ما حكم كتابة بعض آيات القرآن الكريم على الحوائط؟ حيث تقوم إحدى الجماعات في قريتنا بكتابة بعض آيات القرآن الكريم على الحوائط عن طريق الورق أو البوهية، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: 56]، وكذا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وكذا: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ [نوح: 10]، ويقوم الأطفال بتمزيق الأوراق المكتوب عليها آيات القرآن ووضعها في صناديق القمامة.
اتفقت كلمة الفقهاء على جواز تزيين الحوائط بكتابة آيات القرآن الكريم؛ لما في ذلك من تعظيم القرآن والتبرك به، إلا أنه ينبغي مراعاتها بالتنظيف والعناية، ويراعى فيها أيضًا تناسقُ الشكل والمضمون، وتناسبُ الجمال مع الجلال، وأن تكون بمنأًى عن عبث الأطفال أو السفهاء بها.
المحتويات
لا يزال المسلمون عبر العصور حريصين على إتقان التعامل مع القرآن الكريم وآياته قَدْرَ وُسْعِهِم في كافة أوجه التعامل معه قراءةً وكتابةً وعملًا، وقد دَرَجَ المسلمون عبر العصور على كتابة الآيات القرآنية على حوائط الأماكن الشريفة حبًّا في الكتاب الكريم، وتبركًا بآياته وأسرارها، وتذكيرًا لمن يغفل عن شيء منها أو ينساه، واستهداء لمن يضل عن العمل بمقتضاها.
واقترن هذا الأمر بكمال الاعتناء والاتقان مادةً؛ حيث اختاروا لذلك أنفس ما لديهم لتكتب به آيات القرآن، وموضعًا؛ بوضعها في أشرف المواضع بأشرف الأماكن كالمساجد وجدران السبُل والمدارس بما يليق بالآيات القرآنية، كما أحيط ذلك بما يبرز جمال القرآن وجلاله من زخرفة لائقة أو تذهيب للمصحف أو للجدار المكتوب عليه الآيات الكريمات، ومَن تأمل آثار الحضارة الإسلامية من مصاحف ومخطوطات وأبنية كالمساجد والكتاتيب والسبُل والمدارس ورأى كتاباتهم على جدرانها فَطِنَ لهذه المقاصد ووعاها.
إذا كان المسلمون قد اعتنوا هذه العناية الفائقة بكتابة آيات القرآن الكريم؛ فإن من نافلة القول أن نقول: إنهم قد احترزوا تمام الاحتراز عما من شأنه أن ينال من قدسية الآيات القرآنية أو يحط من إبراز جمالها وجلالها في النفوس؛ فجعل الفقهاء لهذه الكتابة ضوابط منها المتفق عليه الذي يجب الالتزام به؛ كأن تكون الكتابة محكَمة مُتْقَنَةً غير معرَّضة للسقوط والامتهان، وألا تكتب بشيء من النجاسات، ومنها المُختَلَف فيه؛ كأن تكون في القبلة، أو بالذهب، أو من مال الوقف، أو مبالغًا فيها.
ونصُّوا على كراهية الكتابة أو حرمتها عند احتمال حصول هذه المحاذير.
جاء في "الفتاوى الهندية" (1/ 109، ط. دار الفكر): [وليس بمُستَحْسَنٍ كتابةُ القرآن على المحاريب والجدران؛ لِمَا يُخاف من سقوط الكتابة وأن تُوطَأ] اهـ.
وفي "الفتاوى الهندية" أيضًا (5/ 323): [ولو كُتِبَ القرآنُ على الحيطان والجدران: بعضهم قالوا: يُرْجَى أن يجوز، وبعضهم كرهوا ذلك؛ مخافةَ السقوط تحت أقدام الناس، كذا في "فتاوى قاضي خان"] اهـ.
وقال الإمام الحصكفي الحنفي في "الدر المختار" (1/ 685، ط. دار الفكر): [(ولا بأس بنقشه خلا محرابه) فإنه يُكرَه؛ لأنه يُلهِي المُصَلِّي، ويُكرَهُ التكلف بدقائق النقوش ونحوها خصوصًا في جدار القبلة، قاله الحلبي، وفي "حظر المجتبى": وقيل يكره في المحراب دون السقف والمؤخر] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين في "حاشيته على الدر المختار" (2/ 246-247، ط. دار الفكر): [عن "الفتح": أنه تُكْرَه كتابةُ القرآن وأسماء الله تعالى على الدراهم والمحاريب والجدران وما يُفْرَشُ؛ وما ذاك إلا لاحترامه وخشية وطئه ونحوه مما فيه إهانة] اهـ.
