ما حكم استعمال الحقنة الشرجية أثناء الصيام؛ حيث يعاني بعض الناس من إمساكٍ مزمن أو غيره من الأمراض؛ مما يضطرهم إلى استعمالها في نهار رمضان؟
بعد دراسة واقع عمل الحقنة الشرجية، وأغراض استخدامها المتعددة، وما يصل إليه محتواها في بدن الإنسان، والوقوف على شدة الاحتياج إليها ممَّن يعانون من الإمساك المزمن أو غير ذلك من الأمراض، والاستماع إلى الخبراء المتخصصين: ترى دار الإفتاء المصرية أن استخدامها أثناء الصيام لا يؤثر في صحة الصوم؛ لأنها لا تصل إلى الجوف المعتبر شرعًا، وهذا قول المحققين من العلماء.
المحتويات
تزداد أهمية تصوُّر المسألة إذا تعلقت بالمسائل الطبية؛ كما هي الحال في الحقنة الشرجية، وخصوصًا في ظل ازدياد الدراسات التي تهتم ببحث إمكانية توصيل الأدوية عن طريق المستقيم إكلينيكيًّا وصيدليًّا لعلاج الحالات المزمنة؛ بما في ذلك أمراض الجهاز الهضمي، والسكري، والربو، وارتفاع ضغط الدم، والسرطان؛ خاصة الأدوية التي من خصائصها ضَعْفُ الاستقرار أو الذوبان أو النفاذية بعد تناولها عن طريق الفم، مع ملاحظة ورصد ما وصل إليه واقع هذه الحقنة من التطور الصناعي في تصميم شكل الجرعات، والتركيب الدوائي بمراعاة خصائصه الكيميائية والفيزيائية وعوامل الذوبان والتفكك والإسالة والاستقرار وتحفيز الامتصاص، وتحفيز عملية الإفراز، وسهولة الاستعمال، وتعدد الأغراض الطبية للاستخدام؛ ممَّا ترتب عليه إعادةُ النظر في خصوص استخدامها أثناء الصيام بمراعاة التطور التقني والتقدم الطبي في دراسة تشريح جسد الإنسان؛ وذلك بعد الاستماع إلى الخبراء المتخصصين، وفي ضوء المقررات الفقهية المتعلقة بأحكام الصيام.
والحقنة الشرجية (Enema): عبارة عن آلة تشتمل على سائل طبي يتم ضخه في الأمعاء الغليظة (القولون- Colon) عن طريق المستقيم؛ لتحفيز نشاطها، وإخراج ما بها من فضلات متحجرة؛ وذلك مِن أجل تسهيل عملية الإخراج، أو لإجراء فحوصات أو عمليات طبيَّة، وتتناول في صورة جرعات صلبة (مثل التحاميل)، وفي صورة جرعات سائلة أو شبه سائلة.
والمستقيم يبدأ من نهاية القولون السيني إلى القناة الشرجية؛ فهو الجزء الأخير من الأمعاء الغليظة، وهو يعمل -وفق التشريح الوظيفي- كقناةِ نقلٍ أو مكانِ تخزينٍ في عملية البراز، مع مشاركة بنسبة يسيرة جدًّا فقط في امتصاص الماء وبعض المواد من محتويات الجهاز الهضمي.
والشرج: قناة يبلغ طولها حوالي أربعة سنتيمترات (4سم)، تصل بين المستقيم والوسط الخارج، وتسير نحو الأسفل عبر حلقة مِن العضلات الطاردة تدعى المصرة الشرجية إلى الفوهة الشرجية التي مِن خلالها يتم طرح الغائط. ينظر: "معجم المصطلحات الطبيَّة" لستيدمان تابر (Tabers Medical Dictionary)، و"النشاط الوظيفي للمستقيم: عضو قناة، أو جهاز تخزين، أو كلاهما؟" للدكتور/ أحمد شفيق وآخرين، مقال منشور باللغة الإنجليزية بالمجلة العالمية لأمراض الجهاز الهضمي "World Journal of Gastroenterology" (عدد 28).
وقد شاع استخدام هذه الحقنة لتسهيل عملية الإخراج منذ قرون طويلة، حتى تناولتها نصوص الفقهاء بالتعريف وبيان حكم استخدامها للصائم، وجاءت تعريفاتهم لها موافقة لتعريفها الطبي المعاصر من حيث الصورة الأولية.
قال الإمام بدر الدين العيني في "البناية" (4/ 63، ط. دار الكتب العلمية): [م: (ومَن احتقن) ش: أي: وضع الحقنة في الدبر، والحقن بفتح الحاء؛ كذا في "المغرب"، وقال ابن الأثير: الحقنة: أن يُعطَى المريضُ الدواءَ مِن أسفله، وهي معروفة عند الأطباء] اهـ. ينظر: "الجوهرة النيرة" للإمام الحداد الحنفي (1/ 141، ط. المطبعة الخيرية)، و"شرح مختصر خليل" للإمام الخرشي المالكي (2/ 249، ط. دار الفكر)، و"الإقناع" للخطيب الشربيني الشافعي (1/ 237، ط. دار الفكر)، و"المطلع على ألفاظ المقنع" للإمام البعلي الحنبلي (ص: 184، ط. مكتبة السوادي).
