هل يجوز أن أقوم ومعي مجموعة من رجال الأعمال بإنشاء مشروع استثماري من أموال الزكاة يتم إنفاق عائده على الفقراء والمساكين، وذلك حتى يتاح لنا مصدر دائم للإنفاق عليهم؟
يجوز عمل مشاريع استثمارية بأموال الزكاة بشروط:
أولًا: أن يتحقق من استثمار أموال الزكاة مصلحةٌ حقيقيةٌ راجحةٌ للمستحِقين؛ كتأمين موردٍ دائمٍ يحقق لهم الحياة الكريمة.
ثانيًا: أن يخرج مال الزكاة عن ملكية صاحبه ويُملَّك المشروعُ للفقراء ملكًا تامًّا، وإلا صارت وقفًا لا زكاة.
ثالثًا: أن يتم اتخاذ كافة الإجراءات التي تضمن نجاح المشاريع بعد تمليكها للمستحِقين، ولا يُصرَف ريعُها إلا لهم.
المحتويات
الأصل في أموال الزكاة التي إذا أخرجها المزكي أو وصلت إلى يد الإمام أو من ينوب عنه من السعاة أو المؤسسات الزكوية تعجيل تقسيمها بين المستحقين للزكاة ولا يجوز تأخيرها.
وقد نص الفقهاء على أن الإمام أو الساعي الذي يرسله في تحصيل الزكاة إنما هو نائب المستحقين، على ما في "مُغني المحتاج" (1/ 413، ط. الحلبي)، لكن إذا دعت الضرورة أو الحاجة أو مصلحة المستحقين إلى تأخير تقسيمها فلا بأس.
يستثنى من الأصل السابق أيضًا جواز تأخيرها للاستثمار، إذا دعت الضرورة أو الحاجة كتأمين موارد مالية ثابتة للمستحقين وتوفير فرص عمل للعاطلين عن العمل من المستحقين، فيجوز استثمارها في مشاريع إنتاجية، وإنما يجوز ذلك بثلاثة شروط:
أولها: أن يتحقق من استثمار أموال الزكاة مصلحة حقيقية راجحة للمستحقين: كتأمين مورد دائم يحقق الحياة الكريمة لهم.
ثانيها: أن يخرج صاحب مال الزكاة التي وجبت عليه عن ملكية هذا المال، ويتم تمليك المشروع للفقراء كأن يُعمل مثلًا في صورة شركة مساهمة تملك أسهمها للفقراء، ولا تكون ملكيتها لصاحب المال الذي أخرج الزكاة، بل لا بد أن تخرج أموال الزكاة من ملكيته لتبرأ ذمته ويتحقق إيتاء الزكاة وإخراجها، وإلا صارت وقفًا لا زكاة.
واشتراط تملك الفقراء يدل عليه ظاهر الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ٦٠]، واللام تقتضي المِلك، قال العلامة الخطيب في "مغني المحتاج" (4/ 173 ط. دار الكتب العلمية): [أضاف الأصناف الأربعة الأولى بلام الملك والأربعة الأخيرة بفي الظرفية للإشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى، وتقييده في الأربعة الأخيرة، حتى إذا لم يصل الصرف في مصارفها استرجع بخلافه في الأولى] اهـ.
ومصارف الزكاة مقصورة على هذه الأصناف؛ قال الإمام النسفي في "تفسيره" (1/ 688): [قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة أي هي مختصة بهم لا تتجاوز إلى غيرهم كأنه قيل إنما هي لهم لا لغيرهم] اهـ، وقال العلامة أبو السعود في "تفسيره" أيضا (4/ 76): [مخصوصةٌ بهؤلاء الأصنافِ الثمانيةِ الآتية لا تتجاوزهم إلى غيرهم] اهـ. وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي في"المبسوط" (2/ 202): [والأصل فيه أن الواجب فيه فعل الإيتاء في جزء من المال ولا يحصل الإيتاء إلا بالتمليك فكل قربة خلت عن التمليك لا تجزي عن الزكاة] اهـ.
وفي "الدر المختار" و"حاشيته" لابن عابدين (2/ 344 ط. دار الفكر) باختصار وتصرف: [ويشترط أن يكون الصرف «تمليكًا» لا إباحة، فلا يكفي فيها الإطعام إلا بطريق التمليك ولو أطعمه عنده ناويًا الزكاة لا تكفي، وكذلك كل ما لا تمليك فيه] اهـ.
ثالثها: أن تتخذ كافة الإجراءات التي تضمن نجاح تلك المشاريع بعد أن تملك للمستحقين ملكًا تامًّا، ولا يصرف ريعها إلا لهم.
وقد نص الفقهاء من الشافعية والحنابلة -وهو المختار للفتوى كما تقدم- على جواز استثمار أموال الزكاة من قِبَل المستحقين بعد قبضها؛ لأن الزكاة إذا وصلت أيديهم أصبحت مملوكةً ملكًا تامًّا لهم، وبالتالي يجوز لهم التصرف فيها كتصرف الملاك في أملاكهم، فلهم إنشاء المشروعات الاستثمارية، وشراء أدوات الحرفة وغير ذلك.
قال إمام الحرمين في "نهاية المطلب" (11/ 533- 541، ط. دار المنهاج): [أجمع المسلمون على أن الصدقات وظائف موظفة في أموال الأغنياء ومن في معناهم، والغرض الكلي منها صرف قسط من أموال الأغنياء إلى محاويج المسلمين... ومقصود الشرع إزالة الحاجات بالزكوات] اهـ.
ثم نص إمام الحرمين على جواز أن يقام للمستحق مشروع يدر عليه ما يكفيه؛ فقال في "نهاية المطلب" (11/ 545): [للمسكين أن يأخذ قدر كفايته بحيث يفي دخله بخرجه، ولا يتقدَّر بمدة سنة، فإن الذي يملك عشرين دينارًا يتَّجر بها، ولا يفي دخله بخرجه مسكين في الحال، وإن كان ما في يده يكفيه لسنة، فالمعتبر أن يتموَّل مالًا يحصل له منه دخل يفي بخرجه على ممرِّ الزمان، وإن كان لا يحسن تصرفًا، فالأقرب فيه أن يملَّك ما يكفيه في العمر الغالب، وفيه نَبْوة؛ فإنه إذا كان ابنَ خمسَ عشرةَ سنة ويحتاج في السنة إلى عشرة، يؤدي إلى أن نجمع له مالًا جمًّا لا يليق بقواعد الكفايات في العادة، والقريبُ من الفقه: إن كان يحسن التجارة، ملَّكناه مالًا يردُّ عليه التصرفُ فيه ما يكفيه، ولا يحطُّه من الكفاية شيئًا، بل يكتفي بما هو أدنى درجات الكفاية، وإن لم يحسن التجارة، فقد نقيم له قائمًا يتَّجر له] اهـ.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب" (1/ 314، ط. دار الكتب العلمية): [والفقير هو الذي لا يجد ما يقع موقعًا من كفايته فيدفع إليه ما تزول به حاجته من أداة يعمل بها إن كان فيه قوة أو بضاعة يتجر فيها حتى لو احتاج إلى مال كثير للبضاعة التي تصلح له ويحسن التجارة فيها وجب أن يُدفع إليه] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في " كشاف القناع" (2/ 282، ط. دار الكتب العلمية): [قاعدة المذهب كما ذكرها المجد وتبعه في "الفروع" وغيره أن من أخذ بسبب يستقر الأخذ به، وهو الفقر والمسكنة، والعمالة والتالف، صرفه فيما شاء كسائر ماله؛ لأن الله تعالى أضاف إليهم الزكاة بلام الملك، وإن لم يستقر الأخذ بذلك السبب صرفه؛ أي المأخوذ فيما أخذه له خاصة، لعدم ثبوت ملكه عليه من كل وجه وإنما ملكه مراعًى، فإن صرفه في الجهة التي استحق الأخذ بها، وإلا استرجع منه، كالذي يأخذه المكاتب والغارم والغازي وابن السبيل؛ لأن الله تعالى أضاف إليهم الزكاة بـ﴿في﴾، وهي للظرفية؛ ولأن الأربعة الأُوَل يأخذون لمعنًى يحصل بأخذهم، وهو إغناء الفقراء والمساكين، وتأليف المؤلفة، وأداء أجرة العاملين، وغيرهم يأخذ لمعنًى لم يحصل بأخذه للزكاة، فافترقا] اهـ.
بناءً عليه وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز عمل مشاريع استثمارية بأموال الزكاة بالشروط المتقدمة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.