هل يصل ثواب قراءة القرآن للميت؟ وهل تجوز قراءة القرآن على القبر؟
نعم تجوز قراءة القرآن على الميت وهبة الثواب إليه بإجماع الفقهاء؛ سواء كان ذلك على القبر أو من أي مكان آخر، وهو ما جرى عليه عمل المسلمين سلفًا وخلفًا، حتى إن الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى قد ذكر أهل السير في ترجمته أن الناس اجتمعوا لختم القرآن له على قبره وفي بيوتهم، والتاريخ محنة المذاهب -كما يقولون-، ويصل الثواب إلى الميت وينفعه ذلك إن شاء الله.
المحتويات
جاء الأمر الشرعي بقراءة القرآن الكريم على جهة الإطلاق، ومن المقرر أن "الأمر المطلق يقتضي عموم الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال"، فلا يجوز تقييد هذا الإطلاق إلا بدليل، وإلا كان ذلك ابتداعًا في الدين بتضييق ما وسَّعه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلى ذلك فقراءة القرآن الكريم في المسجد وعند القبر قبل الدفن وأثناءه وبعده مشروعةٌ ابتداءً؛ بعموم النصوص الدالة على مشروعية قراءة القرآن الكريم، بالإضافة إلى ورود أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآثار كثيرة عن السلف الصالح في خصوص ذلك ذكرها الإمام أبو بكر الخلال الحنبلي [ت311هـ] في جزء (القراءة على القبور) من كتاب "الجامع"، ومثلُه الحافظ شمس الدين بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي في جزءٍ أَلَّفه في هذه المسألة، والإمام القرطبي المالكي [ت671هـ] في كتابه "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة"، والحافظ السيوطي الشافعي [ت911هـ] في "شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور"، والحافظ السيد عبد الله بن الصِّدِّيق الغماري [ت1413هـ] في كتابه "توضيح البيان لوصول ثواب القرآن"، وغيرهم ممن صنف في هذه المسألة.
من الأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك: ما رواه عبد الرحمن بن العلاء بن اللَّجْلاجِ، عن أبيه قال: قال لي أبي -اللَّجْلاجُ أبو خالد- رضي الله عنه: " يَا بُنَيَّ إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَلْحِدْنِي، فَإِذَا وَضَعْتَنِي فِي لَحْدِي فَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ، ثُمَّ سِنَّ عَلَيَّ الثَّرَى سِنًّا، ثُمَّ اقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِي بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ" أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، قال الهيثمي: ورجاله موثَّقون.
وقد رُوي هذا الحديث موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما؛ كما أخرجه الخَلَّال في "جزء القراءة على القبور"، والبيهقي في "السنن الكبرى"، وغيرهما، وحسَّنه النووي وابن حجر.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَحْبِسُوهُ، وَأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ، وَلْيُقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِهِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخَاتِمَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَبْرِهِ» أخرجه الطبراني، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وإسناده حسنٌ -كما قال الحافظ في "الفتح"-، وفي روايةٍ: «بفاتحة البقرة»، بدلًا من «فاتحة الكتاب».
في المسألة أحاديث أخرى، لكنها واهية الأسانيد، منها:
حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ مَرَّ عَلَى الْمَقَابِرِ وقرأ قل هو الله أحد إِحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً ثُمَّ وَهَبَ أَجْرَهُ لِلْأَمْوَاتِ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدَدِ الْأَمْوَاتِ» خرَّجه الخلال في "القراءة على القبور" والسمرقندي في "فضائل قل هو الله أحد" والسِّلَفِي.
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ دَخَلَ الْمَقَابِرَ ثُمَّ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَأَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي جَعَلْتُ ثَوَابَ مَا قَرَأْتُ مِنْ كَلَامِكَ لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كَانُوا شُفَعَاءَ لَهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى» خرَّجه أبو القاسم الزنجاني في "فوائده"، ومنها حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من دخل الْمَقَابِر فَقَرَأَ سُورَة يس خفَّفَ اللهُ عَنْهُم وَكَانَ لَهُ بِعَدَد مَنْ فِيهَا حَسَنَات» خرَّجه عبد العزيز صاحب الخلال.