وعملية الإخراج هي جزء أساسي مِن العمليات الوظيفية التي يقوم بها الجهاز الهضمي لتخليص الجسم مِن السموم والمواد الضارة؛ حيث يبدأ الجهاز الهضمي بمنفذ الفم وينتهي بمنفذ الشرج، ويمر الغذاء فيما بين إدخاله إلى الجسم وإخراجه منه بعدة مراحل وبعدد مِن الأعضاء الداخلية؛ كالبلعوم، والمريء، ومنه إلى "المعدة" (Stomach): وهي عبارةٌ عن كيس بيضاوي الشكل، ينتهي بـ"الأمعاء الدقيقة" (Large Intestine)، ووظيفة المعدة والأمعاء الدقيقة في ذلك هي خلط الطعام وعجنه وامتصاص ما به من مواد غذائية نافعة، وذلك قبل نقل الزائد والضار مِن موادِّه الصلبة إلى "الأمعاء الغليظة" (القولون- Colon) التي تتصل مِن أعلاها بالأمعاء الدقيقة عند فوهة "الصمام اللفائفي الأعوري" (Ileocecal valve)، وهذا الصمام لا يسمح برجوع محتواها أو نفاذ شيءٍ منه إلى الأمعاء الدقيقة بعد خروجه منها، وتنحدر الأمعاء الغليظة (القولون) في الحوض لتتصل مِن أسفلها بـ"المستقيم" (Rectum) الذي ينتهي بـ"فتحة الشرج" (Anal Canal)، وتقوم هذه الأمعاء بسحب ما تبقى من الماء والأملاح المعدنية التي يحتاجها الجسم، وتترك الفرصة للبكتيريا التي توجد في تجويفها لتستكمل عملية التحلل ويتشكل البراز، ولا تفرز إلا مادة المخاط التي تحتاجها لتسهيل حركة البراز وامتصاص تلك الأملاح.
فإذا أصاب الإنسانَ مشكلةٌ صحية حالت دون إجراء عملية الإخراج بصورة طبيعية، واحتاج إلى استخدام وسيلة طبية مساعدة له على ذلك كالحقنة الشرجية، فإنَّ ما يتم إدخاله بها مِن فتحة الشرج سائلًا كان أو صلبًا لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يصل بعينه إلى المعدة؛ لوجود الصمام اللفائفي الذي يمنع نفاذ ما بالأمعاء الغليظة -القولون- إلى الأمعاء الدقيقة التي تسبق المعدة بصورة تصاعدية، فما لا ينفذ إليها لا يصل بطبيعة الحال إلى ما هو أعلى منها وهي المعدة. ينظر: "الموسوعة البريطانية"، و"الموسوعة الطبية المتخصصة- المجلد الأول- أمراض جهاز الهضم" (ص: 173-190، ط. هيئة الموسوعة العربية).
ولَمَّا كان ردُّ الفروع إلى كليات وأصول منضبطة، خيرًا مِن ردِّها إلى مسائل وجزئيات يختلف الحكم فيها باختلاف مُقرَّرَاتِ العلوم المساعدة لفقه أحكام الشرع الشريف وما وصلت إليه معارف المتخصصين؛ فإن الحكم الشرعي في استعمال الحقنة الشرجية أثناء الصيام يقتضي تحرير ضابط الجوف -الذي يفسد الصوم بوصول المفطِّر إليه حال كون الصائم عامدًا عالمًا مختارًا ذاكرًا لصومه- عند الفقهاء؛ هل هو كل مجوَّف يصدق عليه اسم "جوف" في جسم الإنسان، أو هو مقيد بما يصرف عنه هذا الإطلاق؟ وما هي هذه القيود؟
وبيان ذلك ما يأتي:
أولًا: اتفق الفقهاء على أن العبرة بفساد الصوم هي تحقق وصول المفطِّر إلى الجوف أو غلبة ظن وصوله؛ بحيث إذا تُيُقِّن عدم الوصول: لا يفسد الصوم.
ثانيًا: قيَّدوا الجوف بكونه باطنًا بالاتفاق؛ ومعناه: أنه في باطن الجسم غير ظاهر؛ فخرج بذلك الجوف الظاهر؛ كالفم، والأنف، ونحوهما.
ثالثًا: زاد جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية في مقابل الأصح والحنابلة إلى ذلك قيدًا آخر؛ اتفقَت عباراتُهم على حقيقته، وتنوعت في الدلالة عليه؛ فمنهم مَن ذكره بصفته الرئيسية ثم استثنى فقال: "الجوف" مستثنيًا المسلك إليه وإن كان مجوَّفًا، ومنهم مَن عرَّفه بحدِّه فقال: "المعدة"، ومنهم مَن حدده بمكانه فقال: "محل الغذاء والدواء"، ومنهم مَن ميَّزه بعمله ووظيفته الفسيولوجية فقال: "ما به قوة تحيل الغذاء والدواء"؛ أي: تُحدث فيه (استحالة): وهي تَحَوُّل الأعيان وتغيُّر حقائقها عن طبيعتها وأوصافها إلى شيء آخر. ينظر: "تحفة الفقهاء" لعلاء الدين السمرقندي الحنفي (1/ 356، ط. دار الكتب العلمية)، و"شرح مختصر خليل" للعلامة الخرشي المالكي (2/ 249، ط. دار الفكر)، و"روضة الطالبين" للإمام النووي الشافعي (2/ 356، ط. المكتب الإسلامي)، و"الإنصاف" لعلاء الدين المرداوي الحنبلي (3/ 299، ط. دار إحياء التراث العربي).
