حكم إطلاق لفظ "السيدة" على أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم

  • المفتى: الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
  • تاريخ الصدور: 25 مايو 2015
  • رقم الفتوى: 3045

السؤال

ما حكم إطلاق لفظ: "السيدة" على أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟

لا مانع شرعًا من ذلك، بل هو من حسن الأدب مع حضرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مذهب جمهور المحققين من علماء الأمة سلفًا وخلفًا؛ حيث صرحوا بنجاة والدَي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكونهما ماتا على الحنيفية ولم يتلبسا بالشرك مطلقًا، وصنفوا في ذلك ما يزيد على أربعين مصنفًا، وعلى هذا يدل قوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء: 219]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَم أَزَل أُنقَلُ مِن أَصلَابِ الطَّاهِرِينَ إلى أَرحامِ الطَّاهِراتِ»، هذا، علاوة على أن السيدة آمنة كانت شريفةً في نسبها عظيمةً في زمنها سيدةً في قومها ومن أفضلهم حسبًا.

المحتويات

 

مصير والدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعدُ: فالجواب عن هذا السؤال متفرع عن الكلام على مصير والدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

اختلف العلماء في ذلك، والقول الحق أنهما ناجيان، وهذا مذهب جمهور المحققين من علماء الأمة سلفًا وخلفًا؛ حيث صرحوا بهذا، وصنفوا فيه التصانيف، والتي بلغت ما ينيف على أربعين مصنفًا، للإمام السيوطي وحده ست رسائل، وهي:
1. "مسالك الحنفا في والدي المصطفى".
2. "الدرج المنيفة في الآباء الشريفة".
3. "المقامة السندسية في النسبة المصطفوية".
4. "التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة".
5. "نشر العلمين المنيفين في إحياء الأبوين الشريفين".
6. "السبل الجلية في الآباء العلية".

نجاة أبوي النبي لعدم ثبوت شركهما

قد سلكوا في إثبات هذا الحكم والاستدلال عليه عدة مسالك أهمها:
المسلك الأول: أنهما ناجيان؛ لأنهما لم يثبت عنهما شرك، بل كانا على الحنيفية دِين جدهما إبراهيم عليه السلام، ولقد ذهب إلى هذا القول جمعٌ من العلماء منهم الإمام الفخر الرازي.
واستدل أهل هذا المسلك بقوله تعالى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ۝ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء: 218-219]، أي إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتقلب في أصلاب الساجدين المؤمنين مما يدل على أن آباءه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا مشركين.
يقول الفخر الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (13/ 33، ط. دار إحياء التراث العربي- بيروت): [ومما يدل أيضًا على أن أحدًا من آباء محمد عليه السلام ما كان من المشركين قوله عليه السلام: «لَم أَزَل أُنقَلُ مِن أَصلَابِ الطَّاهِرِينَ إلى أَرحامِ الطَّاهِراتِ»، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: 28]، وذلك يوجب أن يقال: إن أحدًا من أجداده ما كان من المشركين] اهـ.
وقد انتصر الإمام السيوطي لهذا المسلك وما ذهب إليه الإمام الفخر في كتابه "مسالك الحنفا في والدَي المصطفى" (ص: 40-41، ط. دار الأمين بالقاهرة) واستدل له بدليل مركب استنبطه من مقدمتين:
الأولى: أن الأحاديث الصحيحة دلَّت على أن كل أصل من أصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من آدم إلى أبيه عبد الله، فهو من خير أهل قرنه وأفضلهم، ومن هذه الأحاديث: ما جاء في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ، قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى كُنْتُ مِنَ القَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ».
والثانية: أن الأحاديث والآثار دلت على أنه لم تخلُ الأرض من عهد نوح أو آدم إلى بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم إلى أن تقوم الساعة من ناس على الفطرة، يعبدون الله ويوحدونه، ويصلون له، وبهم تحفظ الأرض، ولولاهم لهلكت الأرض ومن عليها. ومن هذه الأحاديث والآثار: ما جاء في "مصنف عبد الرزاق"، عن معمر، عن ابن جريج قال: قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم يزل على وجه الدهر في الأرض سبعة مسلمون فصاعدًا، فلولا ذلك هلكت الأرض ومن عليها.
قال الإمام السيوطي في "مسالك الحنفا" (ص: 45-46): [هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ومثله لا يقال من قِبل الرأي فله حكم الرفع] اهـ.
ثم قـال: [وإذا قارنت بين هاتين المقدمتين، أنتج قطعًا أن آباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن فيهم مشرك؛ لأنه قد ثبت في كل منهم أنه من خير قرنه، فإن كان الناس الذين هم على الفطرة هم إياهم فهو المدعى، وإن كانوا غيرهم وهم على الشرك لزم أحد أمرين: إما أن يكون المشرك خيرًا من المسلم، وهو باطل بالإجماع، وإما أن يكون غيرهم خيرًا منهم، وهو باطل؛ لمخالفة الأحاديث الصحيحة، فوجب قطعًا ألا يكون فيهم مشرك؛ ليكونوا من خير أهل الأرض كل في قرنه] اهـ.

