد أفقه من إسحاق؛ يعني: ابن راهويه.
وقال حاتم بن مالك الوراق: سمعت علماء مكة يقولون: محمد بن إسماعيل إمامنا وفقيهنا وفقيه خراسان.
وقال الإمام الحافظ أبو علي الحسين بن محمد المعروف بـ عُبَيْدٍ العِجْلِ: كان محمد بن إسماعيل أُمَّةً مِن الأمم، وكان ديِّنًا فاضلًا، يُحسِنُ كلَّ شيء.
وقال الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي: كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله بن منير، فلما قام من عنده قال له: يا أبا عبد الله، جعلك الله زين هذه الأمة، قال الترمذي: استجيب له فيه.
وقال الحافظ موسى بن هارون الحمال: عندي لو أن أهل الإسلام اجتمعوا على أن ينصبوا مثل محمدِ بنِ إسماعيلَ آخَرَ ما قدروا عليه.
وكتب أهل بغداد إلى الإمام البخاري:
المسلمون بخير ما بَقِيتَ لهم ... وليس بعدك خيرٌ حين تُفتَقَدُ
وقال رجاء بن المرجى الحافظ: هو آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض.
وقال أبو الطيب حاتم بن منصور الكِسي: محمد بن إسماعيل آية من آيات الله في بصره ونفاذه من العلم.
وقال الإمام أبو جعفر عبد الله بن محمد الجعفي المسندي: محمد بن إسماعيل إمام، فمن لم يجعله إمامًا فاتَّهِمْه.
وجاء الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري [ت265هـ] للإمام البخاري، فقبل بين عينيه، وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله، وقال له أيضًا: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك.
ويوصي الإمامُ الحافظُ إسحاق بن راهويه أصحابَ الحديث بالأخذ عن الإمام البخاري؛ فيقول: يا معشر أصحاب الحديث، انظروا إلى هذا الشاب واكتبوا عنه، فإنه لو كان في زمن الحسن بن أبي الحسن لاحتاج إليه الناس لمعرفته بالحديث وفقهه.
وقال شيخُه الإمامُ الحافظ الحجَّة محدِّث ما وراء النهر أبو زكريا يحيى بن جعفر بن أعين البيكندي [ت243هـ]: لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت؛ فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم.
بل إن خصومه الذين قاطعوه بسبب مسألة اللفظ، كانوا يسألونه ويرجعون إلى قوله:
قال أبو حامد الأعمش: رأيتُ محمد بن إسماعيل البخاريَّ في جنازة أبي عثمان سعيدِ بن مروانَ، ومحمدُ بنُ يحيى يسأله عن الأسامي والكني وعلل الحديث، ويَمُرُّ فيه محمدُ بن إسماعيل مثل السهم، كأنه يقرأ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾، فما أتى على هذا شهر حتى قال محمد بن يحيى: ألا من يختلف إلى مجلسه لا يختلف إلينا؛ فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه تكلم في اللفظ ونهيناه فلم ينته، فلا تقربوه، ومن يقربه فلا يقربنا.
ولمَّا ذُكِرَتْ قصةُ الإمام البخاري مع الإمام الذُّهلي للإمام الحافظ الحسين بن محمد المعروف بـ عبيدٍ العجلِ قال: ما له ولمحمد بن إسماعيل! كان محمد بن إسماعيل أمَّةً من الأمم، وكان أعلم من محمد بن يحيى بكذا وكذا، وكان محمد بن إسماعيل ديِّنًا فاضلًا يُحسن كل شيء.
