هل يجوز للإنسان أن يتبرع ببعض خُصَل من شعر رأسه لمستشفى سرطان الأطفال؛ بغرض صنع باروكة يلبسها أولئك الأطفال، بعد أن تسبب العلاج الكيماوي في تساقط شعر رؤوسهم؛ من باب المساهمة في تخفيف الألم النفسي عليهم؟ مع العلم أن بعض الناس يقول: إن ذلك غير جائز؛ لأنه مِن وَصْل الشعر المُحَرَّم شرعًا الملعون فاعله، ولأن المشروع في الشعر المنفصل عن الإنسان أن يُدفن، واستعماله بعد انفصاله ينافي التكريم المطلوب لأجزاء الإنسان، وكذلك لا يجوز هبة ذلك الشعر؛ لأنه ليس مملوكًا لصاحبه، ويعترضون كذلك بأنه لو كان ذلك الشعر من امرأة فإنه سيحرم النظر إليه؛ لأنه من العورة.
يجوز شرعًا للإنسان أن يتبرع بشيء من خصل شعر رأسه لمستشفى سرطان الأطفال بغرض صنع باروكة يلبسها أولئك الأطفال بعد أن تسبب العلاج الكيماوي في تساقط شعر رؤوسهم، والتبرع مأذون به في هذه الحالة لما فيه من المصلحة؛ وهي هنا المساعدة في تخفيف الضرر النفسي الشديد على الطفل المريض الذي سقط شعره، ومجرد وضع الشعر على الرأس دون وصله ليس من متناوَلات الأحاديث الشريفة؛ لأن النهي فيها قاصر على وصل الشعر بالشعر، كما يتأكد الجواز لكونه طفلًا دون سن التكليف؛ فلا يتعلق به التحريم.
وأما عن حرمة النظر إلى الشعر المتبرع به إذا كان من امراة لأنه عورة؛ فإن انفصال الشعر عن المرأة يُسقِط حُرمة المس والنظر إليه.
المحتويات
ورد النهي الشديد في نصوص الشريعة الإسلامية عن الوصل؛ وهو أن يوصل الشعر بشعر آخر. ومن هذه النصوص: ما رواه الشيخان واللفظ للبخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ جَارِيَةً مِنَ الأَنْصَارِ تَزَوَّجَتْ، وَأَنَّهَا مَرِضَتْ، فَتَمَعَّطَ -أي: تَقَطَّع وتساقط- شَعَرُهَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَصِلُوهَا، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَعَنَ الله الوَاصِلَةَ وَالمُسْتَوْصِلَةَ».
وما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَعَنَ اللهُ الوَاصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ، والوَاشِمَةَ والمُسْتَوشِمَةَ»، والواصلة: هي الفاعلة لذلك؛ سواء أكان ذلك لنفسها أم لغيرها، والمستوصلة: هي الطالبة أن يفعل ذلك بها. فهذه الأحاديث دالة على حرمة الوصل؛ لأنه لا يكون اللعن إلا على فعل محرم.
وقد اختلف العلماء في فهم هذه النصوص: هل النهي فيها قاصر على وصل الشعر بالشعر؟ أو هو متناول لمطلق الوصل وإن لم يكن بالشعر؛ كأن كان بصوف، أو قماش، أو خرق، ونحو ذلك؟
واختلفوا أيضًا فيما إذا كان الشعر الموصول مأخوذًا من غير الآدمي، هل هو كشعر الآدمي في الحكم؟
ثم اختلفوا أيضًا هل هذه النصوص في خصوص الوصل؟ أو هي متناولة أيضًا لما كان في معناه؛ كمجرد وضع الشعر على الرأس بلا وصل؟
فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى حرمة وصل الإنسان شعره بشعر آدمي آخر، وأن الرجل والمرأة يستويان في ذلك الحكم. انظر: "الدر المختار" للحصكفي مع "حاشية رد المحتار" لابن عابدين (6/ 372 - 373، ط. دار الكتب العلمية)، و"مواهب الجليل" للحطَّاب (1/ 206، ط. دار الفكر)، و"أسنى المطالب" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (1/ 173، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 46، ط. عالم الكتب).
وذهب الحنفية والحنابلة إلى جواز وصل الشعر بالصوف، والخرق، والوبر، ونحو ذلك. انظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (6/ 426، ط. دار الفكر)، "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 81، ط. دار الكتب العلمية).