نجاة أبوي النبي لأنهما ماتا قبل البعثة

المسلك الثاني الذي سلكه القائلون بنجاة أبوَي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنهما مِن أهل الفَترة؛ لأنهما ماتا قبل البعثة، ولا تعذيب قبلها، وقد صرح أئمة أهل السنة أن مَن مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيًا.
نَقل الإمام النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني" (1/ 80، ط. دار الفكر) عن العلامة الأَجهُورِي قوله: [واحتج بعض مشايخنا إلى ترجيح القول بأن أهل الفترة ناجون فيكونون في الجنة، وكذلك أبَوَا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناجيان وليسا في النار بالموت قبل البعثة ولا تعذيب قبلها؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15] ودخول الجنة لا ينال بعمل وإنما هو بمحض الفضل، والنار إنما تكون للكافر والعاصي، ومن مات قبل البعثة لم يتصور عصيانه، وأيضًا أطبقت الأئمة الأشاعرة من أهل الكلام والأصول على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيًا لا عقاب عليه ولا ثواب له] اهـ.
ومِمَّن صرح بهذا أيضًا: الإمام شرف الدين الـمُناوي، ونقله أيضًا السِّبط ابن الـجَوزي عن جماعة من العلماء منهم جَده، وجزم به العلامة الأُبِّي في "شرحه على صحيح مسلم"، ومال إليه الحافظ ابن حجر في بعض كتبه كما ذكر الإمام السيوطي في "مسالك الحنفا" (ص: 16-17).
واستدلوا على ما ذهبوا إليه بقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ [الأنعام: 131]، وبآيات وأحاديث أخرى.
ووالدا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مِن أهل الفترة؛ لأنهما ماتا ولم تبلغهما الدعوة؛ لتأخر زمانهما وبُعدِه عن زمان آخر الأنبياء، وهو سيدنا عيسى عليه السلام، ولإطباق الجهل في عصرهما، فلم يبلغ أحدًا دعوةُ نبي من أنبياء الله إلَّا النفر اليسير من أحبار أهل الكتاب في أقطار الأرض كالشام وغيرها، ولم يعهد لهما التقلب في الأسفار ولا عُمِّرا عمرًا يمكن معه البحث عن أخبار الأنبياء، وهما ليسا من ذرية عيسى عليه السلام ولا من قومه، فبان أنهما مِن أهل الفترة بلا شك.
ومَن قال: إن أهل الفترة يُمتَحَنُون على الصراط فإن أطاعوا دخلوا الجنة وإلا كانت الأخرى، فإن العلماء نصُّوا على أن الوالدين الشريفين لو قيل بامتحانهما فإنهما من أهل الطاعة، قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه الإمام السيوطي في "مسالك الحنفا" (ص: 17): [والظن بآله صلى الله عليه وآله وسلم -يعني الذين ماتوا قبل البعثة- أنهم يطيعون عند الامتحان إكرامًا له صلى الله عليه وآله وسلم؛ لتقرَّ بهم عينه] اهـ.
وقد أورد الطبري في تفسيره "جامع البيان" (24/ 487، ط. مؤسسة الرسالة) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في تفسير قوله تعالى: ﴿ولَسَوفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 5]: [مِن رِضا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ألا يَدخُل أحدٌ مِن أهل بيته النار] اهـ.

نجاة أبوي النبي لأن الله تعالى أحياهما حتى آمَنا به صلى الله عليه وآله وسلم

المسلك الثالث الذي سلكه القائلون بنجاتهما: أنهما ناجيان؛ لأن الله تعالى أحياهما له صلى الله عليه وآله وسلم حتى آمَنا به صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا المسلك مال إليه طائفة كثيرة مِن حفاظ المحدِّثين وغيرهم، منهم: الخطيب البغدادي، وابن شاهين، وابن المُنَيِّر، والمحب الطبري، والقرطبي. واحتجوا لمسلكهم بأحاديث ضعيفة، ولكنها ترقى إلى الحُسن بمجموع طرقها. قاله الإمام السيوطي في "مسالك الحنفا" (ص: 85-86).
وقد أجاب أصحاب هذا المسلك على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نُهِيَ عن الاستغفار لهما بأن الإحياء متأخر عن النهي، فكان حكمه ناسخًا لحكم النهي.
قال الإمام القرطبي في "التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" (ص: 138، ط. مكتبة دار المنهاج بالرياض): [ولا تعارض والحمد لله؛ لأن إحياءهما متأخر عن النهي بالاستغفار لهما. بدليل حديث عائشة رضي الله عنها: أن ذلك كان في حجة الوداع، وكذلك جعله ابن شاهين ناسخًا لما ذكر من الأخبار] اهـ.
ثم قال (ص: 140-141): [وذلك أن فضائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخصائصه لم تزل تتوالى وتتابع إلى حين مماته، فيكون هذا مما فضله الله تعالى وأكرمه به. وليس إحياؤهما وإيمانهما بممتنع عقلًا ولا شرعًا؛ فقد ورد في الكتاب إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله، وكان عيسى عليه السلام يُحْيي الموتى، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام أحيا الله تعالى على يديه جماعة من الموتى، وإذا ثبت هذا فما يمنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته وفضيلته مع ما ورد من الخبر في ذلك] اهـ.
فهذه مسالك العلماء الذين قالوا بنجاة والدَي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهي مسالك قوية مؤيَّدةٌ بالدليل والبرهان، وعليها جماهير علماء الأمة.
ومما يستأنس به في هذا المقام وفيه إشارة إلى نجاة الوالدين ما نقله العلامة ابن عابدين الحنفي في "العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية" (2/ 331، ط. دار المعرفة) حيث قال: [وقد أتى العلامة الخفاجي بوجه آخر نظمه، وفيه أيضًا الصواب فقال:
لِوَالِدَيْ طَه مَقَامٌ عَلَا ... فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ وَدَارِ الثَّوَابِ
وَقَطْرَةٌ مِنْ فَضَلَاتٍ لَهُ ... فِي الْجَوْفِ تُنْجِي مِنْ أَلِيمِ الْعِقَابِ
فَكَيْفَ أَرْحَامٌ لَهُ قَدْ غَدَتْ ... حَامِلَةٌ تُصْلَى بِنَارِ الْعَذَابِ] اهـ.