ذكر هذه الأقوالَ وغيرَها الإمامُ الحافظ الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"، والإمام النووي في "تهذيب الأسماء واللغات"، والحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء"، والحافظ ابن حجر العسقلاني في "تغليق التعليق"، وغيرهم. ولم يكن أهل الحديث وعلماء الآثار وأئمة المسلمين ليطلقوا هذا الثناء على الإمام البخاري جزافًا، فإنهم كانوا أحرص الناس على صياغة عباراتهم وضبط ألفاظهم؛ مدحًا أو قدحًا، ولذلك قال الإمام النووي بعد أن ساق كلام العلماء في فضله وعلمه وتقدمه وإمامته في كتاب "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 76): [عن أن تُحْصَى، وهي منقسمة إلى حفظ، ودراية، واجتهاد في التحصيل، ورواية، ونسك، وإفادة، وورع، وزهادة، وتحقيق، وإتقان، وتمكن، وعرفان، وأحوال، وكرامات، وغيرها من أنواع المكرمات، ويوضح ذلك ما أشرت إليه من أقوال أعلام المسلمين أولي الفضل والورع، والدين، والحفاظ والنقاد المتقنين، الذين لا يجازفون في العبارات، بل يتأملونها ويحررونها، ويحافظون على صيانتها أشد المحافظات، وأقاويلهم بنحو ما ذكرته غير منحصرة، وفيما أشرت إليه أبلغ كفاية للمستبصر، رضي الله عنه وأرضاه، وجمع بيني وبينه وجميع أحبابنا في دار كرامته مع من اصطفاه، وجزاه عني وعن سائر المسلمين أكمل الجزاء، وحباه مِن فضله أبلغ الحباء] اهـ.
كما كان هذا شأن أهل عصره في اتفاقهم على تقدمه وإمامته في الحديث، فقد جرى على ذلك كل الأئمة الذين جاءوا بعده في كل العصور الإسلامية من غير خلاف، بحيث صار ذلك من المسلمات عند علماء الأمة عبر القرون:
يقول الحافظ أبو أحمد الحاكم [ت378هـ] في "الأسامي والكنى" (ق283ب): [كان أحد الأئمة في معرفة الحديث وجمعه، ولو قلت إني لم أرَ تصنيفًا يفوق تصنيفه في المبالغة والحسن، أو لم أسمع بآدمي تسرول في باب الحديث مثلَه: رجوتُ أن أكون صادقًا في قولي] اهـ.
وعدَّ الإمام الحافظ أبو عبد الله بن منده [ت395هـ] البخاريَّ أولَ الأئمة الأربعة الذين أخرجوا الصحيح وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب، والذين هم حجة على من خالفهم؛ حيث يقول في رسالته "شروط الأئمة" (ص: 42، ط. دار المسلم): [وأنا ذاكر إن شاء الله مع هذه الطبقة التي ذكرها علي بن المديني ونسب هذا العلم إليهم جماعة من الأئمة كانوا في أزمنتهم ممن قبل انفرادهم وجعلوا حجة على من خالفهم وإن كانوا دون من ذكرهم علي بن المديني في الرواية واللقي فهم في عصرهم أئمة وقبل انفرادهم واحتج بهم؛ الأئمة الأربعة الذين أخرجوا الصحيح وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، وبعدهما: أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستاني، وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي] اهـ.
قال الإمام الحاكم في "المدخل إلى كتاب الإكليل" (ص: 32، ط. دار الدعوة): [وأهل الحجاز والعراق والشام يشهدون لأهل خراسان بالتقدم في معرفة الصحيح؛ لسبق الإمامين أبي عبد الله البخاري وأبي الحسين النيسابوري إليه، وتفردهما بهذا النوع من العلم، جزاهما الله عن الإسلام خيرًا] اهـ.
وقال الحافظُ الكبير عبد الغني المقدسي [ت600هـ] في كتاب "الكمال" -كما في "شذرات الذهب" (3/ 253، ط. دار ابن كثير)- والحافظُ المزي في "تهذيب الكمال": الحَافِظ، صاحب الصحيح، إمام هَذَا الشأن، والمقتدى بِهِ فيه، والمعول على كتابه بين أهل الإسلام.
وقال العلامة المحدِّث المؤرخ كمال الدين بن العديم [ت660هـ] في "بغية الطلب في تاريخ حلب" (4/ 1861، ط. دار الفكر): [إمام أهل الحديث، وأكثرهم تنقيبًا على رجاله وكشفًا لأحوالهم، ومواقع الصواب والخطأ منهم] اهـ.