فالكراهة عند الحنفية معللة بشيئين، أولهما: كون الكتابة ملهية للمصلي، فإن كانت غير ملهية انتفت الكراهة، وثانيهما: كون الكتابة مَظِنَّةَ السقوط؛ لِمَا للآيات القرآنية من الحرمة التي يجب معها صونها عن كل مظاهر الامتهان، وهو يقتضي أن كتابتها بإحكام وإتقان، بحيث لا تكون مَظِنَّةَ السقوط أو الامتهان: لا كراهةَ فيه فضلًا عن التحريم.
نقل الإمام الفقيه أبو علي سند بن عنان المالكي [ت541هـ] صاحب كتاب "الطراز" الذي شرح به "المدونة" في ثلاثين سفرًا: إجماع المسلمين على مشروعية تذهيب الكعبة، نقله عنه الإمام التقي السبكي في "تنزل السكينة" (1/ 276).
وقال العلامة ابن رشد المالكي في "البيان والتحصيل" (1/ 270، ط. دار الغرب الإسلامي): [قال مالك: ولقد كره الناس تزويق المسجد حين جعل بالذهب والفسيفساء، وأُوِّل ذلك مما يشغل الناس في صلاتهم، وكره في أول سماع موسى أن يكتب في قبلة المسجد بالصبغ آية الكرسي أو غير ذلك من القرآن لهذه العلة، ولابن نافع وابن وهب في "المبسوطة": إجازة تزيين المساجد وتزويقها بالشيء الخفيف، ومثل الكتاب في قبلتها، ما لم يكثر ذلك حتى يكون مما نُهِيَ عنه من زخرفة المساجد] اهـ.
وقال الإمام البرزلي المالكي في "فتاويه" (1/ 356، ط. دار الغرب الإسلامي): [وكراهة الكتب والتزويق لقبلته، وفي سماع ابن القاسم: كره الناس تزويق القبلة حين جُعل بالذهب؛ لأنه يشغل المصلين، ابن رشد: لابن نافع وابن وهب جواز تزويق المساجد بما خفَّ والكتب في قبلتها.. وظاهر الرواية عندنا أنه مكروه تزويق المساجد بالذهب؛ لأنها تشغل المصلي، فلو كانت حيث لا تشغله: فظاهر أنها جائزة، وقد رأيت ذلك في جامع القيروان، ومرَّت عليه قرون ولم يُسمَعْ فيه من ينكر، وكذا هو في جامع الزيتونة، غير أن بعضه بين يدي الإمام، فقال لي شيخنا الإمام: إن الولاة هم الذين وضعوه، وجُدِّدَ في وقت إمامته به، وسكت عنه لكونه -والله أعلم- مكروهًا] اهـ.
قال العلامة الخرشي بعد أن نقل كلام الإمام البرزلي في "شرحه على مختصر خليل" (1/ 101، ط. دار الفكر): [والظاهر أن هذا هو المُعوَّل عليه] اهـ.
وقال العلامة الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 65، ط. دار إحياء الكتب العربية): [واعلم أن تزويق الحيطان والسقف والخشب والساتر بالذهب والفضة جائز في البيوت، وفي المساجد مكروه إذا كان بحيث يشغل المصلي، وإلا فلا] اهـ.
فكراهية الكتابة عند المالكية منوطة بكونها مُلْهِيَةً للمُصَلِّين عن صلاتهم، فإن كانت بحيث لا تشغلهم ولا تلهيهم فالمعوَّل عليه عندهم أنها جائزة حتى لو كانت في القبلة أو مِن الذهب.
قال الإمام النووي الشافعي في كتابه "المجموع شرح المهذب" (2/ 70، ط. دار الفكر): [لا يجوز كتابة القرآن بشيء نجس ذكره البغوي وغيره، قال البغوي وغيره: يكره نقش الحيطان والثياب بالقرآن وبأسماء الله تعالى، قال القاضي حسين والبغوي وغيرهما: وإذا كتب قرآنًا على حلوى وطعام فلا بأس بأكله، قال القاضي فإن كان على خشبة كره إحراقها] اهـ.