رأي دار الإفتاء المصرية في نجاة أبوي النبي -صلى الله عليه وسلم-

القول بنجاة والدَي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هو ما عليه دار الإفتاء المصرية:
قال شيخ الإسلام البرهان البيجوري في "شرح جوهرة التوحيد" (ص: 68، ط. دار السلام): [(تنبيهٌ): إذا علمت أن أهل الفترة ناجون على الراجح علمت أن أبويه صلى الله عليه وآله وسلم ناجيان لكونهما من أهل الفترة، بل جميع آبائه صلى الله عليه وآله وسلم وأمهاته ناجون ومحكوم بإيمانهم، لم يدخلهم كفر، ولا رجس، ولا عيب، ولا شيء مما كان عليه الجاهليون بأدلة نقلية كقوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٩]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَم أَزَلْ أَنتَقِلُ مِن الأَصْلَابِ الطَّاهِرَاتِ إِلَى الأَرْحَامِ الزَّاكِياتِ»، وغير ذلك من الأحاديث البالغة مبلغ التواتر] اهـ.
وقد صدَرت بذلك فتوى فضيلة مفتي الديار المصرية الأسبق علامة زمانه الشيخ محمد بخيت المطيعي، بتاريخ 2 من ربيع الأول 1338هـ- 25 نوفمبر 1919م، التي قال في آخرها في حكم مَن زعم أن أبوَي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ليسا مِن أهل الإيمان أنه: [قد أخطأ خطأً بيِّنًا؛ يأثم ويدخل به فيمن آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن لا يُحكَم عليه بالكفر؛ لأن المسألة ليست من ضروريات الدِّين التي يجب على المكلَّف تفصيلها. هذا هو الحق الذي تقتضيه النصوص وعليه المحققون من العلماء] اهـ.

التحذير من التجرؤ على الجناب النبوي الشريف

قد تواترت أقوال العلماء بالتحذير من التجرؤ على جناب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فيه إذاية له صلى الله عليه وآله وسلم بذكر أبويه بالنقص والتنبيه على أنه لا بد من لزوم الأدب؛ فقد سُئل القاضي أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية عن رجل قال: إن أبا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النار، فأجاب بأن: [مَن قال ذلك فهو ملعون؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: 57] قال: ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه إنه في النار] اهـ. "مسالك الحنفا" (ص: 88).
وقال الإمام القسطلاني الشافعي في "المواهب اللدنية" (1/ 111، ط. المكتبة التوفيقية بالقاهرة): [فالحذر الحذر من ذكرهما بما فيه نقص، فإن ذلك قد يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن العرف جارٍ بأنه إذا ذكر أبو الشخص بما ينقصه، أو وصف بوصف به، وذلك الوصف فيه نقص تأذى ولده بذكر ذلك له عند المخاطبة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لَا تُؤذُوا الأَحْيَاءَ بِسَبِّ الأَمْوَاتِ» رواه الطبراني في "الصغير"، ولا ريب أن أذاه عليه السلام كفر يقتل فاعله إن لم يتب عندنا] اهـ.
ولَمَّا ذكر العلامة الآلوسي في تفسيره "روح المعاني" (19/ 138، ط. دار إحياء التراث العربي) عند قوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٩] أن القول بإيمان أبويه صلى الله عليه وآله وسلم قول كثير من أجلة أهل السنة، أعقبه بقوله: [وأنا أخشى الكفر على من يقول فيهما رضي الله عنهما على رغم أنف القاري وأضرابه بضد ذلك] اهـ. والقاري: يعني به ملا علي القاري، وسيأتي الحديث لاحقًا عن رسالته في هذا الشأن بالتفصيل.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" (3/ 185، ط. دار الفكر) عن هذه المسألة: [وبالجملة كما قال بعض المحققين: إنه لا ينبغي ذكر هذه المسألة إلا مع مزيد مِن الأدب، وليست مِن المسائل التي يضرُّ جهلها أو يُسأل عنها في القبر أو في الموقف، فحِفظ اللسان عن التَّكَلُّم فيها إلا بخير أولى وأسلم] اهـ.
وأخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (45/ 222، ط. دار الفكر) أنه: [كان رجل من كُتَّاب الشام مأمونًا عندهم -أي: بني أمية- استعمل رجلًا على كورة من كور الشام كان أبوه يزن بالمنانية -وهي طائفة من المبتدعة-، قال: فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز فقال: ما حملك على أن تستعمل رجلًا على كورة من كور المسلمين كان أبوه يزن بالمنانية؟ قال له: أصلح الله أمير المؤمنين، وما عليَّ ما كان أبوه، كان أبو النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشركًا، قال فقال عمر: آه، ثم سكت ثم رفع رأسه فقال: أأقطع لسانه، أأقطع يده ورجله، أأضرب عنقه، ثم قال: أقد جعلت هذا عدلًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا تلي لي شيئًا ما بقيت] اهـ.