كما نقل الإمام الحاكم إجماع أهل النقل على أن الإمام البخاري هو إمام أهل الحديث، فقد تتابع على وصفه بذلك علماءُ المسلمين عبر العصور؛ فممن نص على وصفه بأنه: إمام أهل الحديث: الإمام الحافظ البيهقي الشافعي [ت458هـ] في الخلافيات -كما في "مختصره" (2/ 426، ط. مكتبة الرشد)-، والإمام الحافظ أبو سعد السمعاني [ت562هـ] في "الأنساب" (6/ 22، ط. دائرة المعارف العثمانية)، والعلامةُ المؤرخ ياقوت الحموي [ت626هـ] في "معجم البلدان" (1/ 355، 2/ 356، ط. دار صادر)، والحافظ أبو الحسن بن القطان [ت628هـ] في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 636، ط. دار طيبة)، والإمام الحافظ زكي الدين المنذري [ت656هـ] فيما نقله الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 334، ط. مؤسسة الريان)، والإمام العلامة المحدث المؤرخ كمال الدين بن العديم [ت660هـ] في "بغية الطلب في تاريخ حلب" (4/ 1861، ط. دار الفكر)، والإمام الحافظ أبو شامة المقدسي [ت665هـ] في كتابه "شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى" (ص: 229، ط. مكتبة العمرين العلمية)، والإمام النووي [ت676هـ] في "المجموع شرح المهذب" (1/ 16، ط. دار الفكر)، وعبارته: إمام أهل الحديث بلا مُدافَعة، والحافظ ابن عبد الهادي الحنبلي [ت744هـ] في تعليقته على علل ابن أبي حاتم (ص: 57، ط. أضواء السلف)، والشيخ ابن قيم الجوزية الحنبلي [ت751هـ] في "زاد المعاد" (3/ 591، 5/ 241، ط. مؤسسة الرسالة)، و"المنار المنيف" (ص: 85، ط. مكتبة المطبوعات الإسلامية)، والحافظ ابن كثير الشافعي [ت774هـ] في "البداية والنهاية" (11/ 30، ط. دار إحياء التراث العربي)، والعلامة أبو الحسن المرداوي الحنبلي [ت885هـ] في "التحبير شرح التحرير في أصول الفقه" (3/ 1252، ط. مكتبة الرشد)، وغيرهم ممن لا يُحصَوْن كثرةً من أئمة المسلمين عبر القرون، كما استفاض بين المحدِّثين وَصْفُه بأنه: إمام أهل الصنعة، وممن نعته بذلك: الإمام زكي الدين البرزالي [ت636هـ] في تخريج "المشيخة البغدادية للأموي" (ص: 33، ط. دار الغرب الإسلامي)، والإمام تقي الدين الإسعردي [ت692هـ] في "فضائل سنن الترمذي" (ص: 40، ط. عالم الكتب)، والحافظ ابن رُشَيد الفهري [ت721هـ] في "ملء العيبة" (ص: 187، ط. دار الغرب الإسلامي) نقلًا عن الإمام سراج الدين عمر بن أحمد بن خضر الأنصاري الخزرجي الشافعي المفتي خطيب المدينة الشريفة وقاضيها [ت726هـ]، والحافظ ابن حجر العسقلاني في "تغليق التعليق" (3/ 159، ط. المكتب الإسلامي)، وغيرهم كثير.
وقال الحافظ ابن رُشَيْد الفهري [ت721هـ] في "السنن الأبين والمورد الأمعن" (ص: 29، ط. مكتبة الغرباء): [محمد بن إسماعيل البخاري أمير أُمَراء صَنْعَة الحَدِيث، الموفَر حَظُّه المجزَل قسطُه من فهم دقائق الْمعَانِي الْفِقْهِيَّة والحديثية وغوامضهما ومبهماتهما] اهـ.