وهذه العبارات جميعُها لا تخرج في أجواف البدن الباطنة عن المعدة وما يليها من الأمعاء الدقيقة فقط؛ إذ هي محل التغذية وسدّ رمق شهوة البطن التي أمر الشرع بالإمساك عنها، أما الأمعاء الغليظة (القولون): فإنها -وفق ما استقرت عليه العلوم الطبية الحديثة والمعارف المتخصصة الدقيقة- لا تشتمل إلا على ما لا يحتاج الإنسان إليه من الفضلات، ولا تقوم الأمعاء الغليظة حيال هذه الفضلات بدور الإحالة؛ بل تقوم بطردها إلى الخارج عن طريق المستقيم انتهاءً إلى فتحة الشرج، علاوة على أنها لا ينفذ شيءٌ منها بعينه بحالٍ إلى الأمعاء الدقيقة والمعدة لو أُدْخِلَ فيها من الدبر كما سبق البيان؛ ولذا لا تأخذ تبعًا لذلك حكم الجوف على قول مَن اعتبر المنفذ إلى الجوف جوفًا.
ولَمَّا كان الأمر كذلك؛ فقد وافق هذا المدركَ الطبيَّ في عدم فساد الصوم بالاحتقان في الدبر: جماهيرُ الفقهاء؛ من الحنفية، والمالكية، والشافعية في مقابل الأصح، والحنابلة، والظاهرية؛ على تفصيل بينهم في تقرير ذلك؛ فمنهم من قرر ذلك بالتصريح نصًّا بأنه لا يفطر الصائم، أو بأنه لا يوجب القضاء، ومنهم من اقتضت عباراته القول بعدم الإفطار به؛ وذلك بتطبيق ما وضعوه من ضوابط تفرق بين المفطِّر وغير المفَطِّر، وبيان ذلك كالآتي:
نصَّ المالكية في مقابل المشهور على عدم فساد الصوم به، وذهب طائفة من أئمة المذهب؛ كابن حبيب، وابن الجلَّاب، وابن عبد البر، واللخمي: إلى أن القضاء للاستحباب لا الإيجاب، وهو قول القاضي حسين مِن الشافعية، والشيخ ابن تيمية مِن الحنابلة، والإمام ابن حزم الظاهري.
قال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الكافي في فقه أهل المدينة" (1/ 345، ط. مكتبة الرياض): [القضاء في الحقنة استحبابٌ لا إيجابٌ، وهو عندنا الصواب؛ لأن الفطر ممَّا دخل من الفم ووصل إلى الحلق والجوف] اهـ.
وقال الإمام اللخمي المالكي في "التبصرة" (2/ 743، ط. أوقاف قطر): [واختلف في الاحتقان بالمائعات، هل يقع به فطر؟ وألَّا يقع أحسن؛ لأن ذلك ممَّا لا يصل إلى المعدة، ولا إلى موضع ينصرف منه ما يغذي الجسم بحال] اهـ.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "المعونة" (ص: 467، ط. المكتبة التجارية): [اختلف في الحقنة: والصحيح أنها لا تفطر] اهـ.
وقال العلامة خليل المالكي في "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" (2/ 403، ط. مركز نجيبويه) نقلًا عن الإمام أبي القاسم بن الجلَّاب المالكي [ت: 378هـ]: [أما الحقنة: ففي "الجلَّاب": عدم وجوب القضاء فيها] اهـ.
وقال شمس الدين الحطاب الرعيني المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 424، ط. دار الفكر): [ص: (بحقنة بمائع) ش: قال في "المدونة":.. وإن قطر في إحليله دهنًا، أو استدخل فتائل، أو داوى جائفةً بدواءٍ مائِعٍ أو غيرِ مائِعٍ: فلا شيء عليه، انتهى.
عياض: الحقنة: ما يستعمله الإنسان مِن دوائه مِن أسفله، انتهى. اللخمي: واخُتلف في الاحتقان بالمائعات؛ هل يقع به فطرٌ أو لا يقع به؟ وألَّا يقع به: أحسن؛ لأن ذلك ممَّا لا يصل إلى المعدة ولا إلى موضِعٍ يتصرف منه ما يغذي الجسم بحال.
عياض: وقوله بعد في الحقنة بالفتائل: "لا شيء عليه"؛ دل على أنَّ كلامه في الفطر إنما هو في الحقنة المائعة، وهي التي فيها الخلاف كما قال اللخمي، وإن كان القاضي أبو محمدٍ ذَكَرَ الخلاف في الحقنة مجملًا] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 313، ط. دار الفكر): [(وأما) الحقنة: فتفطر على المذهب، وبه قطع المصنف والجمهور، وفيه وجهٌ قاله القاضي حسين: لا تفطر] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (25/ 233-234، ط. مجمع الملك فهد): [وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة: فهذا مما تنازع فيه أهل العلم؛ فمنهم مَن لم يُفَطِّر بشيءٍ من ذلك، ومنهم مَن فطَّر بالجميع لا بالكحل، ومنهم مَن فطَّر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم مَن لم يُفَطِّر بالكحل ولا بالتقطير ويُفَطِّر بما سوى ذلك، والأظهر: أنه لا يُفْطِرُ بشيء مِن ذلك؛ فإن الصيام مِن دِين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام؛ فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لَعَلِمَهُ الصحابةُ وبَلَّغُوهُ الأمةَ كما بَلَّغُوا سائر شرعه] اهـ.