توجيه حديث «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ»

من خالف ما عليه جماهير الأمة ولم يسلك هذه المسالك السابقة، فأقوى ما يستمسك به ما يلي:
ما جاء في "صحيح مسلم" عن أنس رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: «فِي النَّارِ» فلمَّا قفى دعاه فقال: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ».
وهذا الحديث قد تكلم العلماء فيه رواية ودراية؛ أما رواية: فقد تكفل ببيان ذلك وتحقيقه الإمام السيوطي في "مسالك الحنفا" (ص: 77-80) حيث قال -وفي قوله الغنية فاصبر على ما فيه من طول؛ فإنه نفيس: [الجواب: أن هذه اللفظة وهي قوله: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ»، لم يتفق على ذكرها الرواة، وإنما ذكرها حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، وهي الطريق التي رواه مسلم منها، وقد خالفه معمر عن ثابت فلم يذكر: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ»، ولكن قال له: «حَيْثُ مَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ كَافِرٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ»، وهذا اللفظ لا دلالة فيه على والده صلى الله عليه وآله وسلم بأمر البتة، وهو أثبت من حيث الرواية، فإن معمرًا أثبت من حماد، فإن حمادًا تُكُلِّم في حفظه ووقع في أحاديثه مناكير ذكروا أن رَبِيبَه دسَّها في كتبه، وكان حماد لا يحفظ فحدث بها فوهم فيها، ومن ثم لم يُخَرِّج له البخاري شيئًا، ولا خَرَّج له مسلم في الأصول إلا من روايته عن ثابت، قال الحاكم في "المدخل": ما خَرَّج مسلم لحماد في الأصول إلا من حديثه عن ثابت، وقد خَرَّج له في الشواهد عن طائفة، وأما معمر فلم يُتكلَّم في حفظه ولا استُنكِر شيء من حديثه، واتفق على التخريج له الشيخان فكان لفظه أثبت، ثم وجدنا الحديث ورد من حديث سعد بن أبي وقاص بمثل لفظ رواية معمر عن ثابت عن أنس، فأخرج البزار والطبراني والبيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: «فِي النَّارِ». قَالَ: فَأَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: «حَيْثُ مَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ كَافِرٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ». وهذا إسناد على شرط الشيخين، فتعين الاعتماد على هذا اللفظ وتقديمه على غيره، وقد زاد الطبراني والبيهقي في آخره قَالَ: فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدُ، فَقَالَ: لَقَدْ كَلَّفَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ تَعَبًا، مَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ كَافِرٍ إِلَّا بَشَّرْتُهُ بِالنَّارِ.
وقد أخرج ابن ماجه من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سالم عن أبيه رضي الله عنه قال: جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبِي كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ وَكَانَ، فَأَيْنَ هُوَ؟ قال: «فِي النَّارِ»، قَالَ: فَكَأَنَّهُ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَيْنَ أَبُوكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «حَيْثُمَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ كَافِرٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ». قَالَ: فَأَسْلَمَ الأَعْرَابِىُّ بَعْدُ، وَقَالَ: لَقَدْ كَلَّفَنِى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم تَعَبًا مَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ كَافِرٍ إِلَّا بَشَّرْتُهُ بِالنَّارِ.
فهذه الزيادة أوضحت بلا شك أن هذا اللفظ العام هو الذي صدر منه صلى الله عليه وآله وسلم ورآه الأعرابي بعد إسلامه أمرًا مقتضيًا للامتثال فلم يسعه إلا امتثاله، ولو كان الجواب باللفظ الأول لم يكن فيه أمر بشيء البتة، فَعُلِمَ أن هذا اللفظ الأول من تصرف الراوي، رواه بالمعنى على حسب فهمه، وقد وقع في "الصحيحين" روايات كثيرة من هذا النمط فيها لفظ تصرف فيه الراوي، وغيره أثبت منه، كحديث مسلم عن أنس رضي الله عنه في نفي قراءة البسملة، وقد أعله الإمام الشافعي رضي الله عنه بذلك، وقال: إن الثابت من طريق آخر نفي سماعها، ففهم منه الراوي نفي قراءتها، فرواه بالمعنى على ما فهمه فأخطأ، ونحن أجبنا عن حديث مسلم في هذا المقام بنظير ما أجاب به إمامنا الإمام الشافعي رضي الله عنه عن حديث مسلم في نفي قراءة البسملة، ثم لو فرض اتفاق الرواة على اللفظ الأول كان معارضًا بما تقدم من الأدلة، والحديث الصحيح إذا عارضه أدلة أخرى هي أرجح منه وجب تأويله وتقديم تلك