ما حكم التعدي على ضريح الشيخ الكردي بالبحيرة؟ فالآن قد قربنا من انتهاء بناء مسجد الكردي بأحسن صورة تليق بهذا المسجد القديم، كانت مساحته صغيرة، وبه دورة مياه، ومكان الوضوء، ومكان خالٍ مساحته كانت أكبر من مساحة المسجد القديم، وقد تم بحمد الله ضم كل هذه الفراغات إلى المسجد فأصبح أكبر مساحة مما كان عليه قبل ذلك، وكانت به مقصورة خشبية خالية ليس تحتها قبر، وقد قمنا بحفر أرضية المسجد بعمق أكثر من متر ونصف، ولم نجد قبرًا في مكان المقصورة ولا في أي مكان آخر من مساحة المسجد. نما إلى علمنا بأن الإخوة الصوفيين (أبو العزائم – البرهانيين – الرفاعية) وغيرهم على أهبة الاستعداد لإقامة مقصورة أخرى بالرخام في وسط المسجد رغم أن مكان المقصورة الخشبية القديمة حاليًّا لا تبعد عن القبلة أكثر من مترين ونصف.
ونحيط علم سيادتكم أن هناك على الجانب الآخر من هم ضد بناء الأضرحة بالمساجد من طرق سلفية وغيرهم من عامة الناس مما يترتب عليه قيام مشاجرة مما يعرضنا إلى فتنة في حي زغلول بين أهالي المنطقة. نرجو من معاليكم إفادتنا بحكم الدين في إقامة الأضرحة بالمساجد.
لا يجوز شرعًا إزالة الضريح من المسجد المذكور أو نقل رفات صاحبه إلى مكان آخر تحت أي دعوى، حتى لو كانت توسعة المسجد وتجديده؛ لما في ذلك من الاعتداء السافر على حرمة صاحب الضريح، وسوء الأدب مع أولياء الله الصالحين، وهم الذين توعد الله مَن آذاهم بأنه قد آذنهم بالحرب كما جاء في الحديث القدسي: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» رواه البخاري، ومن أراد توسعة المسجد أو تجديده فالواجب عليه شرعًا أن يُبْقِيَ الضريح الذي فيه في مكانه حتى لو أصبح وسط المسجد، أو يُتْرَك المسجد كما هو، مع صحة ومشروعية الصلاة فيه بإجماع المسلمين.
وكونكم حفرتم في هذا المكان على العمق المذكور فلم تجدوا شيئًا ليس دليلًا على عدم وجود جسد صاحب الضريح فيه، فقد يكون الجسد على عمق أكثر مما حفرتم، وما فعلتموه ذنبٌ يجب لزوم التوبة والاستغفار منه، ومن تاب تاب الله عليه.
المحتويات
من المقرر شرعًا أن مكان القبر إما أن يكون مملوكًا لصاحبه قبل موته، أو موقوفًا عليه بعده، وشرط الواقف كنص الشارع؛ فلا يجوز أن ينبش هذا القبر أو يزال ما عليه من البناء أو يُتَّخَذَ مكانُه لأي غرض آخر.
وقد حرم الإسلام انتهاك حرمة الأموات؛ فلا يجوز التعرض لقبورهم بالنبش؛ لأن حرمة المسلم ميتًا كحرمته حيًّا، فإذا كان صاحب القبر من أولياء الله الصالحين فإن الاعتداء عليه بنبش قبره أو إزالته أشد حرمة وأعظم جُرْمًا؛ فإنهم موضع نظر الله تعالى، ومن نالهم بسوء أو أذًى فقد تعرض لحرب الله عز وجل، كما جاء في الحديث القدسي: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وما يُرادُ فعلُه بهذا الضريح المبارك للشيخ الكردي رضي الله عنه -المعروفِ صاحبُه والمشتهر عند أهل بلده والمسمَّى المسجدُ باسمه- من إزالة مقصورته بدعوى توسعة المسجد والاستفادة بمكانها في مساحته تصرُّفٌ لا يجوز شرعًا؛ فإن مكان الضريح موقوف على صاحبه، ومن المقرر في قواعد الفقه أن شرط الواقف كنص الشارع، والتقرب إلى الله تعالى لا يكون بارتكاب ما حرمه، وتوسعة بيوت الله لا تكون بتضييع حقوق أولياء الله، ولا يجوز التوصل إلى الخير بفعل الحرام، ولو تم ذلك فهو من العدوان السافر على حرمات الأموات، كما أنه يُعَدُّ جريمةً في القانون المصري؛ على ما تنص عليه المادة 160 من قانون العقوبات: [يُعاقَب بالحبس مدةً لا تزيد عن خمس سنوات، وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد على خمسمائة جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين: كلُّ مَن شوش على إقامة شعائرِ ملةٍ أو احتفالٍ ديني خاص بها أو عطَّلها بالعنف أو التهديد، وثانيًا: كلُّ مَن خرَّب أو كسر أو أتلف أو دنس مباني معدة لإقامة شعائر دين أو رموزًا أو أشياء أخرى لها حرمة عند أبناء ملة أو فريق من الناس، وكذلك كل من انتهك حرمة القبور أو الجبانات أو دنسها] اهـ.