وقال الإمام ابن حزم الظاهري في "المحلى بالآثار" (4/ 348، ط. دار الفكر) في عدم الفطر بالاحتقان في الدبر ونحوه: [إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء والمعاصي، وما عَلِمنا أكلًا ولا شربًا يكون على دبرٍ أو إحليلٍ أو أذنٍ أو عينٍ أو أنفٍ أو مِن جرحٍ في البطن أو الرأس، وما نُهينا قَطُّ عن أن نوصل إلى الجوف -بغير الأكل والشرب- ما لم يحرم علينا إيصاله] اهـ.
وأما ما اقتضته عباراتهم بعدم الفطر به؛ فعلى التفصيل الآتي:
فأما الحنفية: فقد اتفقوا على أنه لا يفسد الصوم إلا بوصول الداخل المفطِّر إلى الجوف، ونصوا على أن الجوف: هو محل الغذاء والدواء؛ أي: المكان الذي يحِلَّان فيه وهو المعدة والأمعاء الدقيقة كما بيَّنَّا، واتفقوا كذلك على أنَّ الدخول من المنفذ الأصلي المفتوح إلى الجوف يحصل به الفطر؛ لتيقُّن الوصول إلى الجوف من خلاله.
واختلفوا في مدرك الوصول من المنفذ غير الأصلي المفتوح إلى الجوف؛ فلم يفرق الإمام أبو حنيفة في ذلك بينه وبين المنفذ الأصلي، وإنما فرق بين المائع والجامد؛ لأن العبرة عنده بما يظهر وصوله إلى الجوف لا بالمنفذ الموصل إليه، والظاهر هو وصول المائع عادةً بطبيعة جريانه وانتشاره إلى الجوف من أيِّ منفذ موصِّل إليه؛ فأما الوصول من المنفذ الأصلي: فواضح، وأما الوصول من غير الأصلي: فلأن الظاهر حصوله؛ "إِقامةً لِلْمَظِنَّةِ مَقام الْمَئِنَّةِ"؛ كما في "فتح القدير" لكمال الدين ابن الهمام (3/ 446، ط. دار الفكر)؛ إذ لَمَّا غلب على المائع صفة الجريان والانتشار غلب الظن أنه يصل إلى المعدة، بخلاف الجامد: فإنه ليس كذلك؛ لاستقراره وثبوته في الموضع الذي يلقى فيه أو يدخل من خلاله.
واشترط الصاحبان لحصول الفطر بالداخل إلى الجوف: أن يدخل المنفذ الأصلي؛ لتيقُّن وصول الداخل منه إلى الجوف، بخلاف الداخل من غير الأصلي: فإنه يُشك في وصوله، والصوم ثابتٌ بيقين، وقد تقرر في قواعد الفقه أنَّ "الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بالشَّكِّ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" لزين الدين ابن نجيم (ص: 47، ط. دار الكتب العلمية)؛ فلا يحصل الفطر بالشك. فيتحصل من ذلك: أنَّ الإمام أبا حنيفة نَظَرَ إلى الصوم فاحتاط له، والصاحبان نَظَرَا إلى فعل المكلف فاحتاطَا له.
ونصوا في مسألة تيقن الوصول إلى الجوف من عدمه على أن "هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالطِّبِّ"؛ كما قال زين الدين ابن نجيم في "البحر الرائق" (2/ 300، ط. دار الكتاب الإسلامي)؛ ومقتضاه: أنه لو عُلم يقينًا من جهة المعارف الطبية المستقرة أن الداخل لا يصل منه شيءٌ إلى الجوف الذي هو محل الغذاء والدواء: لم يحصل الفطر بالاتفاق.
قال شمس الأئمة السرخسي في "المبسوط" (3/ 68، ط. دار المعرفة): [أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: المفسد للصوم: وصول المفطر إلى باطنه؛ فالعبرة للواصل لا للمسلك.. وفي ظاهر الرواية: فرَّق بين الدواء الرطب واليابس، وأكثر مشايخنا رضي الله عنهم: أن العبرة بالوصول؛ حتى إذا علم أن الدواء اليابس وصل إلى جوفه: فسد صومه، وإن علم أن الرطب لم يصل إلى جوفه: لا يفسد صومه] اهـ.
وقال علاء الدين السمرقندي في "تحفة الفقهاء" (1/ 356، ط. دار الكتب العلمية): [فَأَبُو حنيفَة: اعْتبر ظَاهر الْوُصُول بوصول المغذي إِلَى الْجوف حَقِيقَةً، وهما: يعتبران الْوُصُول بالمخارق الْأَصْلِيَّة لَا غير، ويقولان فِي الْمخَارِق الْأَصْلِيَّة: يتَيَقَّن الْوُصُول، فَأَما فِي الْمخَارِق الْعَارِضة: فَيحْتَمل الْوُصُول إِلَى الْجوف، وَيحْتَمل الْوُصُول إِلَى مَوضِع آخر لَا إِلَى مَحل الْغذَاء والدواء؛ فَلَا يفْسد الصَّوْم مَعَ الشَّك وَالِاحْتِمَال] اهـ.
وقال زين الدين ابن نجيم في "البحر الرائق" (2/ 300): [وأطلق الدواء فشمل الرطب واليابس؛ لأن العبرة للوصول لا لكونه رطبًا أو يابسًا، وإنما شرطه القدوري؛ لأن الرطب هو الذي يصل إلى الجوف عادةً، حتى لو علم أن الرطب لم يصل: لم يفسد، ولو علم أن اليابس وصل: فسد صومه؛ كذا في "العناية"، لكن بقي ما إذا لم يعلم يقينًا أحدهما وكان رطبًا؛ فعند أبي حنيفة: يفطر؛ للوصول عادةً، وقالا: لا؛ لعدم العلم به، فلا يفطر بالشك، بخلاف ما إذا كان يابسًا ولم يعلم: فلا فطر اتفاقًا؛ كذا في "فتح القدير"] اهـ.