الأدلة عليه كما هو مقرر في الأصول، وبهذا الجواب الأخير يُجاب عن حديث عدم الإذن في الاستغفار لأمه، على أنه يمكن فيه دعوى عدم الملازمة بدليل أنه كان في صدر الإسلام ممنوعا من الصلاة على من عليه دَين وهو مسلم، فلعله كانت عليها تبعات غير الكفر فمنع من الاستغفار لها بسببها، والجواب الأول أقعد وهذا تأويل في الجملة، ثم رأيت طريقًا أخرى للحديث مثل لفظ رواية معمر وأزيد وضوحًا، وذلك أنه صرح فيه بأن السائل أراد أن يسأل عن أبيه صلى الله عليه وآله وسلم فعدل عن ذلك تجملا وتأدبًا. فأخرج الحاكم في "المستدرك" وصححه عَنْ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ خَرَجَ وَافِدًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ نَهِيكُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ، قَالَ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ لِانْسِلَاخِ رَجَبٍ، فَصَلَّيْنَا مَعَهُ صَلَاةَ الْغَدَاةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، ... فذكر الحديث إلى أن قال: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مِنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ مِنْ خَيْرٍ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مَنْ عَرْضِ قُرَيْشٍ: إِنَّ أَبَاكَ الْمُنْتَفِقُ فِي النَّارِ، فَكَأَنَّهُ وَقَعَ حَرٌّ بَيْنَ جِلْدِي وَوَجْهِي وَلَحْمِي مِمَّا قَالَ لِأَبِي عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: وَأَبُوكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا الْأُخْرَى أَجْمَلُ، فَقُلْتُ: وَأَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مَا أَتَيْتَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْرِ قُرَشِيٍّ أَوْ عَامِرِيٍّ مُشْرِكٍ فَقُلْ: أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ مُحَمَّدٌ فَأَبْشِرْ بِمَا يَسُوءُكَ ...»] انتهى كلام الإمام السيوطي.
وأما من جهة الدراية؛ فإن هذا الحديث باللفظ الأول لو ثبت لوجب أن يُفهَم فهمًا صحيحًا، وهو الفهم الذي يجعل الحديث لا يتعارض مع الآيات والأحاديث السابقة الدالة على نجاة أبوَي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما المانع أن يكون المقصود في قوله: «أبي» عمَّه؛ لأن القرآن جاء باستعمال لفظ الأب في حق العمِّ؛ قال تعالى: ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ [البقرة: 133]، فأطلق على "إسماعيل" لفظ الأب وهو عم يعقوب، وكانت من عادة العرب أن تجعل العمَّ أبًا، فتنادي ابن الأخ بالابن حتى قال مشركو قريش لأبي طالب: قل لابنك يَرجِع عن شَتم آلهتنا، يقصدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت تسمية أبي طالب أبًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم شائعة في قريش؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم رُبِّيَ في بيته وكُفِلَ فيه.
وممن قال بأن المراد بالأب في الحديث العم -وذلك على فرض التسليم بهذه اللفظة-: الإمام السيوطي في "مسالك الحنفا" (ص: 81).
وأيضًا: عمدة الشافعية ومفتيهم الإمام ابن حجر الهيتمي في "المنح المكية في شرح الهمزية" (ص: 102، ط. دار المنهاج): [وحديث مسلم: قال رجل: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: «في النار»، فلما قفا دعاه فقال: «إن أبي وأباك في النار» يتعين تأويله، وأظهر تأويل عندي: أنه أراد بأبيه عمه..؛ لِما تقرر أن العرب تسمي العم أبًا، وقرينة المجاز في الآية الآتية -يعني قوله تعالى: ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]- الشاهدة بخلافه -أي هذا الحديث- على أصح محاملها عند أهل السنة] اهـ.
وهناك توجيه آخر لهذا الحديث ونحوه ألا وهو النسخ، وممن ذكره الإمام السيوطي في رسالته الأخرى "التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله في الجنة" (ص: 126 - مطبوعة مع "مسالك الحنفا"-، ط. دار الأمين بالقاهرة) حيث بيَّن مخالفة هذا الحديث السابق لغيره من الأدلة الصحيحة ومعارضتها له بما يجعلها ناسخة له وذكر نظيرًا لهذا؛ حيث قال: [وللمسألة -أي: مسألة الأبوين- نظير صحيح، للناس فيها خلاف، وهي مسألة: أطفال المشركين، فقد ورد في أحاديث كثيرة الجزم بأنهم في النار، وفي أحاديث قليلة أنهم في الجنة، وصحح الجمهور هذا، منهم النووي، وقال: إنه المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، وإذا كان لا يعذب البالغ لكونه لم تبلغه الدعوة فغيره أولى، هذا كلام النووي، وذكر غيره أن أحاديث كونهم في النار منسوخة بأحاديث كونهم في الجنة] اهـ.