ومنع منه المالكية والشافعية، ولكنهم استثنوا خيوط الحرير الملونة التي لا تُشْبِه الشعر، فأجازوها. انظر: "التاج والإكليل" للمَوَّاق (1/ 305، ط. دار الكتب العلمية)، و"أسنى المطالب" للأنصاري (1/ 173، ط. دار الكتاب الإسلامي).
ومنع الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة من وصل الشعر بشعر غير الآدمي، وأجازه الحنفية. انظر: "رد المحتار" (6/ 373)، و"التاج والإكليل" (1/ 305)، و"أسنى المطالب" (1/ 173)، و"كشاف القناع" (1/ 81).
ثم أجاز الشافعية -في الأصح- للمتزوجة أن تصل شعرها بإذن الزوج بالشعر الطاهر إذا كان من غير آدمي. انظر: "المجموع" للنووي (3/ 147، ط. المنيرية).
قد ذهب غير واحد من أهل العلم إلى أن مجرد وضع الشعر على الرأس دون وصل لا يعتبر من متناوَلات الأحاديث الشريفة السابقة، فلا يعد مُحَرَّمًا، كما هو متحقق في صورة الباروكة المعروفة الآن؛ فهي: شعر طبيعي أو اصطناعي يرتدى على الرأس للزينة؛ كجزء من اللِّباس أو لإخفاء الصَّلع انظر: "معجم اللغة العربية المعاصرة" للدكتور أحمد مختار عمر وآخرين (1/ 154، ط. عالم الكتب).
فحكى الإمام ابن بطال في "شرح البخاري" (9/ 172، ط. مكتبة الرشد) عن إبراهيم النخعي -من فقهاء السلف- أنه ذهب إلى أنه لا بأس أن تضع المرأة الشعر وغيره على رأسها وضعًا، ما لم تصله.
وقد روى ابن أبي شيبة عنه في "المصنف" (5/ 202، ط. مكتبة الرشد) أنه قال: [لا بأس بالعِقْصة توضع وضعًا] اهـ.
وروى عبد الرزاق عنه في "المصنف" (3/ 142، ط. المكتب الإسلامي) أنه قال: [لا بأس أن تضع المرأة على رأسها الشعر بغير وصل]، وهو قول عطاء بن أبي رباح أيضًا؛ فقد روى عبد الرزاق في "المصنف" (3/ 141): [عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن الشعر الذي يوصل في الرأس، والوحا في الشعر الذي يجعل على الرأس، فإن شاءت المرأة وضعت على رأسها، قال: أما الوصل: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن الواصلة والمستوصلة. وعنه أنه قال: إذا وضعت المرأة على رأسها شعرًا بغير وصل، فلتضعه إذا قامت للصلاة؛ فإنه محدث] اهـ.
وقال الشيخ النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني" (2/ 314، ط. دار الفكر): [ومفهوم (وصل): أنها لو لم تصله؛ بأن وضعته على رأسها من غير وصل، لجاز، كما نص عليه القاضي عياض؛ لأنه حينئذٍ بمنزلة الخيوط الملوية؛ كالعقوص الصوف والحرير تفعله المرأة للزينة، فلا حرج عليها في فعله، فلم يدخل في النهي، ويلتحق بأنواع الزينة] اهـ.
ويُقَوِّي هذا الرأي: أن الأحاديث الشريفة الواردة قد رتبت الوعيد المذكور فيها للواصلة؛ والقاعدة الأصولية: أن تعليق الحكم بالمشتق مؤذن بعلية ما منه الاشتقاق انظر: "حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع" (2/ 186، ط. دار الكتب العلمية)، فكأن علة التحريم في الأحاديث المذكورة هي نفس الوصل، الذي له حقيقة معلومة مغايرة لحقيقة مجرد وضع الشعر على الرأس من غير وَصْل، وغير الشيء ليس هو الشيء ضرورة.
قال ابن بطال في "شرح البخاري" بعد أن حكى مذهب النخعي القائل بجواز وضع الشعر على الرأس دون وصله به: [وعلة هذا القول: أن الخبر إنما ورد عن النبي عليه السلام بالنهى عن الوصل، فأما ما لم يكن وصلًا، فلا بأس به] اهـ.
ولا يصح أن يقال: إن وضع الشعر على الوجه المذكور يقاس على الوصل، فيَحْرُم ويلعن فاعله؛ لأمرين: أولهما: أن الحديث قد خصص العلة بالوصل كما سبق تقريره. والأخير: أنه قد تقرر في الأصول أن القياس إنما يكون في الأحكام؛ كقياس الأرز على البُر في جريان الربا، وقياس النبيذ على الخمر في الحرمة، وقياس النباش على السارق في قطع اليد، وأما اللعن ونحوه من العقوبات المعنوية، فلا يتجاوز المنصوص عليه فيها، ولا يجري فيها القياس.