وحين نصوا على خصوص الاحتقان في الدبر: حرَّروا مدرك الوصول؛ فلمَّا ظهر لهم حصوله باعتبار الدبر منفذًا مفتوحًا إلى الجوف على ما وقفوا عليه من علوم الطب علَّلوا الفطر بتيقن الوصول لأنه الظاهر مع كونه منفذًا أصليًّا.
قال علاء الدين الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/ 93، ط. دار الكتب العلمية): [وما وصل إلى الجوف أو إلى الدماغ عن المخارق الأصلية؛ كالأنف، والأذن، والدبر؛ بأن استعط، أو احتقن، أو أقطر في أذنه، فوصل إلى الجوف أو إلى الدماغ: فسد صومه، أما إذا وصل إلى الجوف: فلا شك فيه؛ لوجود الأكل من حيث الصورة، وكذا إذا وصل إلى الدماغ؛ لأنه له منفذ إلى الجوف فكان بمنزلة زاوية من زوايا الجوف] اهـ. والاستعاط: هو صَبُّ الدواء في الأنف.
ثم قال (2/ 93) في تعليل فساد الصوم بالاحتقان ونحوه مما يدخل من المنافذ الأصلية إلى الجوف: [لأن الوصول إلى الجوف مِن المخارق الأصلية متيقَّن به] اهـ.
ومقتضاه: أنه إذا بان على جهة القطع واليقين عدمُ وصول شيءٍ من الاحتقان في الدبر إلى الجوف الذي هو محل الغذاء والدواء كما نصوا عليه، فضلًا عن كون الدبر ليس بمنفذ إليه؛ توجَّهَ حينئذٍ القول بعدم الفطر به قطعًا وجزمًا؛ "إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالْمَظِنَّةِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَئِنَّةِ"؛ كما قال سعد الدين التفتازاني في "حاشيته على شرح مختصر المنتهى الأصولي" (3/ 320، ط. دار الكتب العلمية).
وأما المالكية: فقد اشترطوا لفساد الصوم وصولَ الداخل المفطِّر إلى الجوف؛ بحيث إذا تُيُقِّن عدم الوصول إليه لا يَفسد الصوم، وصرحوا بأن مرادهم من الجوف هو المعدة، وسلكوا في بيان مدرك الوصول التفرقة بين المنفذ العُلوي والمنفذ السُّفلي: فقطعوا بأن ما يصل إليها من منفذ علويٍّ؛ كالفم، والأنف: مفسدٌ للصوم مائعًا كان أو جامدًا، وأما ما يصل إليها من منفذ سفلِيّ: فإن كان جامدًا لم يفطر اتفاقًا، وإن كان مائعًا فالمشهور أنه يفطر.
وما هذه التفرقة عندهم إلا لغلبة الظن في وصول كلٍّ من المائع والجامد إلى المعدة من المنفذ العلوي، وغلبة الظن في وصول المائع دون الجامد من المنفذ السفلي.
قال العلامة الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 523، ط. دار الفكر): [ما وصل للمعدة؛ إن كان من منفذٍ عال: فهو مفسد للصوم؛ سواء كان مائعًا أو غير مائع.. فوصول المائع للمعدة مفسد مطلقًا؛ كان المنفذ عاليًا أو سافلًا، ووصول الجامد لها: لا يفسد إلا إذا كان المنفذ عاليًا] اهـ.
ثم نصوا على خصوص الاحتقان بالمائع في الدبر، وأعمَلوا فيه المدرك؛ فكان ثمرة إعماله على ما وقفوا عليه من علوم الطب آنذاك: القول بأنه يفطر على المشهور من المذهب، وقيدوا ذلك بتيقُّن الوصول مراعاة لهذا المدرك، بحيث إذا تُيُقِّن عدم الوصول لم يفطر اتفاقًا.
قال العلامة خليل في "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" (2/ 403): [(وَفِي وُصُولِ مَا يَنْمَاعُ مِنَ الْعَيْنِ وَالإِحْلِيلِ وَالْحُقْنَةِ- ثَالِثُهَا الْمَشْهُورُ: يَقْضِي فِي الْحُقَنَةِ وَفِي الْعَيْنِ إِنْ وَصَلَ).. وقوله: (وَفِي وُصُولِ) يدل على أنه لو تحقق عدم الوصول لم يقض اتفاقًا] اهـ.
وقال شمس الدين الحطاب الرعيني في "مواهب الجليل" (2/ 424): [ص: (بحقنة بمائع) ش:.. أبو الحسن في "الكبير": والكراهة على بابها؛ لأنا لا نعلم ونقطع أنه يصل لجوفه، ولو قطعنا أنه يصل كان حرامًا، أو أنه لا يصل كان مباحًا، فلما تساوى الاحتمالان كان مكروهًا، ثم إن فعل؛ فإن وصل إلى جوفه لزمه القضاء، وإن لم يصل لم يلزمه شيء، وإن شك جرى على الخلاف فيمن أكل وهو شاكٌّ في الفجر.. وقول أبي الحسن: وإذا تحقق وصول الحقنة؛ يريد -والله أعلم-: إذا لم يضطر لها، وأما مَن اضطر لها فلا يحرم عليه، والله أعلم] اهـ.
وأما ما جاء عن الإمام شهاب الدين القرافي في "الذخيرة" (2/ 505، ط. دار الغرب) مِن قوله: [الكبد تجذب من الأمعاء كما تجذب مِن المعدة؛ فتفطر] اهـ.
وكذلك ما جاء عن الإمام الخرشي في "شرحه لمختصر خليل" (2/ 249، ط. دار الفكر) مِن قوله: [الحقنة: ما يعالج به الأرياح الغلاظ، أو داء في الأمعاء، يصب إليه الدواء من الدبر بآلةٍ مخصوصة؛ فَيَصِلُ الدواء للأمعاء، وما وصل للأمعاء مِن طعامٍ حصل به فائدةُ الغذاء؛ فإن الكبد يجذب مِن المعدة ومِن سائر الأمعاء عند الأطباء، فصار ذلك مِن معنى الأكل؛ قاله سند، واحترز بالمائع من الجامد؛ فلا قضاء فيه] اهـ.
فالصحيح أن اجتذاب الكبد من الأمعاء إنما يحصل من الدقيقة منها دون الغليظة التي هي القولون، فإن عملية الامتصاص وإن كانت تبدأ في السبيل الهضمي من الفم حتى نهاية الأمعاء الغليظة (القولون)، لكن تُشَكِّلُ الأمعاءُ الدقيقةُ الجزءَ الرئيسي مِن السبيل الهضمي؛ حيث تُمتص فيها معظم الحموض الأمينية، والدسم، والسكريات، والأملاح، والماء، والشوارد، والفيتامينات، والتي يجتذبها الكبد منها، أما ما يحدث في الأمعاء الغليظة مِن امتصاص: فإنه يكون بعد نقل ما تبقى من الخلاصات الغذائية غير القابلة للهضم، بحيث تمتص منه الماء المتبقي والأملاح التي تساعد على تكوين البراز وعملية الإخراج، ولا يجتذب الكبد من ذلك شيئًا؛ كما أفادت ذلك "الموسوعة الطبية المتخصصة".
ولا يضر إن كان الاحتقان بها قد يُحدث نوع تغذية؛ حيث يصل للدم بعضُ ما يمتصُّه القولون مِن ماءٍ ومعادن مِن خلال شبكة الأوعية الدموية الموجودة في الشرج؛ حيث إنَّ غالب استخدام الحقنة الشرجية يكون لمعالجة القولون؛ كتفريغ الأمعاء للتنظير والفحص الطبي، أو لعلاج الإمساك، وقد تستخدم أيضًا لمعالجة بعض الأمراض التي تؤثر على القولون؛ بحيث تعطى بعض أنواع الأدوية من خلال الحقنة الشرجية، وعند وصول هذه الأدوية للدم والتغذي بها؛ فإن العبرة في المذهب بالوصول إلى الجوف لا بحصول التغذي، فإن التغذي قد يحصل بغير ذلك ولا يفطر إجماعًا؛ كالدهن على البشرة؛ حيث يمتصه الجلد، ومثله الماء، وهو ما أجاب به الإمام القرافي في "الذخيرة" (2/ 505) حيث يقول: [قال سند: يُكْرَهُ كلُّ ما لا يؤمَن وصولُهُ إلى الجوف، ولا يفطر ما وصل إلى الدماغ، خلافًا للأئمة؛ محتجين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ مَا لَمْ تَكُنْ صَائِمًا».
وجوابه: حذر الوصول إلى الجوف، ويعضده: أن التحريم إنما يتناول شهوتي الفم والفرج؛ لقوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ﴾ [البقرة: 187]، بقي ما عدا ذلك على الأصل، وإلا فالجسد يتغذى من خارجه بالدهن وغيره ولا يفطر إجماعًا] اهـ.
فإذا لم يكن شيءٌ من ذلك يصل إلى المعدة أو الكبد مِن خلال القولون؛ فيكون المذهب عدم الفطر بالاحتقان بها بالاتفاق؛ إعمالًا لكلام العلامة خليل السابق ذكره.
وأما الشافعية في مقابل الأصح: فقد ضبطوا فساد الصوم بالمفطِّر الداخل إلى الباطن بوجهين: أحدهما: وصولُ هذا الداخل إلى ما يصح أن يُسمَّى جوفًا من منفذ مفتوح إليه بأصل الخلقة انفتاحًا ظاهرًا محسوسًا. والوجه الآخر: أن يكون في هذا الجوف قوة تحيل الغذاء والدواء.
ويتحصل من اشتراط اجتماع الوجهين لفساد الصوم كما هو مقابل الأصح: أن الضابط لفساد الصوم بالعين الداخلة إلى الباطن هو: وصولها إلى الباطن الذي يحيل الغذاء والدواء، وأنَّ الوصول إلى أيِّ جوف آخر غير محيل للغذاء والدواء غير مفطِّر؛ لأنَّ الداخل إذا لم يتعرض للاستحالة: لا تتغذى به النفس ولا ينتفع به البدن؛ فأشبه الواصل إلى غير الجوف.
قال الإمام النووي في "المجموع" (6/ 313): [وضبط الأصحابُ الداخلَ المفطرَ: بالعين الواصلة مِن الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح عن قصدٍ مع ذكر الصوم، وفيه قيودٌ؛ منها: الباطن الواصل إليه، وفيما يعتبر به وجهان: أحدهما: أنه ما يقع عليه اسم الجوف. والثاني: يعتبر معه أن يكون فيه قوةٌ تُحِيلُ الواصلَ إليه مِن دواءٍ أو غذاء. قال: والأول هو الموافق لتفريع الأكثرين؛ كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويدل عليه: أنهم جعلوا الحلق كالجوف في إبطال الصوم بوصول الواصل إليه] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (2/ 155، ط. دار الكتب العلمية) في بيان أركان الصوم: [(و) الإمساك (عن وصول العين) وإنْ قلَّت؛ كسمسمة، أو لم تؤكل؛ كحصاة (إلى ما يسمى جوفًا)؛ لأن الصوم: هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف. وخرج بالعين: الأثر؛ كالريح بالشم، وحرارة الماء وبرودته بالذوق. وبالجوف: عما لو داوى جرحه الذي على لحم الساق أو الفخذ فوصل الدواء إلى داخل المخ أو اللحم أو غرز فيه حديدة: فإنه لا يفطر؛ لأنه ليس بجوف..
(وقيل: يشترط مع هذا أن يكون فيه) أي: الجوف (قوة تحيل الغذاء) وهو بكسر الغين والذال المعجمتين: يُطلَق على المأكول والمشروب (أو الدواء) بالمد: واحدُ الأدوية؛ لأنَّ ما لا تحيله: لا تتغذى به النفس، ولا ينتفع به البدن؛ فأشبه الواصل إلى غير الجوف] اهـ.
ثم نصوا على خصوص الاحتقان في الدبر، وعدُّوه مفطِّرًا باعتبار هذين الوجهين؛ وهما كما سبق: الوصول إلى ما يُسمَّى جوفًا، واعتبار قوة الإحالة مع كونه جوفًا، وعدُّوا القولَ بغير ذلك بعيدًا جدًّا غير متصور.
قال الإمام النووي في "المجموع" (6/ 313): [وعلى الوجهين جميعًا: باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة مما يفطِّر الوصولُ إليه بلا خلاف.. (وأما) الحقنة: فتفطر على المذهب، وبه قطع المصنف والجمهور، وفيه وجهٌ قاله القاضي حسين: لا تفطر، وهو شاذ وإن كان منقاسًا، فعلى المذهب: قال أصحابنا: سواء كانت الحقنة قليلةً أو كثيرةً، وسواء وصلت إلى المعدة أم لا؛ فهي مفطرة بكل حالٍ عندنا] اهـ.
فأما وجه قولهم: إن الاحتقان مفطِّر باعتبار الوجهين وإن لم يصل منه شيءٌ إلى المعدة التي هي تغذية؛ فهو باعتبار أن الاحتقان يصل إلى جوف فيه قوة الإحالة هو الأمعاء بحسب ما وقفوا عليه من علوم الطب.
قال الإمام أبو البقاء الدميري في "النجم الوهاج في شرح المنهاج" (3/ 296، ط. دار المنهاج): [قال: (فعلى الوجهين: باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة مفطر بالاستعاط أو الأكل أو الحقنة أو الوصول من جائفة أو مأمومة ونحوهما)؛ لأنه جوف محيل] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (2/ 155): [(فعلى الوجهين باطن الدماغ والبطن والأمعاء) أي المصارين جمع مِعًى بوزن رضا (والمثانة) بالمثلثة وهي مجمع البول (مفطر بالاستعاط) راجع للدماغ (أو الأكل) راجع للبطن (أو الحقنة) راجع للأمعاء، والمثانة أيضًا؛ فإن البول يعالج بها كما يعالج بها الغائط] اهـ.
وأما استبعاد عدم الفطر به "وإن كان منقاسًا" كما قال الإمام النووي:
فالمقيس: الاحتقان في الدبر.
والمقيس عليه: حقن الطفل باللبن في الدبر.
والعلة: وصول الحقنة إلى الجوف المحيل وهو الأمعاء.
والحكم: عدم ثبوت التحريم بهذا الاحتقان على أحد القولين، فكذا لا يفسد به الصوم.
ووجه استبعاد عدم الفطر على هذا القياس: أنَّ الرضاع لإنبات اللحم وانتشار العظم؛ وهذا لا يحصل بالاحتقان وإن وصل إلى الجوف المحيل وهو الأمعاء، بخلاف الصوم فإن فساده يحصل بمجرد الوصول إليه؛ فافترقا من هذا الوجه.
قال الإمام الروياني في "بحر المذهب" (3/ 284، ط. دار الكتب العلمية): [الحقن يفطر الصائم. وقال مالك: إن كان كثيرًا فطَّر، وإلا فلا. وقال الحسن بن صالح وداود: لا يفطر به، وإنما يفطر بما يصل إلى جوفه من فمه، وهذا غلط؛ لأنه وصل إلى جوفه باختياره مع ذكر الصوم ما يمكن الاحتراز منه فيفطِّره كما لو وصل من الفم. فإن قيل: أليس قلتم: إنه لو حقن الصبي باللبن لا يثبت الحرمة في أحد القولين، فما الفرق؟ قلنا: الفرق هو أن الرضاع لإنبات اللحم وانتشار العظم، وذلك لا يحصل بالحقنة، والفطر لوصول الواصل إلى حرف الجوف وقد وصل] اهـ.
وقال الإمام البغوي في "التهذيب في فقه الإمام الشافعي" (6/ 299-300، ط. دار الكتب العلمية): [والثاني: لا يثبت؛ لأنه لا يصل إلى جوف التغذي، ولا يحصل به إنبات اللحم، وإنشاز العظم، إنما الحقنة للإسهال.. وإن كان في أمعائه خرق، فوصل إلى المعدة: يثبت قولًا واحدًا] اهـ.