توجيه أقوال العلماء في عدم نجاة أبوي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-

مما يتمسك به المخالفون أيضًا مما جاء في أقوال العلماء: ما جاء في الرسالة المنسوبة لملا علي القاري في والدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعنوانها: "أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام"، وفيها بيان قول الإمام أبي حنيفة في كتابه "الفقه الأكبر" أن والدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ماتا على الكفر.
وما فيها -إن صح- مردود جملة وتفصيلًا، ومجاب عنه بما سبق بيانه من وجوب التزام مزيد الأدب مع الجناب النبوي وعدم إذايته بما فيه انتقاص من الوالدين، وقد سبقت نقول العلماء الناطقة بذلك، وما كلام العلامة الآلوسي في حق مؤلف هذه الرسالة عنك ببعيد.
والحق أن ما جاء فيها غير صحيح، وبيان ذلك فيما يلي:
كتب الشيخ مصطفى أبو سيف الحمامي مقالة في كتابه "النهضة الإصلاحية" (ط. الحلبي) في الرد على هذه الرسالة، نعى فيها نعيًا شديدًا على من ساعد على نشرها وإذاعتها؛ لما في ذلك من إغضاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإذايته، فبعد تقريره لهذا الأمر قال (ص: 544): [إن غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل مؤمن به يجب أن يكون على مظهر هذه الرسالة أقوى منه على مؤلفها؛ فإن مؤلفها كتب نسخة منها وانتهى، لكن من أظهرها أظهر منها الآلاف الكثيرة، ونشرها في أنحاء الدنيا، بدل أن كانت واحدة لا تبارح مكانها وكان لا يعرفها إلا الواحد فقط بعد الواحد، أما بعد أن ظهرت فيراها أهل المعمورة خصوصًا أعداء الإسلام وأعداء رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم باطلاعهم على تلك الرسالة يفرحون فرحًا ليس عليه مزيد ويقولون في ذلك ما لا يرضاه الله ولا رسوله ولا المؤمنون، فكأن حضرة الـمُظِهر للرسالة يُعرِّضه صلى الله عليه وآله وسلم لهذا القول في نفسه وفي أبويه، لا بل هو يُعرِّضه لذلك بلا أدنى ريب، وذلك مما يؤذيه صلى الله عليه وآله وسلم إيذاءً بليغًا، ومن تسبب في كل هذا حضرة مُظهرها المحترم الذي عمل مـا عمل حتى ظهرت] اهـ.
ثم إن الشيخ قد بيَّن أن ثمة خطأً في مخطوطة الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة والذي بنى عليها المؤلف رسالته وأن الصواب بخلاف ما ذكر -كما في نسخة أخرى- حيث قال (ص: 545): [إن الذي قاله الرجل -يعنى الإمام أبا حنيفة- في فقهه الأكبر ليس ما ذكر، بل الذي قاله نَصُّه: "ووالدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماتا على الفطرة، وأبو طالب مات كافرًا". هذا الذي رأيته بعيني في الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة رضي الله عنه رأيته بنسخة بمكتبة شيخ الإسلام بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ترجع كتابة تلك النسخة إلى عهد بعيد حتى قال لي بعض العارفين هناك إنها كتبت في زمن العباسيين وهذه النسخة ضمن مجموعة رقمها (220) من قسم المجاميع بتلك المكتبة، فمن أراد أن يرى هذه النسخة من الفقه الأكبر بعينه فعليه بتلك المكتبة وهو يجدها هناك بهذا النص الذي نقلناه هنا] اهـ.
ثم ذكر توجيهًا وجيهًا يُفهم من سياق العبارة -في النسخة التي اعتمدها ملا علي القاري، وهو: ووالدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماتا على الكفر- يؤكد تحريف لفظة فيها، فقال (ص: 545- 546): [ومن تأمل وجد أن النقل الذي بنسخة ملا علي قاري به بَلِيَّتَان؛ البلية الأولى: أنه كذب يخالف النسخة القديمة التي مر ذكرها، والبلية الثانية: أن التدليس دخله؛ فإن الذي يقرأ (وأبو طالب مات كافرًا) بعد النص الذي نقله ملا علي يقول معترضًا: إذا كان والدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماتا على الكفر وأبو طالب كذلك فكان حق الكلام أن يكون هكذا: ووالدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو طالب ماتوا كفارًا، لا أن يذكر كفر أبويه صلى الله عليه وآله وسلم ويذكر كفر أبي طالب عقبه وحده.