وما دام مكان الضريح معلومًا بالنقل أو الاشتهار فليس لأحد أن يجرب نبشه ويهتك حرمة صاحبه زاعمًا أنه يريد أن يتأكد من وجوده، ولو فُتِحَ هذا الباب لتلاعب العامة بقبور موتاهم وصالحيهم، ولأدَّى ذلك إلى انتهاك حرمة الأموات والتعدي على حقوقهم وإزالة كل ما يدل عليهم.
أما عدم رؤية رفات صاحب الضريح أو شيء يدل عليه فلا يدل على عدم وجوده، غاية ما في الأمر أن يكون الولي الصالح مدفونًا أعمق مما تم حفره، ومهما كان الأمر فليس ذلك مبررًا لجعل الضريح من المسجد بتسويته والصلاة عليه أو مسـوغًا لإزالة ما يدل عليه فوقه، بل لو بَلِي جسد صاحب الضريح أو تحول إلى رفات فإن ذلك لا يزيل وقفه عليه، وليس من شأن أهل العلم والفضل وأولياء أمور المسلمين أن يسيروا خلف كل مُدَّعٍ يريد تسوية ضريحٍ لولي صالح اشتهر قبره بدعوى أنه حفر فلم يجد شيئًا، بل ولا يجوز الاسترسال خلف هذه الدعاوي بالتجرؤ على فحص قبور أولياء الصالحين المشتهرة المعروفة وانتهاك حرماتهم للتأكد من وجودهم فيها، وإلا لصار الأمر تُكَأَةً وأُلْعوبةً لكل ناعق دعيٍّ أو باغٍ عادٍ يسول له شيطانه الأثيم التعديَ على أضرحة آل البيت وأولياء الله الصالحين بمثل هذه الشُّبَه الفاسدة والأغلوطات الكاسدة.
ومن أراد توسعة مسجد أو تجديده يجب عليه شرعًا أن يُبْقِيَ الضريح الذي فيه في مكانه حتى لو أصبح وسط المسجد، أو يُتْرَك المسجد كما هو من غير توسعة حتى يقيض الله تعالى له مَن يتولى توسعته مِن عباده المخلصين الذين يعرفون لأوليائه قدرهم وحرمتهم، وينأون بأنفسهم عن التعدي على أضرحة الصالحين؛ لتتحقق إقامةُ المساجد على تقوى مِن الله تعالى ورضوان.
أما ما يثيره بعض الناس من طرق سلفية وجماعات متشددة وغيرها حول بدعية الأضرحة في المساجد بل وشركيته عند بعضهم: فهو كلام نابتةٍ نأَتْ عن العلم وأهله، وصدرت في مزاعمها عن فهم مغلوط أساءت فيه الظن بالمسلمين عبر القرون، مخالفة بذلك صريح الكتاب والسنة وعمل الصحابة والسلف، ونصوص الفقهاء، وإجماع المسلمين الفعلي عبر الأعصار والأمصار، فمن أدلة القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ [الكهف: 21]، وسياق الآية يدل على أن القول الأول هو قول المشركين، وأن القول الثاني هو قول الموحِّدين، وقد حكى الله تعالى القولين دون إنكار؛ فدل ذلك على إمضاء الشريعة لهما، بل إن سياق قول الموحدين يفيد المدح؛ بدليل المقابلة بينه وبين قول المشركين المحفوف بالتشكيك، بينما جاء قول الموحدين قاطعًا، وأن مرادهم ليس مجرد البناء، بل المطلوب إنما هو المسجد.
قال الإمام الرازي الشافعي في تفسير قوله تعالى: ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عليهم مَسجِدًا﴾: [نعبد الله فيه، ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد] اهـ.
وقال العلامة الشهاب الخفاجي في "حاشيته على تفسير البيضاوي": [في هذه دليل على اتخاذ المساجد على قبور الصالحين] اهـ.