يقول العلامة المحقق السيد عبد الله بن الصديق الغُمَاري في كتابه "التنصيص على أن الحلق ليس بتنميص" (ص104، ط. دار الآثار الإسلامية): [أما العقوبات المعنوية؛ كـاللعن، والغضب، وعدم دخول الجنة، فلا يجوز القياس فيها، بل يوقف على الوارد فيها؛ لأن الشارع وحده يعلم من يستحق تلك العقوبة، ونحن لا نجرؤ أن نعممها بقياس؛ لأننا وجدنا الشارع لعن النامصة ولم يلعن الزانية، مع أن الزنا أشد وأقبح. ولعن قاطع الرحم، ولم يلعن قاطع الطريق. ولعن السارق، ولم يلعن الغاش، ولا الغاصب] اهـ.
يتأكد الجواز إذا كان مستعمل الباروكة لا شعر له أصلًا؛ كما هي حالة مرضى السرطان الذين يعالجون بالعلاج الكيماوي. ويزداد التأكد إذا كان طفلًا دون سن التكليف؛ لما رواه أصحاب السنن بألفاظ متقاربة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ»؛ ورفع القلم المذكور في الحديث: كناية عن عدم التكليف؛ إذ التكليف يلزم منه الكتابة، فعبر بالكتابة عنه، وعبر بلفظ الرفع؛ إشعارًا بأن التكليف لازم لبني آدم إلا لهؤلاء الثلاثة، وأن صفة الرفع لا تنفك عن غيرهم، مع الأخذ في الاعتبار أن المرفوع هو قلم المؤاخذة لا قلم الثواب. انظر: "فيض القدير" للمناوي (4/ 35، ط. المكتبة التجارية الكبرى).
وقد ورد في كلام أهل العلم ما يفيد أنهم ذهبوا في الفروع إلى ظاهر الحديث، ففي لبس الصبي للحرير، يذهب الشافعية في الأصح إلى جواز إلباسه صغار الذكور، وهذا قول للمالكية، ووجه عند الحنابلة؛ لأنه غير مكلف، فلا يتعلق التحريم بلبسهم. انظر: "التاج والإكليل" (1/ 176)، و"المجموع" (4/ 321)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 344، ط. دار إحياء التراث العربي).
وبنحو ما سبق ورد الكلام في إلباسه الذهب؛ فقد ذهب المالكية إلى جواز لبس الصبي الذهب مع الكراهة، وذهب الشافعية في الأصح إلى الجواز مطلقًا، وعن الإمام أحمد روايتان: واحدة بالكراهة، والأخرى بعدم الكراهة. انظر: "التاج والإكليل" (1/ 176)، و"أسنى المطالب" (1/ 276)، و"الإنصاف للمرداوي" (1/ 480، ط. دار إحياء التراث العربي). كما أن من لم يبلغ الحلم لا يتصور منه-غالبًا-ما جاء النهي بسببه؛ وهو الغرر والتدليس.
أما ما يقوله بعض الناس من أن ذلك غير جائز؛ بحجة أن المشروع في التعامل مع الشعر المنفصل عن الإنسان أن يدفن، وأن استعماله ينافي التكريم المطلوب لأجزاء الإنسان، فيناقش بالتسليم بأن جسد الإنسان في الأصل محترم، وتكريمه مطلوب كلًّا وجزءًا، وأنَّ دَفْن المسلم لما قصه من شعره وأظافره، وما سقط من جسده، أو سال من دمه مشروع؛ لأن ذلك هو مآل جسمه كله؛ كما قال الله تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه: 55]، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾ [المرسلات: 25-26]؛ نقل ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (3/ 331، ط. عالم الكتب) أن الإمام أحمد فسره بقوله: [يلقون الأحياء فيها الدم، والشعر، والأظافير، وتدفنون فيها موتاكم] اهـ. لكن هذا الدفن مطلوب على جهة الاستحباب لا على جهة الوجوب؛ قال الإمام النووي في "المجموع" (1/ 342): [يستحب دفن ما أخذ من هذه الشعور والأظفار ومواراته في الأرض؛ نقل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، واتفق عليه أصحابنا] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (1 / 64-65): [ويستحب دفن ما قلم من أظفاره أو أزال من شعره؛ لما روى الخلال بإسناده عَنْ مِيلَ بِنْتِ مِشْرَحٍ الْأَشْعَرِيَّةِ قَالَتْ: رَأَيْت أَبِي يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَدْفِنُهَا، وَيَقُولُ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ". وَعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ يُعْجِبُهُ دَفْنُ الدَّمِ". وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَيَدْفِنُهُ أَمْ يُلْقِيهِ؟ قَالَ: يَدْفِنُهُ، قُلْت: بَلَغَك فِيهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَدْفِنُهُ. وَرُوِّينَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِدَفْنِ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ، وَقَالَ: «لَا يَتَلَاعَبُ بِهِ سَحَرَةُ بَنِي آدَمَ»] اهـ.