ونص الشيخ تقي الدين بن تيمية الحنبلي [ت728هـ] -كما في "مجموع الفتاوى" (20/ 40)- على أن البخاري إمام في الفقه من أهل الاجتهاد. وقال في "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" (1/ 184-185، ط. مكتبة الفرقان): [البخاري مِن أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، وقد ذكر الترمذي أنه لم ير أحدًا أعلم بالعلل منه] اهـ.
وقال الحافظ الذهبي [ت748هـ] في "طبقات الحفاظ" (2/ 104، ط. دار الكتب العلمية): [شيخ الإسلام وإمام الحفاظ.. وكان رأسًا في الذكاء، رأسًا في العلم، ورأسًا في الورع والعبادة] اهـ. وقال أيضًا في "الكاشف" (2/ 157، ط. دار القبلة): [وكان إمامًا حافظًا حجة رأسًا في الفقه والحديث مجتهدًا من أفراد العالم، مع الدين والورع والتأله] اهـ.
وقال الإمام اليافعي [ت768هـ] في "مرآة الجنان" (2/ 124، ط. دار الكتب العلمية): [الحافظ الإمام، قدوة الأنام، وعالي المقام، جامع أصح الكتب المصنفة في السنن والأحكام، إمام المحدثين وشيخ الإسلام.. وقدم بغداد فاجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله، وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية] اهـ.
وقال العلامة تاج الدين السبكي [ت771هـ] في "طبقات الشافعية" (2/ 21، ط. هجر): [هو إمام المسلمين، وقدوة الموحدين، وشيخ المؤمنين، والمعول عليه في أحاديث سيد المرسلين، وحافظ نظام الدين] اهـ.
وقال في رسالته "قاعدة في الجرح والتعديل" (ص: 36، ط. دار البشائر): [هو حامل لواء الصناعة، ومقدَّم أهل السنة والجماعة] اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير [ت774هـ] في "البداية والنهاية" (11/ 30): [إمام أهل الحديث في زمانه والمقتدى به في أوانه والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه، وكتابه الصحيح يُستَسقَى بقراءته الغمام، وأجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه، وكذلك سائر أهل الإسلام] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي [ت795هـ] في "شرح علل الترمذي" (ص: 494، 496، ط. مكتبة المنار): [البخاري الإمام، أبو عبد الله، صاحب الصحيح وإمام المحدثين في وقته، وأستاذ هذه الصناعة، وعنه أخذها كثير من الأئمة، منهم: مسلم بن الحجاج وسماه أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله، وأبو عيسى الترمذي، وقد ذكر أبو عيسى في أول كتاب "العلل": أنه لم ير بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد، كبيرَ أحدٍ أعلمَ من محمد بن إسماعيل رحمه الله.. وقد سبق الناسَ إلى تصنيف الصحيح والتاريخ، والناس بعده تبع له في هذين الكتابين؛ إذ كل من صنف في هذين العلمين يحتاج إلى كتابه، وقد كان أبو أحمد الحاكم يعيب من صنف فيهما بعده، ويزعم أنهم إنما أخذوا كتابَي البخاري، ولا ريب أنهم استعانوا بهما، وزادوا عليهما] اهـ.
وقال أمير المؤمنين في الحديث الحافظ ابن حجر العسقلاني [ت852هـ] في "تقريب التهذيب": [جبل الحفظ وإمام الدنيا في فقه الحديث] اهـ.
وقال الحافظ السخاوي [ت902هـ] في "التحفة اللطيفة" (2/ 448، ط. الكتب العلمية): [الإمام العلم، حجة الله في أرضه على خلقه] اهـ.
وقال الحافظ السيوطي [ت911هـ] في "طبقات الحفاظ" (ص: 252، ط. دار الكتب العلمية)، والعلامة الداودي [ت945هـ] في "طبقات المفسرين" (2/ 104، ط. دار الكتب العلمية): الحَافِظ الْعلم، صَاحب الصَّحِيح، وَإِمَام هَذَا الشَّان، والمعول على صَحِيحه فِي أقطار الْبلدَانِ.
