ما حكم التسليمة الثانية في صلاة الجنازة؟ فقد كثرت الخلافات في الفترة الأخيرة في المساجد والقرى حول التسليم في صلاة الجنازة؛ هل هو تسليمة واحدة أو تسليمتان؟
اتفق الفقهاء على وجوب التسليمة الأولى من صلاة الجنازة، وعلى مشروعية التسليمة الثانية بعدها، وإن اختلفوا في وجوبها؛ فالأمر في ذلك واسع، ولا يصح الإنكار فيه.
المحتويات
اتفق الفقهاء على مشروعية التسليم للخروج من صلاة الجنازة؛ وذلك لعموم ما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مِفتاحُ الصَّلاة الطُّهورُ، وتحريمُها التكبيرُ، وتحليلُها التَّسليم».
واتفقوا جميعًا على وجوب التسليمة الأولى منها، لكنهم اختلفوا في التسليمة الثانية: هل هي واجبة أو مستحبة؛ فذهب الحنفية إلى وجوبها كالتسليمة الأولى، بينما ذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة، إلى مشروعيتها من غير وجوب.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سلم تسليمتين من صلاة الجنازة؛ وذلك فيما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي معمر أنَّ أميرًا كان بمكة يسلم تسليمتين، فقال عبد الله: "أَنَّى عَلِقَها!" قال الْحَكَمُ في حديثه: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعله"، قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (5/ 83، ط. دار إحياء التراث): [قوله: أنى علقها؟ هو بفتح العين وكسر اللام، أي: من أين حصَّل هذه السنة وظفر بها. فيه: دلالة لمذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف: أنه يسن تسليمتان] اهـ.
على ذلك جاءت نصوص فقهاء المذاهب المتبوعة:
فعند الحنفية:
قال العلاَّمة ابن مازه الحنفي في "المحيط البرهاني" (2/ 179، ط. دار الكتب العلمية): [ثم يكبر الرابعة ويسلم تسليمتين؛ لأنه جاء أوان التحلل وذلك بالسلام] اهـ.
وقال العلَّامة الحصكفي الحنفي في "الدر المختار" (2/ 213، ط. دار الفكر): [(ويسلم) بلا دعاء (بعد الرابعة) تسليمتين ناويًا الميت مع القوم] اهـ.
وعند المالكية:
قال العلَّامة أبو عبد الله المازري المالكي في "شرح التلقين" (1/ 1152، ط. دار الغرب الإسلامي): [قال أشهب في "مدونته": يُسلِّم الإِمام تسليمتين؛ عن يمينه وعن شماله، ويسلِّم القوم كذلك] اهـ.
وعند الشافعية:
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في "التنبيه" (1/ 51، ط. عالم الكتب): [ويقول في الرابعة: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم يسلم تسليمتين] اهـ.
وقال العلَّامة الخطيب الشربيني الشافعي في "الإقناع" (1/ 206، ط. دار الفكر): [ولا يقتصر على تسليمة واحدة يجعلها تلقاء وجهه، وإن قال في "المجموع": إنه الأشهر] اهـ.
وعند الحنابلة:
قال العلَّامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 366، ط. مكتبة القاهرة): [واختار القاضي أنَّ المستحب تسليمتان، وتسليمة واحدة تجزي، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي؛ قياسًا على سائر الصلوات] اهـ.
وقال العلَّامة ابن مفلح الحنبلي في "المبدع" (2/ 255، ط. دار الكتب العلمية): [وإن سلَّم تلقاء وجهه جاز، نص عليه، وتجوز ثانية، واستحبها القاضي، وذكره الحلواني رواية، وقد روى الحاكم عن ابن أبي أوفى رضي الله عنهما تسليمتين] اهـ.
على ذلك: فقد اتفق الفقهاء على وجوب التسليمة الأولى من صلاة الجنازة، كما اتفقوا على مشروعية التسليمة الثانية بعدها، وإن اختلفوا في وجوبها، فالأمر في ذلك واسع، والتسليمة الثانية مشروعة عند الجميع.
أما دعوى أن التسليمة الثانية ليست مشروعة، أو هي بدعة، أو مخالفة للهدي النبوي: فهو من الجهل الذي يسعى أصحابه إلى إشاعة الفرقة بين المسلمين والتشويش على مذاهبهم المتبوعة، وإثارة الشحناء والبغضاء بين العامة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.