كما أننا نمنع أن يكون استعمال الشعر على الوجه المسؤول عنه منافيًا للتكريم المطلوب لأجزاء الإنسان؛ لأنه يجعل بحيث يوضع على الرأس؛ وقد جرى العرف بأن وضع الشيء على الرأس علامة على تكريمه ورفعة شأنه ومنزلته.
هذا، وقد أجاز جماعة من العلماء الانتفاع بشعر الآدمي؛ فسئل عطاء عن شعور الناس: أينتفع بها؟ قال: لا بأس بذلك. انظر "شرح البخاري" لابن بطال (9/ 172). وهو مذهب محمد بن الحسن الشيباني؛ استدلالًا بما رواه مسلم من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلق رأسه وقسم شعره بين أصحابه، وكانوا يتبركون به. انظر: "البناية شرح الهداية" للبدر العيني (8/ 166، ط. دار الكتب العلمية).
وأما أنه لا يجوز هبة ذلك الشعر، فضلًا عن بيعه وشرائه؛ لأنه ليس مملوكًا لصاحبه؛ فلو سلَّمنا بهذا نقول: إن إعطاء الشعر ونحوه للغير هنا ليس على سبيل الهبة، بل هو على سبيل الإذن بالانتفاع. وأعضاء الإنسان له أن يتبرع بها -على ما عليه العمل في الفتوى فيها- بما فيه المصلحة؛ والمصلحة هنا هي المساعدة في تخفيف الضرر النفسي الشديد -الذي لا ينكر- على الطفل المريض الذي قد سقط شعره؛ جَرَّاء العلاج الكيماوي؛ حيث كانت حالة ذلك الطفل مَظِنَّة حصول الضرر المذكور؛ والقاعدة الفقهية الكبرى أن "الضرر يزال" "الأشباه والنظائر للسيوطي" (ص83، ط. دار الكتب العلمية)؛ وأصل هذه القاعدة: ما رواه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»، والمظنة لها حكم المَئِنَّة.
وخُلُق الإيثار خُلُقٌ كريم، ممدوحٌ في الشرع، مندوبٌ إليه؛ وقد مدح الله تعالى من آثر أخاه على نفسه بطعام أو شراب أو مال؛ فقال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]. ويضاف إلى ذلك السرور الذي يحصل لهؤلاء الأطفال بذلك؛ وقد روى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً» الحديث.
وقد نُقِل عن الإمام مالك أنه لم يحرم بيع الشعر، وإن قال بكراهته، فإذا جاز بيعه جازت هبته؛ قال العلامة الخرشي في "شرح المختصر" (1/ 83، ط. دار الفكر): [(تنبيه): سئل مالك عن بيع الشَّعْر الذي يُحْلَق من رؤوس الناس، فكرهه] اهـ، ثم قال الشيخ الخرشي عقبها: [فإن كانت على بابها أفاد ذلك جواز الانتفاع؛ يعني: إن كانت الكراهة على بابها من انتفاء الإثم عند الارتكاب؛ فإن ذلك يفيد جواز الانتفاع؛ لأن المكروه مأذون فيه في الجملة] اهـ.
وأما الاعتراض بأن الشعر لو كان من امرأة فإنه سيحرم النظر إليه؛ لأنه من العورة، فهو مبني على ما هو الأصح عند الحنفية، وأصح الوجهين عند الشافعية؛ من أن ما حَرُم النظرُ إليه منه أو منها متصلًا حَرُم النظرُ إليه منفصلًا انظر: "مجمع الأنهر" لداماد أفندي (2/ 539، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"تحفة المحتاج" لابن حجر (7/ 207، ط. دار إحياء التراث العربي)، ولكن هذا الرأي ليس متفقًا عليه؛ فقد وُجِد من قال بالجواز من الحنفية؛ كما هو مقتضى عبارة الفقيه داماد أفندي في "مجمع الأنهر" (2/ 539)؛ حيث قال: [كل عضو لا يجوز النظر إليه قبل الانفصال لا يجوز بعده، وهو الأصح] اهـ، والتعبير بـ"الأصح" يفهم منه وجود مقابله.