أما نسختنا هذه فواضح جدًّا ما بها من إفراد كفر أبي طالب، فإن الحكمين حينئذٍ مختلفان، فيذكر ما يفيد إيمان أبويه صلى الله عليه وآله وسلم ثم ينص على كفر أبي طالب] اهـ.
وأبعد من ذلك أن الشيخ رحمه الله تعالى قد شفى صدور قوم مؤمنين بما نقله في رسالته هذه من رجوع ملا علي القاري عن قوله في حق الوالدين واتباعه ما عليه جمهور علماء المسلمين حيث قال (ص: 546- 547): [إن الشيخ العلامة الكبير ملا علي قاري رحمه الله وأحسن إليه وزاد النفع به رجع عما كتبه بتلك الرسالة بما كتبه في "شرحه على الشفا للقاضي عياض"، ولعل القارئ يكاد يطير فرحًا بهذا الخبر السار كل السرور من كل ناحية، نعم كل مؤمن يفيض بِشْرًا وفرحًا إذا سمع مثل هذا عن رجل كبير كَمُلا علي القاري، وإني أُعَجِّلُ البشرى للقارئ وأنقل كلام الشيخ في ذلك الشرح ليراه الباحث بعينه، وكلامه هذا في موضعين من هذا الشرح الموضع الأول برقم 601 والموضع الثاني برقم 648 من طبعة إستامبول الصادرة سنة 1316هـ.
فأما الموضع الأول فذكر صاحب "الشفاء": (أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو رديفه بذي المجاز: عطشت وليس عندي ماء، فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضرب بقدمه الأرض فخرج الماء، فقال: اشرب)، قال بعد هذا ملا علي قاري ما نصه: (قال الدلجي: الظاهر أن هذا كان قبل البعثة يعني فيكون من الإرهاصات، ولا يبعد أن يكون بعد النبوة فهو من المعجزات، ولعل فيه إيماءً إلى أنه سيظهر نتيجة هذه الكرامات من بركة قدم سيد الكائنات، في أواخر الزمان قريب الألف من السنوات، عين في عرفات، تصل إلى مكة وحواليها من آثار تلك البركات، هذا وأبو طالب لم يصح إسلامه، وأما إسلام أبويه ففيه أقوال، والأصح إسلامهما على ما اتفق عليه الأجلَّة من الأمة كما بيَّنه السيوطي في رسائله الثلاث المؤلفة).
وأما الموضع الثاني فقال فيه الشيخ رحمه الله ما نصه: (وأما ما ذكروا من إحيائه عليه الصلاة والسلام أبويه فالأصح أنه وقع على ما عليه الجمهور الثقات، كما قال السيوطي في رسائله الثلاث المؤلفات. اهـ)] انتهى ما نقله الشيخ الحمامي.
ثم ذكر الشيخ اعتراضًا وأجاب عليه فقال (ص: 549): [بقي أن يُقال على رجوع ملا علي عن رسالته: نحن لا ندري أي الأمرين المتأخر ليكون عليه المعمول، أهي الرسالة؟ وإذن يكون ملا علي قد رجع عن القول بنجاة الوالدين رضي الله عنهما، أم ما قاله في "شرح الشفاء"؟ وإذن يكون رجع عن القول بأنهما من الكفار وصمم على القول بإيمانهما، وإنا نتكلم عن هذه النقطة فنقول:
الأمر ظاهر على تقدير أن المتأخر كلامه على "الشفاء"، أما على تقدير أن الرسالة هي المتأخرة فالأمر يبدو في بادئ النظر ضعيفًا، والذي يعطي الموضع حظه من التأمل يراه في غاية السهولة، فإن الشيخ صرح في "شرحه على الشفاء" أن القول بإسلام الوالدين متفق عليه بين الأَجِلَّة من الأمة، وهو ما عليه الجمهور من الثقات، وإذن لو رجع عن هذا القول إلى القول الثاني الذي تتضمنه الرسالة يكون مخالفًا لما اتفق عليه الأجلة والذي عليه الجمهور من الثقات، وأي قيمة لقول يخالف فيه قائله ما اتفق عليه الأجلَّة من الأمة، قول في ناحية وجمهور الثقات من الأمة في ناحية أخرى] اهـ.