ومن السُّنَّة النبوية الشريفة: حديث أبي بصير رضي الله عنه، الذي رواه عبد الرزاق عن مَعمَر، وابن إسحاق في "السيرة"، وموسى بن عُقبة في "مغازيه" -وهي أصح المغازي كما يقول الإمام مالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم-: ثلاثتهم عن الزُّهرِي، عن عُروة بن الزُّبَير، عن المِسوَر بن مَخرَمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهم: أن أبا جَندَلِ بن سُهَيل بن عمرو دفن أبا بَصِير رضي الله عنه لَمَّا مات وبنى على قبره مسجدًا بسِيف البحر، وذلك بمحضر ثلاثمائة من الصحابة. وهذا إسناد صحيح، كله أئمة ثقات، ومثل هذا الفعل لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك فلم يَرِد أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بإخراج القبر من المسجد أو نبشه.
كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «في مسجد الخَيفِ قَبرُ سبعين نبيًّا» أخرجه البزار والطبراني في "المعجم الكبير"، وقال الحافظ ابن حجر في "مختصر زوائد البزار": هو إسناد صحيح.
وقد ثبت في الآثار أن سيدنا إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر رضي الله عنها قد دُفِنا في الحِجر من البيت الحرام، وهذا هو الذي ذكره ثقات المؤرخين واعتمده علماء السِّيَر: كابن إسحاق في "السيرة"، وابن جرير الطبري في "تاريخه"، والسهيلي في "الروض الأنف"، وابن الجوزي في "المنتظم"، وابن الأثير في "الكامل"، والذهبي في "تاريخ الإسلام"، وابن كثير في "البداية والنهاية"، وغيرهم من مؤرخي الإسلام، وأقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، ولم يأمر بنبش هذه القبور وإخراجها من مسجد الخيف أو من المسجد الحرام.
وأما فعل الصحابة: فقد حكاه الإمام مالك في "الموطأ" بلاغًا صحيحًا عندما ذكر اختلاف الصحابة في مكان دفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: [فقال ناسٌ: يُدفَنُ عندَ المِنبَرِ، وقال آخَرُونَ: يُدفَنُ بالبَقِيعِ، فجاءَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فقال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وآله وسلم يقولُ: «ما دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إلاّ في مَكانِه الذي تُوُفِّيَ فيه»، فحُفِرَ له فيه] اهـ. والمنبر من المسجد قطعًا، ولم ينكر أحد من الصحابة هذا الاقتراح، وإنما عدل عنه أبو بكر تطبيقًا لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُدفَن حيث قُبِضَت روحه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم؛ فدُفِن في حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها المتصلة بالمسجد الذي يصلي فيه المسلمون، وهذا هو نفس وضع المساجد المتصلة بحجرات أضرحة الأولياء والصالحين في زماننا.
وأما دعوى الخصوصية في ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فهي غير صحيحة؛ لأنها دعوى لا دليل عليها، بل هي باطلة قطعًا بدَفنِ سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر رضي الله عنهما في هذه الحجرة التي كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تعيش فيها وتصلِّي فيها صلواتها المفروضة والمندوبة؛ فكان ذلك إجماعًا من الصحابة رضي الله عنهم على جوازه.
وقد دأب السلف الصالح رجالًا ونساءً على زيارة قبور الصالحين والعناية بها وخدمتها وإصلاح شؤونها؛ كما كانت تفعل السيدة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها: فروى ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 19، ط. دار صادر)، وابن شبة في "تاريخ المدينة" (ص: 132)، والبلاذري في "أنساب الأشراف" (4/ 294، ط. جمعية المستشرقين الألمانية)، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (1/ 149، ط. دار النوادر) عن أبي جعفر الباقر قال: "كَانَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها بنتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تَأْتِي قَبْرَ حَمْزَةَ رضي الله عنه فتَرُمُّهُ وَتُصْلِحُهُ".
ومن إجماع الأمة الفعلي وإقرار علمائها لذلك: صلاة المسلمين سلَفًا وخَلَفًا في مسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمساجد التي بها أضرحة من غير نكير، وإقرار العلماء من لدن الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة الذين وافقوا على إدخال الحجرة النبوية الشريفة إلى المسجد النبوي سنة ثمان وثمانين للهجرة؛ وذلك بأمر الوليد بن عبد الملك لعامله على المدينة حينئذٍ عمر بن عبد العزيز رحمه الله، ولم يعترض منهم إلا سعيد بن المُسَيب، لا لأنه يرى حرمة الصلاة في المساجد التي بها قبور؛ بل لأنه كان يريد أن تبقى حجرات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما هي يطلع عليها المسلمون حتى يزهدوا في الدنيا ويعلموا كيف كان يعيش نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها في "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ والنَّصارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيائِهم مَساجِدَ» فالمساجد: جمع مَسجِد، والمسجد في اللغة: مصدر ميمي يصلح للدلالة على الزمان والمكان والحدث، ومعنى اتخاذ القبور مساجد: السجود لها على وجه تعظيمها وعبادتها كما يسجد المشركون للأصنام والأوثان -كما فسَّرَته الرواية الصحيحة الأخرى للحديث عند ابن سعد في "الطبقات الكبرى" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا، لَعَنَ اللهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، فجملة «لعن الله قومًا..» بيانٌ لمعنى جَعل القبر وثنًا، والمعنى: اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُسجَدُ له ويُعبَد كما سجد قوم لقبور أنبيائهم، قال الإمام البيضاوي الشافعي: [لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم؛ تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانًا، لعنهم الله ومنع المسلمين عن مثل ذلك ونهاهم عنه، أما من اتخذ مسجدًا بجوار صالِحٍ أو صلَّى في مقبرته وقصد به الاستظهار بروحه ووصول أثر من آثار عبادته إليه -لا التعظيم له والتوجه- فلا حرج عليه؛ ألا ترى أن مدفن إسماعيل في المسجد الحرام ثم الحطيم، ثم إن ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى المصلي بصلاته، والنهي عن الصلاة في المقابر مختص بالمنبوشة؛ لِما فيها من النجاسة] اهـ.
وفي "شرح السجلماسي" المالكي على "العمل الفاسي": [مما جرى به العمل لفاسٍ وغيره: تحلية قبور الصالحين بالبناء عليها تعظيمًا؛ كما أفتى به الإمام سيدي عبد القادر الفاسي والد الناظم، ثم ذكر فتواه السابقة، ثم قال: جواز البناء على القبور منقول عن ابن القصار، وإذا كان ذلك على مطلق القبور مع عدم قصد المباهاة كان البناء بقصد تعظيم من يعظم شرعًا أجوز، بل حيث كان القصد بالبناء التعظيم ينبغي أن يكون مشرفًا بالبناء على البيوت بالنقش والتزويق؛ لأن ذلك كله من كمال التعظيم]اهـ. باختصار نقلًا عن "إحياء المقبور" للحافظ السيد أحمد بن الصديق الغماري.
وقال قطب الإرشاد العلامة الحداد الشافعي في "مصباح الأنام وجلاء الظلام" (ص: 42-43، ط. المطبعة العامرة الشرفية): [وأما القول بكفر أهل البلد الذي فيها قبة، وأنها كالصنم، فهو تكفير للمتقدمين والمتأخرين من الأكابر والعلماء والصالحين وكافة المسلمين من أحقاب وسنين، مخالفًا للإجماع السكوتي على الأنبياء والصالحين من عصور ودهور صالحة. قال تلميذ ابن تيمية الإمام ابن مفلح الحنبلي في "الفصول": القبة والحظيرة في التربة إن كان في ملكه فعل ما يشاء، وإن كان في مسبلة كره التضييق بلا فائدة، ويكون استعمالًا في المسبلة فيما لم توضع له. انتهى كلام ابن مفلح، قال ابن القيم الحنبلي: ما أعلم تحت أديم السماء أعلم في الفقه في مذهب أحمد من ابن مفلح، وقوله في المسبلة: بلا فائدة، إشارة إلى أن المقبور غير عالم وولي، وأما هما فيندب قصدهما للزيارة كالأنبياء عليهم السلام، وينتفع الزائر بذلك من الحر والبرد والمطر والريح والله أعلم؛ لأن للوسائل حكم المقاصد] اهـ بتصرف يسير.
بعد اعتداء بعض هؤلاء النابتة في الديار المصرية على بعض أضرحة أولياء الله الصالحين: صدر بيان من مجمع البحوث الإسلامية يوم الخميس بتاريخ 31 مارس 2011م: أعلن فيه المجمع رفضه واستياءه الشديد لما حدث من اعتداء على بعض أضرحة الصالحين وقبورهم، وأعلن المجمع أنه هذه التصرفات محرمة شرعًا ومجرمة عرفًا وقانونًا، وأنه يناشد المسئولين أن يتصدَّوْا لهؤلاء المعتدين، وألا يمكنوهم من تحقيق أهدافهم، وأن يحولوا بينهم وبين ما يريدون.
وعليه: فإن إزالة أضرحة الأولياء والصالحين والشهداء والعلماء ونحوهم من المساجد المدفونة فيها ومحو معالمها بتسويتها وإزالة ما فوقها -تحت أي دعوى- هو أمر محرم شرعًا، بل هي كبيرة من كبائر الذنوب؛ لما في ذلك من الاعتداء السافر على حرمة الأموات، وسوء الأدب مع أولياء الله الصالحين، وهم الذين توعد الله مَن آذاهم بأنه قد آذنهم بالحرب، وقد أُمِرنا بتوقيرهم وإجلالهم أحياءً وأمواتًا.
بناءً على ذلك: فإننا نهيب بعموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وبالأئمة الفضلاء والعلماء الأجلاء وبالوزارات المسئولة عن الأوقاف والشئون الدينية في الدول الإسلامية إلى التنبه والتفطن إلى هذه الممارسات الشيطانية، والتصدي بكل قوة لهذه الدعوات الهدامة التي ما تفتأ ترفع عقيرتها تارةً وتعبث بمعاولها تارةً أخرى زاعمة أن قبور الصالحين التي بنى المسلمون المساجد عليها شرقًا وغربًا سلفًا وخلفًا -بدءًا بنبيها صلى الله عليه وآله وسلم في روضته الشريفة بالمدينة المنورة، ومرورًا بالصحابة وآل البيت الكرام كسيدنا أبي بصير في جدة البحر، والإمام الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة رضي الله عنهم بأرض مصر، والأئمة المتبوعين كالشافعي والليث بن سعد بمصر، وأبي حنيفة وأحمد ببغداد، وأولياء الله الصالحين كالشيخ عبد القادر الجيلاني الحنبلي ببغداد وأبي الحسن الشاذلي بمصر وعبد السلام الأسمر بليبيا، وعلماء الأمة ومحدثيها كالإمام البخاري في بخارى وابن هشام الأنصاري والعيني والقسطلاني وسيدي أحمد الدردير في مصر، وغيرهم ممن يضيق المقام عن حصرهم- هي من شعائر الشرك وأعمال المشركين، وأن المسلمين إذ فعلوا ذلك فقد صاروا مشركين بربهم سبحانه، ويجعلون التوسل بالأنبياء والصالحين وتعظيم أماكنهم وزيارة أضرحتهم -وهو ما أطبقت عليه الأمة وعلماؤها جيلًا إثر جيل- ضربًا من ضروب الوثنية والشرك، سالكين سبيل الخوارج في تكفير المسلمين وتفسيقهم وتبديعهم، غير عابئين بتراث الأمة ومجدها وحضارتها، فلا يعود المسلم يحس بمجد تاريخي ولا علمي ولا ثقافي ينتسب إليه، ولا يعود يرى سَلَفَه إلا شُذَّاذ آفاقٍ مُضلَّلين يعبدون غير الله ويشركون به من غير أن يشعروا، فينهار المسلم أمام نفسه ويصغر في عين ذاته؛ وذلك كله جريًا منهم وراء فهم سقيم لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي وردت في المشركين الذين يعبدون غير الله، لا في المسلمين الموحدين الذين يحبون الله ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأولياء الله الصالحين ويكرمونهم أحياءً وأمواتًا، وهذه كلها مداخل ضلالة الخوارج؛ الذين انطلقوا إلى الآيات التي نزلت في المشركين فجعلوها في المسلمين؛ كما رواه الإمام البخاري في "صحيحه" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في وصف الخوارج تعليقًا، ووصله الطبري في "تهذيب الآثار" بسند صحيح.
وعلى المسلمين في كل مكان أن يتصدَّوْا لهذه الدعوات الهدامة وأن يقفوا وقفة رجل واحد لصد عدوان هؤلاء المعتدين ودفع بغي الباغين؛ حتى لا تصير أضرحة الأولياء والصالحين وآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومقامات عظماء الأمة وعلمائها وشهدائها أُلْعوبةً بيد كل ناعقٍ منافقٍ أو دعيٍّ فاسق يسول له شيطانه الأثيم التعديَ عليها بمثل هذه الشُّبَه الفاسدة والأغلوطات الكاسدة.
ولذلك فإنه يجب شرعًا على ولاة أمور المسلمين وكل من ولَّاهم الله تعالى أمر الأوقاف والمساجد وشئونها أن يأخذوا على يد كل عابث أثيم لا يعرف لقبور آل البيت والصالحين حرمة، ولا يرقب في أولياء الأمة إلًّا ولا ذمة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.