وقال العلامة الشمس الغزي [ت1167هـ] في "ديوان الإسلام" (1/ 260، ط. دار الكتب العلمية): شيخ الإسلام والحفاظ، ناصر السنة الحافظ الرحلة الحجة.
وعلى ذلك: فقد صرَّح علماء المسلمين وأئمتهم عبر القرون بأن الإمام البخاري قد بلغ الغاية في حفظ الحديث وفهم عِلَله، وأنه جمع إلى معرفة الأسانيدِ التفقهَ في المتونِ، وأنه علَمٌ من كبار علماء الحديث روايةً ودرايةً، وأنه كان إمام زمانه، ولم يرَ فيه مثل نفسه، والذين شهدوا له بذلك إنما هم أئمة المحدثين وهم أهل الشأن وأصحاب الصنعة وأرباب التخصص ومَن إليهم المَرْجِعُ في تقويم الرجال وتقدير مكانتهم وأهليتهم في علوم الحديث وفنون الرواية؛ حيث شهدوا له بالإمامة والتفرد في علوم الحديث، وقدموه على أنفسهم في ذلك، وشهدوا بأنهم لم يروا مثله في علم الحديث والأهلية والفهم فيه، وقد امتازت هذه الشهادة بالتنوع الشديد الذي يستحيل معه التواطؤ على الخطأ أو الكذب عادة؛ فقد أثنى عليه شيوخُه وأقرانُه ومعاصروه وتلامذتُه، ثم من جاء بعده، واجتماع كل هذه الطبقات على الشهادة له بالإمامة يجعل ذلك أمرًا قطعيًّا لا مرية فيه، ومما يزيد ذلك قطعية ورسوخًا ويقينًا: أن بعض هؤلاء الأئمة الشاهدين له بالعلم والإمامة والفهم كانت لهم معه مواقفُ قطيعةٍ وخصومةٍ أدت إلى خروجه من بلده؛ كالحافظ محمد بن يحيى الذُّهْلي، والإمامين الحافظين أبي زرعة وأبي حاتم، ولم يمنعهم ذلك من قول الحق والشهادة له بالتفرد والأهلية، فإذا انضاف إلى ذلك: أن الأئمة قديمًا وحديثًا نقلوا الإجماع على إمامته وتقدمه في هذا الشأن على غيره، وأنه علَمُ أعلامِ الأمة في علوم الحديث روايةً ودرايةً، فإن ذلك يقطع كل شبهة ويرد كل تشغيب، وبذلك يكون الطعن في الإمام البخاري رحمه الله تعالى خروجًا عن المسلك العلمي وشذوذًا عن المنهج الإسلامي، وذلك من وجوه عدة: ففيه إهدارٌ لشهادة أهل التخصص على اختلاف أزمانهم وبلدانهم وطبقاتهم؛ فقد ثبتت إمامته وأهليته وإتقانه بشهادة أهل الحديث وجهابذة الرواية قاطبة، وإهدار شهادتهم مخالف لِمَا اتفق عليه العقلاء مِن الرجوع في كل علمٍ وفنٍّ إلى قول أهله، وقد قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وفيه طعن في أئمة الحديث وجهابذة الرواية الذين قدموا الإمام البخاري على أنفسهم في العلم والفهم والرواية والدراية، والطاعنون في الإمام البخاري لا هُمْ من أهل التخصص والعلم بالحديث وفنونه وأسانيده ومتونه، ولا هم أحالوا في طعنهم هذا على منهج علمي معياري بديلٍ يمكن الرجوع إليه، ولا يخفى أن في الطعن في الناقل طعنًا في المنقول، ولذلك كثف أعداء الإسلام عبر القرون محاولاتهم اليائسة للطعن في نقلة الحديث النبوي ورواة السنة النبوية الشريفة، يريدون التوصل بذلك إلى الطعن في السنة وإسقاط المصدر الثاني للشريعة، وفي الطعن في الإمام البخاري إمامِ أهل الصنعة الحديثية: طعنٌ في المعيار الذي انطلق منه أئمة أهل الحديث واعتمدوه، وبَنَوْا عليه هذه الشهادة في بيان علم الإمام البخاري وإمامته، وعلو شأنه ومكانته، وهذا طعنٌ في المنظومة العلمية الحديثية التي صرح الأئمة بتقدمه فيها؛ فإن الطاعنين في علمه وأهليته لا يعنيهم شخصه وإنما يريدون وصفه، ويقصدون إلى القدح في إمامته وأهليته الحديثية التي صرح الأئمة بتقدمه فيها، وهذا يئول إلى الطعن في المصدر الثاني للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم وهو السنة النبوية الشريفة، ثم هو خروج عن إجماع المسلمين عبر القرون على تقديم الإمام البخاري وإمامته في علوم الحديث الشريف، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وحذر القرآن الكريم من مخالفة الإجماع أيَّما تحذير، وجعل في هذه المخالفة مشاقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، واتباعًا لغير سبيل المؤمنين، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115].
بناءً على ذلك: فالإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى، إمام مجتهد من أكابر أئمة المسلمين في الحديث والفقه، الذابِّين للكذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أجمع علماء الأمة على إمامته وتبحره في السنة النبوية الشريفة وعلوم الحديث، ولا يخفى أن الطعن في علمه وإمامته على هذا النحو الوارد في السؤال -من اتهامه بالجهل في الحديث وقلة التمييز بين الصحيح والباطل، بل وأنه هدَمَ علمَ الحديث- نوع من الفسق المسقط لعدالة صاحبه وشهادته؛ لأن فيه مخالفة لما عليه إجماع المسلمين في قديم الدهر وحديثه، بل فيه اتهام للأمة كلها بالجهل والضلالة، وتسفيه لعلماء المسلمين عبر القرون حيث اتفقت كلمتهم على إمامته وتفوقه، ولا يعدو هذا الكلام السيئ والطعن الأثيم في الإمام البخاري أن يكون جهلًا وسفاهةً وقلة حياء وضعف دين، فضلًا عن كونه مخالفًا للمنهج العلمي الذي اتفق عليه عقلاء البشر؛ مِن إرجاع الكلام في كل علم إلى أهله، واعتماد قول أهل التخصص فيه دون غيرهم، وهذا الكلام الخارج عن سبُل التوفيق وسَنَن الهدى إنما يتوصل به أصحابُه إلى الطعن في المصدر الثاني للإسلام ألا وهو السنة النبوية المشرفة التي يُعَدُّ الإمام البخاري علمًا من أعلامها ومنارة مِن منارات هداها، وهذا شأن المُضلِّين الساعين لإفساد العقول، الداعين إلى الطعن في تراث الأمة وعلومها ومعارفها، المشككين للناس في دينهم وعقائدهم، حتى يعود شباب الأمة لا يرون سلفهم وعلماءهم من أئمة الهدى إلا شُذَّاذ آفاق مُضِلِّين، فحسبنا الله ونعم الوكيل في كل جاهل سفيه يطعن في أئمة المسلمين وعلومهم ودينهم، وعلى المسلمين أن يتكاتفوا للدفاع عن أئمتهم وعلمائهم ضد هؤلاء المفسدين، وأن يأخذوا على أيدي المغرضين، الذين يتكلمون فيما لا يحسنون، ويهرفون بما لا يعرفون، والله تعالى كفيل بهم، مبطلٌ لكيدهم، وسيذهبون كما ذهب غيرهم، وسيبقى الإمام البخاري رحمه الله تعالى ورضي عنه جبلًا شامخًا ومنار هدًى وعلامة فارقة في تاريخ الأمة وعلومها وتراثها؛ مصداقًا لقول الحق جل شأنه وتبارك اسمه: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الرعد: 17].
والله سبحانه وتعالى أعلم.