إطلاق لفظ السيادة على والدي النبي -صلى الله عليه وسلم-

إنه على القول بأن والدي النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ماتا على الحنيفية ولم يتلبسا بشرك مطلقًا أو أن الله عز وجل قد أحياهما له صلى الله عليه وآله وسلم وآمَنَا به فإنه يجوز إطلاق لفظ السيادة عليهما؛ إذ ليس ثمة مانع شرعًا من هذا، بل إنه مستحب لما فيه من مزيد الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلى القول بأنهما من أهل الفترة فهما ناجيان في الآخرة ولكن لا يعاملان معاملة أهل الإيمان في الدنيا أو على القول الآخر المخالف لجمهور علماء المسلمين بأنهما ليسا من أهل الإيمان أصلًا فإنه يجوز أيضًا وصفهما بالسيادة؛ فيجوز أيضًا أن نقول عن أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: السيدة آمنة بنت وهب؛ إذ إن لفظ السيد في اللغة كما يُطلق على الرب والمالك يُطلق أيضًا على الشريف والفاضل والكريم، والسيد أيضًا: الذي يفوق غيره في الخير. يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور، مادة: سود (3/ 228-230، ط. دار صادر).
ولفظ السيدة يقال للمرأة العفيفة. يُنظر: "المخصص في اللغة" لابن سيده (1/ 345، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"لسان العرب" لابن منظور، مادة: عفف (9/ 253).
ولا شك أن إطلاق لفظ السيدة على والدة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المعنى لا مانع منه شرعًا، وموافق للواقع فهي سيدة في قومها بلا شك.
ولا يُقال: يُمنع إطلاق لفظ "السيدة" على أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم -على قول من يقول بأنهما من أهل الفترة فهما ناجيان في الآخرة ولكن لا يعاملان معاملة أهل الإيمان في الدنيا أو على القول الآخر المخالف لجمهور علماء المسلمين بأنهما ليسا من أهل الإيمان أصلًا؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه أحمد في "مسنده" والبخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود في "سننه" عن قتادة عن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه: «لا تقولوا للمنافق سيِّدٌ؛ فإنه إن يك سيِّدًا فقد أسخطتم ربكم عز وجل».
وذلك لما يلي:
أولًا: أن هذا الحديث مختلف في صحته؛ فإن كان بعض علماء الحديث قد صححه كالإمام النووي في "الأذكار" (ص: 362، ط. دار الفكر)، والحافظ العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" بلفظ: «للفاسق» (ص: 1056، ط. دار ابن حزم)، والإمام المنذري في "الترغيب والترهيب" (3/ 359، ط. دار الكتب العلمية)، إلا أن بعضهم قد أعله بالانقطاع؛ لأنه لا يُعرف لقتادة سماعٌ من عبد الله بن بريدة، وذلك كما قال الإمام البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 12، ط. دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد- الدكن)، ونقله الإمام الترمذي في "سننه" عن بعض أهل العلم. "سنن الترمذي" (3/ 310، ط. دار إحياء التراث العربي- بيروت).
وكلام البخاري نقله عنه الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (8/ 355، ط. مطبعة دائرة المعارف النظامية- الهند)، وكلام الترمذي نقله عنه العلائي في "جامع التحصيل" (ص: 255، ط. عالم الكتب- بيروت)، وابن العراقي أبو زرعة في "تحفة التحصيل" (ص: 265، ط. مكتبة الرشد- الرياض). وجميعًا سكتوا عنه.
وهذا الحديث أخرجه الحاكم في "المستدرك" عن عقبة بن الأصم عن عبد الله بن بريدة وقال: [هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخَرِّجَاه] اهـ، إلا أن الحافظ الذهبي تعقَّبه في "التلخيص" بقوله: [عقبة بن الأصم ضعيف] اهـ.
ونقل في "ميزان الاعتدال" من أقوال العلماء في عقبة بن الأصم ما يلي: [قال يحيى: ليس بشيء. وقال أبو داود: ضعيف، وقال الفلاس: كان واهي الحديث وليس بالحافظ. وقال النسائي: ليس بثقة] اهـ.
فهذا يفيد أنه لا يصلح في الشواهد والمتابعات. والله أعلم.
ثانيًا: أن هذا معارض بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع غير المسلمين؛ فقد خاطب صلى الله عليه وآله وسلم الكفار من ملوك فارس والروم في كتبه إليهم بقوله: "عظيم"، كعظيم الروم ونحو ذلك كما جاء في الصحيح.
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم (12/ 108، ط. دار إحياء التراث العربي): [ولم يقل صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل فقط بل أتى بنوع من الملاطفة فقال: عظيم الروم، أي: الذي يعظمونه ويقدمونه -أي: قومه-، وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يُدعَى إلى الإسلام، فقال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125]، وقال تعالى: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ [طه: 44]، وغير ذلك] اهـ.
ولا شك أن إطلاق لقب "السيدة" على أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من باب أنها عظيمة في قومها وفي زمنها لا حرج فيه حينئذٍ.
ومعلوم عند جميع المسلمين أن السيدة آمنة بنت وهب شريفة قرشية، وهي يومئذٍ سيدة في قومها ومن أفضلهم حسبًا، وأبوها وهب بن عبد مناف بن زهرة سيد بني زهرة.
قال ابن كثير في "السيرة النبوية" (1/ 177، ط. دار المعرفة، بيروت): [فخرج به -يعنى عبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم- عبد المطلب حتى أتى وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، وهو يومئذٍ سيد بني زهرة سنًّا وشرفًا، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب، وهي يومئذٍ سيدة نساء قومها] اهـ.
والقول بأن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع غير المسلمين من الملوك إنما كان لمصلحة تأليف قلوبهم وترغيبهم للدخول في الإسلام أما ما نحن فيه فهذا غير حاصل، وهذا غير صحيح؛ لأن في تعظيم أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإطلاق لفظ "السيدة" عليها مراعاة لجناب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتأليف لقلوب جماهير المسلمين الذين يرون أن الوالدين من أهل الإيمان أو من الناجين.
ثالثًا: تنـزُّلًا مع المخالف، وعلى فرض التسليم بصحة الحديث وعدم معارضته بشيء، فإن تعظيم غير المسلم أو الفاسق ليس بمحرم مطلقًا، بل قد يباح من غير كراهة إذا كان في تركه ضرر، ويكره بخلاف ذلك.
يقول الإمام النووي في "الأذكار" (ص: 362، ط. دار الفكر): [لا بأس بإطلاق فلان سيد، ويا سيدي، وشبه ذلك إذا كان المسوَّد فاضلاً خيِّرًا، إما بعلم، وإما بصلاح، وإما بغير ذلك. وإن كان فـاسقًا، أو متهمًا في دينه، أو نحو ذلك، كُره لـه أن يُـقال سيِّد] اهـ.
وقال ابن علان الصديقي في كتابه "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" (8/ 193، ط. دار الكتاب العربي- بيروت) في شرح حديث: «لا تقولوا للمنافق سيد»: [ومثله سائر ألفاظ التعظيم، ومحل النهي ما لم يحس من تركه ضررًا على نفسه أو أهله أو ماله وإلا فلا كراهة] اهـ.

الخلاصة

بناءً على ما سبق: فإنه يجوز شرعًا إطلاق لفظ "السيدة" على أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة