ما الحكم الشرعي في مماطلة بعض الورثة في تمكين باقي الورثة من نصيبهم في الإرث ومحاولتهم تأجيل هذا، في حالة أن يكون هذا التأجيل لمصلحة المماطِل الشخصية دون رضا باقي الورثة؟
يحرم شرعًا مماطلة أحد الورثة أو تأجيلُه في قسمة الإرث دون رضا باقي الورثة، ويجب تمكين الورثة من نصيبهم؛ فكلُّ إنسان أحقُّ بماله. والإرث ينتقل جبرًا بمجرد موت المُورث، فمنع الإنسان من التصرف فيما له يُعدُّ من قبيل الظلم المحرَّم.
المحتويات
أجمع الفقهاء على أن المال ينتقل بعد الموت من ملك المُوَرِّث إلى ملك ورثته؛ لأنه ينقطع عن ملك المُوَرِّث بالموت، ففي حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ» متفق عليه.
والتركة بعد موت المُوَرِّث حقٌ لعموم الورثة على المشاع ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، فيستحق كل وارث نصيبه من التركة بعد أن يخصم منها نفقة تجهيز الميت وبعد قضاء الديون وإنفاذ الوصايا والكفارات والنذور ونحو ذلك.
لا يجوز لأي أحد من الورثة الحيلولة دون حصول باقي الورثة على أنصبائهم المقدَّرة لهم شرعًا بالحرمان أو بالتعطيل، كما لا يجوز استئثار أحدِهم بالتصرف في التركة دون باقي الورثة أو إذنهم، فمنع القسمة أو التأخير فيها بلا عذر أو إذن محرَّم شرعًا؛ ويدل على ذلك ما يلي:
أولًا: قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، ففي الآية أمر بالمسارعة إلى أسباب المغفرة ودخول الجنة.
يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في "تفسيره" (4/ 89، ط. الدار التونسية): [والمسارعة على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة وأسباب دخول الجنة، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلق بالذات] اهـ.
ومن أعظم أسباب دخول الجنة ونيل رضا الله أداء الحقوق مطلقًا، سواء كان حق الله أو حق الناس أو حتى حق النفس، ويدخل في أداء حقوق الناس أداء الولي أو المسؤول عن التركة حقوقَ باقي الورثة إليهم والمسارعة في ذلك واتقاء تأخيرها عن موعد استحقاقها بلا عذر أو إذن.
ثانيًا: ما رواه ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ فَرَّ مِنْ مِيرَاثِ وَارِثِهِ، قَطَعَ اللهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
قال العلامة المُناوي في "فيض القدير" (6/ 186، ط. المكتبة التجارية الكبرى) معلقًا على الحديث: [أفاد أن حرمان الوارث حرام، بل قضية هذا الوعيد أنه كبيرة، وبه صَرَّح الذهبي وغيره] اهـ.
والفرار والحرمان كما يصدقان على الفرار التام والحرمان الكامل، فإن كلًّا منهما يتناول أيضًا المماطلة غير المبررة؛ لأن فيها نوع فرار وحرمان.
ثالثًا: ما رواه البيهقي في "الشُّعب" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا فَرَضَهُ اللَّهُ، قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ».
وهذا الحديث نَصٌّ في أن قَطْع الميراث عن أحد الورثة حرام؛ لأن الوعيد على الشيء دليلٌ على حرمته، والقطع الوارد في الحديث يدخل فيه المنع من الإرث مطلقًا، أو تأخيره عن ميعاد استحقاقه دون عذر أو إذن؛ لأن القطع كما يأتي في اللغة بمعنى الإبانة والفصل، فإنه يأتي بمعنى الحبس؛ فيقال انقطع الغيث؛ أي: احتبس، وانقطع النهر؛ أي: جف أو حبس. انظر: "تاج العروس" (22/ 24، ط. دار الهداية)، "المصباح المنير" (2/ 508، ط. المكتبة العلمية)، وتعمد تأخير تسليم الشيء ضرب من ضروب حبسه.
رابعًا: ما رواه البيهقي والدارقطني عن حِبَّان بن أبي جَبلة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كُلُّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، فهذا الحديث أصل في أن للإنسان أحقية التصرف فيما يملك.
وملك الوارث لميراثه يحصل بمجرد موت مُوَرِّثِه، ولَمَّا ذكر الله تعالى أنصبة الورثة في سورة النساء بدأها بلام الملك؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾، وقوله: ﴿فَلَهَا النِّصْفُ﴾، وقوله: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾، وقوله: ﴿فَلَكُمُ الرُّبُعُ﴾، وقوله: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ﴾، وقوله: ﴿فَلَهُنَّ الثُّمُنُ﴾، وقوله: ﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾، وقوله: ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾، وقوله: ﴿فَلَهَا النِّصْفُ﴾ [النساء: 11-12]، مما يؤكِّد أن كل واحد من الورثة مالك لنصيبه في التركة ملكًا لا يقبل التشارك وله أحقية التصرف في نصيبه دون تسلط من أحد عليه في ذلك، والأصل أنه لا يجوز للإنسان التصرف في ملك الغير أو الافتئات عليه فيه. ومنع التركة عن أحد الورثة أو تأخير القسمة بلا إذن من باقي الورثة تصرف في ملك الغير بلا إذن فلا يجوز.
خامسًا: أن المنع أو التأخير بلا عذر أو إذن تعدٍّ على حقوق الغير وهضم لحقه، وذلك من الظلم، والظلم من الكبائر المتوعَّد عليها، فقد روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ».
كما أن هذا المنع أو التأخير فيه أكل لأموال الناس بالباطل، وقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 29]، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أَخَذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» رواه مسلم.
وعليه: فمماطلة أحد الورثة أو تأجيلُه قسمةَ الإرث أو تمكينَ باقي الورثة من نصيبهم بلا عذر أو إذن من الورثة محرَّم شرعًا، وصاحبه آثم مأزور، وعليه التوبة والاستغفار مما اقترفه، ويجب عليه رَد المظالم إلى أهلها؛ بتمكين الورثة من نصيبهم وعدم الحيلولة بينهم وبين ما تملكوه إرثًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.