والصواب بناءً على ما فصَّلْناه مما أثبتته علوم الطب وأفاده المتخصصون مِن أنَّ الأمعاء الغليظة لا تحيل الواصل إليها بحال، علاوةً على أنَّها ليست بمنفذ مفتوح إلى الجوف المحيل من المعدة وما يليها من الأمعاء الدقيقة: هو قياس الاحتقان الواصل إليها على التقطير في باطن الأذن ومجرى البول؛ بجامع أنَّها أجوافٌ غير محيلة.
قال سراج الدين ابن الملقن في "عجالة المحتاج" (2/ 528، ط. دار الكتاب): [والتقطير في باطن الأذن والإحليل مفطر في الأصح؛ بناءً على الوجه الأول وهو اعتبار كل ما يسمى جوفًا، والثاني: لا؛ بناءً على مُقَابِلِهِ؛ لأنه جوف وليس فيه قوة الإحالة] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (2/ 156): [(والتقطير في باطن الأذن) وإن لم يصل إلى الدماغ (و) باطن (الإحليل) وهو مخرج البول من الذكر، واللبن من الثدي، وإن لم يصل إلى المثانة ولم يجاوز الحشفة أو الحلمة (مفطر في الأصح)؛ بناءً على الوجه الأول: وهو اعتبار كل ما يسمى جوفًا، والثاني: لا؛ بناءً على مقابله إذ ليس فيه قوة الإحالة] اهـ.
ومنه يُعلم: أنَّ اختيار القاضي حسينٍ عدم الفطر بالاحتقان في الدبر إنما هو جارٍ على قواعد المذهب باعتبار الوجهين، فضلًا عن أن يُستَبعَد أو يُوَهَّن.
وأما الحنابلة: فضبطوا فساد الصوم بتيقُّن الوصول إلى الجوف على الصحيح من المذهب، واكتفى بعضهم بظن الوصول؛ "إِقَامَةً لِلْمَظِنَّةِ مَقَامَ الْمَئِنَّةِ"، ونصوا على أنَّ المراد بالجوف هو ما به قوة تحيل الغذاء والدواء الواصل إليه كما بيَّنَّاها دون سائر الأجواف، وصرحوا بذكر المعدة.
قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 121، ط. مكتبة القاهرة): [يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه أو مجوف في جسده؛ كدماغه، وحلقه، ونحو ذلك مما ينفذ إلى معدته إذا وصل باختياره وكان مما يمكن التحرز منه؛ سواء وصل من الفم على العادة، أو غير العادة؛ كالوجور واللدود، أو من الأنف؛ كالسعوط، أو ما يدخل من الأذن إلى الدماغ، أو ما يدخل من العين إلى الحلق؛ كالكحل، أو ما يدخل إلى الجوف مِن الدبر بالحقنة، أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه] اهـ.
وقال علاء الدين المرداوي في "الإنصاف" (3/ 299) في بيان ما يفسد الصوم ممَّا يصل إلى الجوف من المفطرات: [قوله: (أو احتقن، أو داوى الجائفة بما يصل إلى جوفه) فسد صومه، وهذا المذهب، وعليه الأصحاب، واختار الشيخ تقي الدين عدم الإفطار بمداواة جائفة ومأمومة وبحقنة.
فائدتان: إحداهما: مثل ذلك في الحكم: لو أدخل شيئًا إلى مجوف فيه قوة تحيل الغذاء أو الدواء من أيِّ موضع كان ولو كان خيطًا ابتلعه كله أو بعضه، أو طعن نفسه، أو طعنه غيره بإذنه بشيء في جوفه فغاب كله أو بعضه فيه. الثانية: يعتبر العلم بالواصل؛ على الصحيح من المذهب، وقطع المجد في "شرحه": بأنه يكفي الظن؛ قال في "الفروع": كذا قال] اهـ.
ومقتضى ذلك: أنه إذا ثبت على جهة القطع واليقين أن الاحتقان في الدبر لا يصل إلى الجوف المحيل فضلًا عن ظن الوصول إليه: فإنه لا يفطِّر.
ولا يعترض على ما بيَّنَّاه من عدم فساد الصوم بالاحتقان في الدبر: بأن الأمعاء الغليظة تفيد الجسم بما يدخلها من التحاميل العلاجية فيقاس على الواصل إلى المعدة؛ لأن فساد الصوم إنما يحصل بالوصول إلى الجوف المحيل دون الممتص، والواصل للجسم من الأمعاء الغليظة إنما يصل عن طريق الامتصاص لا الإحالة؛ كما أفاد بذلك الدكتور ديفيدسون في "أمراض جهاز الهضم والبنكرياس" ترجمة الدكتور محمد القلَّا (ص: 22، ط. دار القدس للعلوم)؛ فكان قياسًا مع الفارق فلَم يَصِح.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فقد ارتأت دار الإفتاء المصرية بعد دراسة واقع عمل الحقنة الشرجية، وأغراض استخدامها المتعددة، وما يصل إليه محتواها من بدن الإنسان، والوقوف على شدة الاحتياج إليها ممَّن يعانون من الإمساك المزمن أو غير ذلك من الأمراض، والاستماع إلى الخبراء المتخصصين- أن استخدامها أثناء الصيام لا يؤثر في صحة الصوم؛ كما سبق بيانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.