ما حكم قراءة سورة الإخلاص على الجنازة قبل خروجها من المسجد؟ فأحيانًا بعد صلاة الجنازة في المسجد يكون هناك تزاحم على الأبواب، فينتظر أهل الميت بالجنازة حتى فراغ الأبواب أو اجتماع أهل الميت ومعارفه قبل أن يخرجوه من المسجد، ويقومون في هذا الوقت بقراءة سورة الإخلاص ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ بصوت مرتفع على الجنازة إلى أن ترفع، فهل في ذلك ما يأباه الشرع؟
لا مانع شرعًا من ذلك؛ فقراءة القرآن على الميت مستحبةٌ مطلقًا -وهذا ما عليه عمل المسلمين سلفًا وخلفًا-، بل إن الانتظار بالجنازة على النحو المذكور مع قراءة القرآن الكريم يكون أَولى من الانتظار بغيره.
المحتويات
جاءت النصوص الشرعية الشريفة باستحباب قراءة القرآن الكريم على جهة الإطلاق؛ من غير أن تَخُصَّ في ذلك مكانًا دون مكان، ولا زمانًا دون زمان، وذلك في مثل قوله تعالى: ﴿إنَّما أُمِرتُ أَن أَعبُدَ رَبَّ هذه الَبَلدةِ الذي حَرَّمَها وله كُلُّ شَيءٍ وأُمِرتُ أَن أَكُونَ مِنَ المُسلِمِينَ * وأَن أَتلُوَ القُرآَنَ﴾ [النمل: 91-92]. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اقرَءُوا القُرآنَ؛ فإنَّه يَأتي يَومَ القِيامةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ» رواه مسلم.
ومِن المقرر في الشرع أن "الأمر المُطلَق يُحمَل على إطلاقه"، ولا يجوز تقييد المُطلَق بمكان دون مكان، ولا بزمان دون زمان، ولا بحال دون حال مِن غير دليل، وإلا عُدَّ ذلك ابتداعًا وإحداثًا في الدين بتضييق ما وسَّعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا من جهة العموم، أما على جهة الخصوص فإن خصوص قراءة القرآن الكريم على الميت حال احتضاره وبعد وفاته وعند قبره وبعد دفنه وغير ذلك قد وردت به أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآثار كثيرة عن السلف الصالح ذكرها الإمام أبو بكر الخلَّال الحنبلي [ت311هـ] في جزء "القراءة على القبور" من كتاب "الجامع"، ومثلُه الحافظ شمس الدين بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي في جزءٍ أَلَّفه في هذه المسألة، والإمام القرطبي المالكي [ت671هـ] في كتابه "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة"، والحافظ السيوطي الشافعي [ت911هـ] في "شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور"، والحافظ السيد عبد الله بن الصِّدِّيق الغماري [ت1413هـ] في كتابه "توضيح البيان لوصول ثواب القرآن"، وغيرهم ممن صَنَّف في هذه المسألة.
فمن الأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك:
ما رواه عبد الرحمن بن العلاء بن اللَّجلاجِ عن أبيه قال: قال لي أبي –اللَّجلاجُ أبو خالد–: "يا بُنَيَّ، إذا أنا متُّ فأَلحِدني، فإذا وضَعتَني في لَحدِي فقل: بسم الله، وعلى مِلَّة رسول الله، ثم سُنَّ عليَّ التراب سَنًّا –أي: ضَعه وضعًا سهلًا–، ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها؛ فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولُ ذلك" أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير". قال الحافظ الهيثمي: ورجاله موثَّقون. وقد رُوي هذا الحديث موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما، كما أخرجه الخلَّال في جزء "القراءة على القبور" والبيهقي في "السنن الكبرى" وغيرهما، وحسَّنه النووي وابن حجر.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَحْبِسُوهُ، وَأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ، وَلْيُقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِهِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخَاتِمَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَبْرِهِ» أخرجه الطبراني والبيهقي في "شعب الإيمان"، وإسناده حسن كما قال الحافظ في "الفتح"، وفي رواية «بِفَاتِحَةِ البَقَرَةِ» بدلًا من «فَاتِحَةِ الْكِتَابِ».
كما جاءت السنة بقراءة سورة "يس" على الموتى، في حديث مَعقِل بن يَسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اقْرَءُوا يَس عَلَى مَوْتَاكُمْ» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم.
قال الإمام القرطبي في "التَّذكِرة": [وهذا يحتمل أن تكون هذه القراءة عند الميت في حال موته، ويحتمل أن تكون عند قبره] اهـ.
وقال الحافظ السيوطي في "شرح الصدور": [وبالأول قال الجمهور كما تقدم في أول الكتاب، وبالثاني قال ابن عبد الواحد المقدسي في الجزء الذي تقدمت الإشارة إليه، وبالتعميم في الحالتين قال المُحِبُّ الطَّبَرِي من متأخري أصحابنا] اهـ.
وقال العلامة ابن حَجَر الهَيتَمِيُّ في "الفتاوى": [أخذ ابن الرِّفعة وغيرُه بظاهر الخبر، وتَبِعَ هؤلاء الزَّركَشِيُّ فقال: لا يَبعُدُ –على القول باستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه– أنه يُندَبُ قراءتُها في الموضعين] اهـ.
من الآثار في ذلك عن السلف الصالح:
ما أخرجه ابن أبي شَيبة في "المصنَّف" عن الإمام الشعبي رحمه الله قال: "كانَتِ الأنصارُ يقرءون عند الميِّتِ بسورة البقرة". وأخرجه الخلَّال في "القراءة على القبور" بلفظ: "كانت الأنصارُ إذا مات لهم مَيِّتٌ اختلفوا إلى قبره يقرءون عنده القرآن".
وأخرج الخَلَّال عن إبراهيم النَّخَعِي رحمه الله قال: "لا بَأسَ بقراءةِ القرآنِ في المقابِر".
وأخرج أيضًا عن الحسن بن الصَّبَّاح الزَّعفَراني قال: "سأَلْتُ الشافعيَّ عن القراءة عند القبور، فقال: لا بَأسَ بِها".
وأخرج أيضًا عن عليِّ بن موسى الحَدَّاد قال: "كنتُ مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قُدامة الجَوهَرِيِّ في جنازة، فلما دُفِن الميِّتُ جلس رجلٌ ضريرٌ يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا، إن القراءة عند القبر بدعة، فلما خرجنا مِن المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، ما تقول في مُبَشِّرٍ الحَلَبِيِّ؟ قال: ثقة، قال –يعني أحمد–: كتبتَ عنه شيئًا؟ قال: نعم؛ أخبرني مُبَشِّرٌ عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللَّجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دُفِن أن يُقرَأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يوصي بذلك. فقال له أحمد: فارجع وقل للرجل يقرأ".
وأخرج أيضًا عن العباس بن محمد الدُّورِي: "أنه سأل يحيى بن مَعِين عن القراءة على القبر، فحدَّثه بهذا الحديث".
كما أخذ العلماء وصول ثواب القراءة إلى الميت من جواز الحج عنه ووصول ثوابه إليه؛ لأن الحج يشتمل على الصلاة، والصلاة تُقرأ فيها الفاتحة وغيرها، وما وصل كلُّه وصل بعضُه، وهذا المعنى الأخير وإن نازع فيه بعضُهم إلا أن أحدًا مِن العلماء لم يختلف في أن القارئ إذا دعا الله تعالى أن يهب للميت مثل ثواب قراءته فإن ذلك يصل إليه بإذن الله؛ لأن الكريم إذا سُئِل أعطى، وإذا دُعِيَ أجاب.
على ذلك جرى عمل المسلمين جيلًا بعد جيل وخلفًا عن سلف مِن غير نكير، وهذا هو المعتمد عند أصحاب المذاهب المتبوعة، حتى عند السادة الحنابلة؛ قال العلامة المرداوي في "الإنصاف": [قوله: (ولا تُكره القراءة على القبر في أصح الروايتين)، وهذا المذهبُ، قاله في "الفروع"، ونصَّ عليه –يعني الإمام أحمد– قال الشارح: هذا المشهور عن أحمد، قال الخلَّال وصاحبُه: المذهب رواية واحدة: لا تكره، وعليه أكثر الأصحاب؛ منهم القاضي، وجزم به في "الوجيز" وغيره، وقدَّمه في "الفروع"، و"المغني"، و"الشرح"، "وابن تميم"، و"الفائق"، وغيرهم] اهـ.
بل إن من العلماء من نقل الإجماع على ذلك:
قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني": [ولنا: ما ذكرناه، وأنه إجماع المسلمين؛ فإنهم في كل عصر ومِصر يجتمعون ويقرءون القرآن ويُهدون ثوابه إلى موتاهم مِن غير نكير] اهـ.
وقال الإمام الحافظ شمس الدين بن عبد الواحد المَقدِسِي الحنبلي في جزئه الذي ألَّفه في هذه المسألة بعد أن ذكر بعض الأحاديث الضعيفة غير ما تقدم: [وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة، فمجموعها يدل على أن لذلك أصلًا، وأن المسلمين ما زالوا في كل مصر وعصر يجتمعون ويقرءون لموتاهم من غير نكير، فكان إجماعًا] اهـ.
وقال الشيخ العثماني في كتابه "رحمة الأمة": [وأجمعوا على أن الاستغفار والدعاء والصدقة والحج والعتق تنفع الميت ويصل إليه ثوابه، وقراءة القرآن عند القبر مستحبة] اهـ.
والمتصفح لكتب السير والتراجم والتواريخ يرى عمل السلف على ذلك، وتتابع الأمة عليه من غير نكير، بما في ذلك السادة الحنابلة وأصحاب الحديث، ويكفينا في ذلك ما ذكره الحافظ الذهبي في "سِيَر أعلام النبلاء" في ترجمة أبي جعفر الهاشمي الحنبلي [ت470هـ] شيخ الحنابلة في عصره، قال: [ودفن إلى جانب قبر الإمام أحمد، ولزم الناس قبره مدةً حتى قيل: خُتِم على قبره عشرة آلاف ختمة] اهـ.
حتى إن ابن تَيمِية رحمه الله تعالى -وهو الذي ادَّعى أن قراءة القرآن على القبر بدعةٌ– قد ذكر أهل السير في ترجمته أن الناس اجتمعوا لختم القرآن له على قبره وفي بيوتهم كما ذكره ابن عبد الهادي الحنبلي وغيره، والتاريخ محنة المذاهب.
وإذا كانت الغاية -كما ورد بالسؤال- من تأخر إخراج الجنازة من المسجد الذي صُلِّيَت عليه فيه هو الحفاظ على الجنازة من مزاحمة الناس والتأني لحين فراغ الأبواب حفاظًا عليها فإن هذا غرض صحيح عقلًا وشرعًا، والانتظار له مُبَرَّر؛ لأنه لا أحد يقول: إن تحقيق المشروع من التعجيل بالدفن يكون بتعريض الجنازة وموكب التشييع للخطر أو للإيذاء.
وإذا استقر صحة هذا الغرض ومشروعيته فإن الانتظار مع قراءة القرآن الكريم أَولى من الانتظار بغيره؛ لعمومات مشروعية قراءة القرآن الكريم وخصوصية ذلك للميت كما سبق ذكره، ويكون ذلك في صالح الجنازة وفي صالح المشيِّعين معًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.