وقال الإمام التقي السبكي في "الفتاوى" (1/ 276-277، ط. المكتبة الإسلامية): [وأما تذهيبُ الكعبة: فإن الوليد بن عبد الملك بعث إلى خالد بن عبد الله والي مكة ستة وثلاثين ألف دينار وجعلها على بابها والميزاب والأساطين والأركان، وذكر في "الرعاية" عن أحمد: أن المسجد يصان عن الزخرفة، وهم محجوجون بما ذكرناه من إجماع المسلمين في الكعبة، ذكر ذلك صاحب "الطراز" من المالكية.. فإن قلتَ: قد قال المتولي من الشافعية: لو وقف على تجصيص المسجد وتلوينه ونقشه هل يجوز؟ على وجهين؛ أحدهما: يجوز؛ لأن فيه تعظيم المسجد وإعزازَ الدين. والثاني: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر تزيين المساجد في أشراط الساعة، وألحقه بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قلتُ: أما كونه من أشراط الساعة فلا يدل على التحريم، وأما كونه ألحقه بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالذي ورد: «لَتُزَخْرِفُنَّها ثم لا تَعْمُرُونَها إلَّا قليلًا»؛ فالمذموم: عدم العمارة بالعبادة، أو الجمعُ بينه وبين الزخرفة، أو الزخرفة الملهية عن الصلاة؛ فهي المكروهة، أما التجصيص: ففيه تحسين للمساجد، وقد فعله الصحابة: عثمان رضي الله عنه فمن بعده، ولا شك أن بناء المساجد من أفضل القُرَب، وتحسينها من باب اختيار الأعمال الصالحة؛ فهو صفة القُرْبة، وقد رآه المسلمون حسنًا، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" ؛ فكل ذلك حسنٌ، ولا يكره منه إلا ما يشغل خواطر المصلين؛ فلا شك أن يُكرَه كراهةَ تنزيهٍ لا تحريم] اهـ.
وقال الإمام الزركشي في "إعلام الساجد" (ص: 336): [قال البغوي في "شرح السنة": لا يجوز تنقيش المسجد بما لا إحكام فيه. وقال في "الفتاوى": فإن كان فيه إحكام فلا بأس؛ فإن عثمان رضي الله عنه بنى المسجد بالقَصَّة والحجارة المنقوشة. قال البغوي: ومن زوَّق مسجدًا -أي: تبرعًا- لا يُعَدُّ من المناكير التي يبالغ فيها كسائر المنكرات؛ لأنه يفعله تعظيمًا لشعائر الإسلام، وقد سامح فيه بعض العلماء، وأباحه بعضهم] اهـ.
وقال أيضًا (ص: 337): [ويُكرَه أن يكتب في قبلة المسجد آية من القرآن أو شيئًا منه، قاله مالك، وجوَّزه بعض العلماء، وقال: لا بأس به؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: 18]، ولِمَا مِن فعل عثمان ذلك بمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يُنْكَر ذلك] اهـ.
فالأمر واسع عند الشافعية ما دام الغرضُ تعظيمَ شعائر الإسلام، والنهي مُعلَّلٌ بافتقاد الإحكام في الكتابة بحيث تكون عُرْضَةً للاستهانة بها، أو بشغل خاطر المصلي، فإن انتفى ذلك فلا تحريم ولا كراهة.
يقول العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (2/ 366، ط. دار الكتب العلمية): [(ويُكْرَه) أن يُزَخرَف المسجدُ (بنقش وصبغ وكتابة وغير ذلك مما يلهي المصلي عن صلاته غالبًا)] اهـ.
وهذا يقتضي أيضًا أن ذلك إذا كان بحيث لا يُلهي المصلي فلا كراهة، ومن ثم ضبط كثير من العلماء هذه المسألة بما يجعلها لا تخرج عن المقاصد الشرعية والمصالح المرعية، وينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن هذه المسألة من المسائل الخلافية التي لا إنكار فيها، فلا يُنْكَر فعلُها، ولا تُنْقَضُ إذا كُتِبَتْ على الوجه المُتْقَن؛ لأنها إنما فُعِلَتْ تعظيمًا لشعائر الإسلام، وفي نقضها إخلالٌ بهذا المعنى؛ حيث نص الفقهاء على أنه قد يجب في الدوام ما لا يجب في الابتداء. فيجب عند كتابة الآيات القرآنية على جدران المساجد وغيرها الالتزامُ بما اتُّفِق عليه من هذه الضوابط، وكذا تعهد الكتابة بالصيانة والتنظيف والترميم، وينبغي أن يُراعَى فيها أيضًا تناسق الشكل والمضمون، وتناسب الجمال مع الجلال؛ كما هو مشاهَدٌ في الكتابات البديعة في مساجد المسلمين عبر التاريخ، شرقًا وغربًا؛ والتي صار كثير منها معالم بارزة يرى الناس من خلالها روائع الفن المعماري الإسلامي كما تقدم الإشارة لذلك.
وعليه: فلا بأس بكتابة الآيات القرآنية على جدران الحوائط للتبرك والتذكيير والاستهداء بشرط أن يراعى في ذلك جناب القرآن الكريم، ويحاط بكمال العناية والإتقان، وأن تكون بمنأًى عن عبث العابثين من الأطفال وغيرهم فإن لم يتحقق شيء من هذا حرم ذلك؛ تعظيمًا لجناب القرآن الكريم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.