قال الحافظ شمس الدين بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي في "جزئه" الذي ألَّفه في هذه المسألة: [وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً فَمَجْمُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِذَلِكَ أَصْلًا، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالُوا فِي كل مصر وعصر يجتمعون ويقرءون لِمَوْتَاهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا] اهـ.
جاءت السنة بقراءة سورة "يس" على الموتى، في حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اقْرَءوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم، قال القرطبي في "التذكرة": [وهذا يحتمل أن تكون هذه القراءة عند الميت في حال موته، ويحتمل أن تكون عند قبره] اهـ.
قال الحافظ السيوطي في "شرح الصدور": [وبالأول قَالَ الْجُمْهُور كَمَا تقدم فِي أول الْكتاب، وَبِالثَّانِي قَالَ ابْن عبد الْوَاحِد الْمَقْدِسِي فِي "الْجُزْء" الَّذِي تقدَّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ، وبالتعميم فِي الْحَالين قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيُّ من متأخري أَصْحَابنَا] اهـ.
وقال ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى": [أخذ ابن الرفعة وغيره بظاهر الخبر، وتَبِعَ هؤلاء الزركشيُّ فقال: لا يَبْعُدُ -على القول باستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه- أنه يُنْدَبُ قراءتها في الموضعين] اهـ.
جاء الشرع الشريف بقراءة سورة الفاتحة على الجنازة؛ وذلك لأن فيها من الخصوصية في نفع الميت وطلب الرحمة والمغفرة له ما ليس في غيرها؛ كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أُمُّ القرآنِ عِوَضٌ عن غيرها، وليس غيرُها عِوَضًا عنها» رواه الدارقطني، وصححه الحاكم.
وبوَّب لذلك الإمام البخاري في"صحيحه" بقوله: [باب قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ] اهـ. وهذا أعم من أن يكون في صلاة الجنازة أو خارجها؛ فمن الأحاديث ما يدل على أنها تُقرأ في صلاة الجنازة، ومنها ما يدل على أنها تُقرأ عند الدفن أو بعده؛ كحديث ابن عمر رضى الله عنهما السابق عند الطبراني وغيره، ومنها ما يدل بإطلاقه على كلا الأمرين؛ كحديث أم عفيف النهدية رضي الله عنها قالت: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بايع النساء؛ فأخذ عليهنَّ أن لا تُحَدِّثْنَ الرَّجُل إلا مَحْرَمًا، وأَمَرَنَا أن نقرأ على مَيِّتِنا بفاتحةِ الكتاب" رواه الطبراني في "المعجم الكبير".
وحديث أم شريك رضي الله عنها قالت: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ نَقْرَأَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" رواه ابن ماجه.
استدل العلماء على قراءة القرآن عند القبر أيضًا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ» ثُمَّ قَالَ: «بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ، ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» متفق عليه.
قال الخطَّابي: [فِيهِ دَلِيل على اسْتِحْبَاب تِلَاوَة الْكتاب الْعَزِيز على الْقُبُور، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ يُرْجَى عَن الْمَيِّت التَّخْفِيف بتسبيح الشَّجر، فتلاوة الْقُرْآن الْعَظِيم أعظم رَجَاء وبركة] اهـ. "عمدة القاري" (3/ 118).
وقال القرطبي في "التذكرة": [وقد استدل بعض علمائنا على قراءة القرآن على القبر بحديث العسيب الرطب الذي شقَّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم باثنين … إلى أن قال: قالوا: ويُستفاد من هذا غرس الأشجار وقراءة القرآن على القبور، وإذا خُفِّفَ عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن؟! … إلى أن قال: ولهذا استحب العلماء زيارة القبور؛ لأن القراءة- تُحْفَةُ الميت من زائره] اهـ.
وقال النووي في "شرح مسلم": [وَاسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقَبْرِ لِهَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يُرْجَى التَّخْفِيفُ بِتَسْبِيحِ الْجَرِيدِ فَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ أَوْلَى، وَاللهُ أَعْلَمُ] اهـ.
وقد صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الجنازة على القبر غير مرة؛ كما جاء في "الصحيحين" وغيرهما، والصلاة مشتملة على قراءة الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذكر والدعاء، وما جاز كله جاز بعضه.
أخذ العلماء وصول ثواب القراءة إلى الميت من جواز الحجِّ عنه ووصول ثوابه إليه؛ لأن الحجَّ يشتمل على الصلاة، والصلاة تُقرأ فيها الفاتحة وغيرها، وما وصل كله وصل بعضه، وهذا المعنى الأخير وإن نازع فيه بعضهم إلا أن أحدًا من العلماء لم يختلف في أن القارئ إذا دعا الله تعالى أن يَهب للميت مثل ثواب قراءته فإن ذلك يصل إليه بإذن الله؛ لأن الكريم إذا سُئِل أعطَى وإذا دُعِيَ أجاب.
وعلى ذلك جرى عمل المسلمين جيلًا بعد جيل وخلفًا عن سلف من غير نكيرٍ، وهذا هو المعتمد عند أصحاب المذاهب المتبوعة، حتى نقل الحافظ شمس الدين بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي الإجماعَ على ذلك -كما سبق-، ونقله أيضًا الشيخ العثماني في كتابه "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة"، ونص عبارته في ذلك: [وأجمعوا على أن الاستغفار والدعاء والصدقة والحج والعتق تنفع الميت ويصل إليه ثوابه، وقراءة القرآن عند القبر مستحبة] اهـ.
ومن الآثار في ذلك عن السلف الصالح ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" عن الإمام الشعبي رحمه الله قال: كانَتِ الأنصارُ يقرءون عند الميِّتِ بسورة البقرة، وأخرجه الخلال في "القراءة على القبور" بلفظ: [كَانَتِ الأَنْصَارُ يَقْرَءونَ عِنْدَ الْمَيِّتِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ] اهـ.
وأخرج الخلال عن إبراهيم النخعي رحمه الله قال: [لَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمَقَابِرِ] اهـ.
وأخرج أيضًا عن الحسن بن الصَّبَّاح الزعفراني قال: [سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْقُبُورِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ] اهـ.
وأخرج أيضًا عن عليِّ بن موسى الحداد قال:[ كنت مَعَ أَحْمد بن حَنْبَل وَمُحَمَّد بن قدامَة الجوهرى فِي جَنَازَة، فَلَمَّا دفن الْمَيِّت جلس رجل ضَرِير يقْرَأ عِنْد الْقَبْر، فَقَالَ لَهُ أَحْمد: يَا هَذَا، إِن الْقِرَاءَة عِنْد الْقَبْر بِدعَة، فَلَمَّا خرجنَا من الْمَقَابِر قَالَ مُحَمَّد بن قدامَة لِأَحْمَد بن حَنْبَل: يَا أَبَا عبد الله مَا تَقول فِي مُبشر الْحلَبِي قَالَ: ثِقَة، قَالَ –يعنى أحمد: كتبت عَنهُ شَيْئا؟ قَالَ: نعم، فَأَخْبرنِي مُبشر عَن عبد الرَّحْمَن بن الْعَلَاء اللَّجْلَاج عَن أَبِيه أَنه أوصى إِذا دُفِنَ أَن يقْرَأ عِنْد رَأسه بِفَاتِحَة الْبَقَرَة وخاتمتها، وَقَالَ سَمِعت ابْن عمر رضي الله عنهما يُوصي بذلك، فَقَالَ لَهُ أَحْمد: فَارْجِع وَقل للرجل يقْرَأ] اهـ.
وأخرج أيضًا عن العباس بن محمد الدُّوري أنه سأل يحيى بن معين عن القراءة على القبر، فحدَّثه بهذا الحديث.
نص أصحاب المذاهب المتبوعة على ذلك: فجاء في "الفتاوى الهندية" على مذهب السادة الحنفية: [وَيُسْتَحَبُّ إذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ أَنْ يَجْلِسُوا سَاعَةً عِنْدَ الْقَبْرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ بِقَدْرِ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا يَتْلُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ لِلْمَيِّتِ] اهـ.
وذكر أن ذلك قول الإمام محمد بن الحسن رحمه الله، وأن مشايخ الحنفية أخذوا به.
وأما السادة المالكية: فالمُعْتَمَدُ عندهم استحبابُ ذلك، ففي "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير": [ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ إلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَتَأَوَّلَ مَا فِي السَّمَاعِ مِنْ الْكَرَاهَةِ قَائِلًا: إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ إذَا فُعِلَ ذَلِكَ اسْتِنَانًا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ رُشْدٍ، وَقَالَهُ أَيْضًا ابْنُ يُونُسَ، وَاقْتَصَرَ اللَّخْمِيُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْقِرَاءَةِ وَلَمْ يُعَوِّلْ عَلَى السَّمَاعِ، وَظَاهِرُ "الرِّسَالَةِ" أَنَّ ابْنَ حَبِيبٍ لَمْ يَسْتَحِبَّ إلَّا قِرَاءَةَ يس، وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهَا أَنَّهُ اسْتَحَبَّ الْقِرَاءَةَ مُطْلَقًا] اهـ.
وجاء في "النوازل الصغرى" لشيخ الجماعة سيدي المهدي الوزَّاني المالكي: [وأما القراءة على القبر فنص ابن رشد في "الأجوبة" وابن العربي في "أحكام القرآن" له والقرطبي في "التذكرة" على أنه يَنْتَفِعُ بالقراءة -أعني الميت- سواء قرأ في القبر أو قرأ في البيت] اهـ. ونقله عن كثيرين من أئمة المالكية؛ كأبي سعيد بن لُبٍّ، وابن حبيب، وابن الحاجب، واللخمي، وابن عرفة، وابن المواق، وغيرهم.
أما السادة الشافعية: فقد قال الإمام النووي في "المجموع": [قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللهُ: وَيُسْتَحَبُّ لِلزَّائِرِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمَقَابِرِ وَيَدْعُوَ لِمَنْ يَزُورُهُ وَلِجَمِيعِ أَهْلِ الْمَقْبَرَةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ السَّلَامُ وَالدُّعَاءُ بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ مِنْ الْقُرْآنِ مَا تَيَسَّرَ، وَيَدْعُوَ لَهُمْ عَقِبَهَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ] اهـ.
وقال في "الأذكار": [ويُستحبُّ أن يقعد عنده بعد الفراغ ساعة قدر ما يُنحر جزور ويُقسم لحمُها، ويشتغل القاعدون بتلاوة القرآن، والدعاء للميت، والوعظ، وحكايات أهل الخير، وأخبار الصالحين … إلى أن قال: قال الشافعي والأصحاب: يُستحب أن يقرءوا عنده شيئًا من القرآن؛ قالوا: فإن ختموا القرآن كله كان حسنًا] اهـ.
وقال في "رياض الصالحين": [قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمهُ اللَّه: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ القُرآنِ، وَإنْ خَتَمُوا القُرآنَ عِنْدَهُ كَانَ حَسَنًا] اهـ.
وكذلك السادة الحنابلة صرحوا بجواز ذلك.
قال العلامة المرداوي في "الإنصاف": [قوله: ولا تُكره القراءة على القبر في أصح الروايتين وهذا المذهبُ، قاله في "الفروع"، ونصَّ عليه -يعني الإمام أحمد-، قال الشارح: هذا المشهور عن أحمد، قال الخلال وصاحبُه: المذهب رواية واحدة: لا تكره، وعليه أكثر الأصحاب منهم القاضي، وجزم به في "الوجيز" وغيره، وقدَّمه في "الفروع"، و"المغني"، و"الشرح"، وابن تميم، و"الفائق"، وغيرهم] اهـ.
والمتصفح لكتب السير والتراجم والتواريخ يرى عمل السلف على ذلك وتتابع الأمة عليه من غير نكير، بما في ذلك السادة الحنابلة وأصحاب الحديث، ويكفينا في ذلك ما ذكره الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" في ترجمة أبي جعفر الهاشمي الحنبلي [ت470هـ] شيخ الحنابلة في عصره، قال: [وَدُفِنَ إِلَى جَانب قَبْر الإِمَام أَحْمَد، وَلَزِمَ النَّاسُ قَبْره مُدَّةً حَتَّى قِيْلَ: خُتِمَ عَلَى قَبْرِهِ عَشْرَة آلاف ختمة] اهـ.
حتى إن الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى -وهو الذي ادَّعى أن قراءة القرآن على القبر بدعةٌ مخالفًا بذلك ما عليه عمل السلف والخلف- قد ذكر أهل السير في ترجمته أن الناس اجتمعوا لختم القرآن له على قبره وفي بيوتهم؛ كما ذكره ابن عبد الهادي الحنبلي وغيره، والتاريخ محنة المذاهب -كما يقولون-.
والله سبحانه وتعالى أعلم.