وأما الشافعية فمقابل الأصح عندهم مُصَرِّح بالجواز؛ قال النووي في "روضة الطالبين" (7/ 26، ط. المكتب الإسلامي): [(فرع): ما لا يجوز النظر إليه متصلًا –كالذَّكَر، وساعِد الحُرَّة، وشعر رأسها، وشعر عانة الرجل، وما أشبهها-يَحْرُم النظر إليه بعد الانفصال على الأصح. وقيل: لا] اهـ. ومُدرَك مقابل الأصح هذا: أن النظر إلى العضو المبان بعد الانفصال لا يخاف منه الفتنة، بخلافه قبله. انظر: "الشرح الكبير" للرافعي (7/ 478).
والجواز هو مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه أيضًا؛ قال في "الإقناع" للحجاوي وشرحه "كشاف القناع" للبهوتي من كتب السادة الحنابلة (5/ 15): [(ويحرم نظر شعرها)؛ أي: شعر المرأة الأجنبية، كسائر أجزائها، و(لا) يحرم نظره، ولا مس الشعر (البائن)؛ أي: المنفصل من المرأة الأجنبية؛ لزوال حرمته بالانفصال] اهـ.
فبعد ذلك: من رأى خلافه؛ بناء على أن مذهبه الذي يتبعه ويتقيد به ينص على خلاف ذلك، فله أن يتبع مذهبه، وليس له أن يعترض به على من رَأَى غَيرَه، أو قَلَّد خلافَه؛ إذ إن القاعدة أنه "لا يعترض بمذهب على مذهب". انظر: "حاشية ابن الشاط على الفروق" (4/ 121).
ومن اللطائف في هذا الباب: ما رواه الشيخ القاضي أبو الفرج المعافَى بن زكريا الجريري النهرواني، المعروف بابن طَرَارا (ت: 390هـ) بإسناده في كتابه "الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي" (ص634، ط. دار الكتب العلمية)؛ فقال: [حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا أبو عكرمة الضبي قال: حدثنا العتبي عن أبيه قال: سبا الروم نساء مسلمات، فبلغ الخبر الرقة، وبها الرشيد ومنصور بن عمار هناك، فقص منصور يحض على الغزو، فإذا خرقة مصرورة مختومة قد طرحت إلى منصور، وإذا كتاب مضموم إلى الصرة، فقرأه، فإذا فيه: إني امرأة من بيوتات العرب، بلغني ما فعل الروم بالمسلمات، وبلغني تحضيضك على الغزو، فعمدت إلى أكرم شيء في بدني علي، وهما ذؤابتاي، فجززتهما، وصررتهما في هذه الصرة المختومة، فأنشدك بالله العظيم لما جعلتهما قيد فرس غازٍ في سبيل الله، فعَلَّ الله ينظر إلي نظرة على تلك الحال، فيرحمني، فبلغ ذلك الرشيد، فبكى، ونادى النفير] اهـ، ثم قال القاضي ابن طَرارا معلقًا على هذا الخبر: [قد أَتَتْ هذه المرأة بما دَلَّ على خلوص دينها، وصحة يقينها، وغضبها لربها، وغيرتها على أهل مِلَّتها، وامتعاضها عندما بلغها من انتهاك أعداء الله محارمه التي حرمها، واستخفافهم بحدود الإسلام التي عظمها، وقصدت بما أتته من جزها ذؤابتيها التقرب إلى خالقها، ورجاء مغفرته لها، والله يحقق برأفته وسعة رحمته رجاءها، ويغفر لنا ولها، ولم تقصد بما فعلته الأمر الذي حرم عليها، فيؤثمها، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لعن الغارفة؛ وهي التي تجز ناصيتها عند المصيبة، وإلى الله نرغب في أن يجعلنا ممن يغضب له، ويحام عن دينه، ويوالي ويعادي فيه، بتوفيقه] اهـ.
بناء على ما سبق: فإنه لا يحرم أن يبذل الإنسان شيئًا من خصل شعر رأسه لمستشفى سرطان الأطفال بغرض صنع باروكة يلبسها أولئك الأطفال بعد أن تسبب العلاج الكيماوي في تساقط شعر رؤوسهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.