ما حكم تسويد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التشهد؟
يُستحب تقديم اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بـ"سيِّدنا"؛ سواء في الأذان أو الإقامة أو التشهد أو غيرها؛ لما في ذلك من كمال الأدب مع حضرته صلى الله عليه وآله وسلم، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» رواه مسلم.
ولا يتنافى ذلك مع الامتثال المأمور به شرعًا؛ إذ الأدبُ هو عين الامتثال وحقيقته، وقد ورد في استحباب ذلك أقوال عن أئمة الهدى من الصحابة والتابعين فمن بعدهم.
المحتويات
عَلَّمَنا الله تعالى الأدب مع سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين خاطب جميع النبيين بأسمائهم، أما هو فلم يخاطبه باسمه مجردًا بل قال له: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ [المائدة: 41]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ [الأنفال: 64]، وأمرنا بالأدب معه وتوقيره فقال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفتح: 8-9]، ومِن توقيره تَسوِيدُه كما قال السُّدِّيُّ فيما ذكره القرطبي في "تفسيره" (16/ 267، ط. دار الكتب المصرية).
وقال قتادةُ: أمر الله بتسويده وتفخيمه وتشريفه وتعظيمه. أخرجه عبد بن حُمَيد وابن جرير الطبري في "التفسير" (22/ 208، ط. مؤسسة الرسالة)، وينظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 516، ط. دار الفكر).
نهانا أن نخاطبه صلى الله عليه وآله وسلم كما يخاطب بعضُنا بعضًا فقال سبحانه: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: 63]. قال قتادة: أَمَرَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُهَابَ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وآله وسلم، وَأَنْ يُبَجَّلَ وَأَنْ يُعَظَّمَ وَأَنْ يُسَوَّدَ. أخرجه ابن أبي حاتم وغيره في "التفسير" (8/ 2655، ط. مكتبة نزار الباز).
فكان حقًّا علينا أن نمتثل لأمر الله، وأن نتعلم مع حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأدبَ معه، ومن الأدب معه أن نسودَه كلما ذُكِرَ، وأن نصلي عليه كلمَّا ذُكِر، وأن لا نخاطبه باسمه مجرَّدًا عن الإجلال والتبجيل، ولا فرق بين النداء والذكر في ذلك، فكما يُشرَع استعمالُ الأدب والتوقير والتعظيم عند دعائه صلى الله عليه وآله وسلم يُشرَع كذلك عند ذكر اسمه صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة عليه من غير فرق؛ لوجود العلة في كلا الأمرين، وهي النهي عن مساواته بغيره من المخلوقين، وذلك حاصل في الذكر كما هو حاصل في الخطاب والنداء، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
أجمعت الأمة على ثبوت السيادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى عَلَمِيَّته في السيادة، قال الشرقاوي: فلفظ "سيدنا" عَلَمٌ عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وأما ما شذ به البعض للتمسك بظاهر بعض الأحاديث متوهمين تعارضها مع هذا الحكم فلا يُعتَدُّ به، ولذلك أجمع العلماء على استحباب اقتران اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة في غير الألفاظ الواردة المتعبَّد بها من قِبَل الشرع، كما اتفقوا على عدم زيادتها في التلاوة والرواية: أما التلاوة: فإن القرآن كلام الله تعالى لا يجوز أن يزاد فيه ولا أن ينقص منه، ولا يقاس كلام الله تعالى على كلام خلقه. وأما الرواية: فإنها حكاية للمَرْوِيِّ وشهادة عليه؛ فلا بُدَّ من نقلها كما هي.
أما بالنسبة للوارد: فمذهب جمهور العلماء والمحققين من أتباع المذاهب الفقهية المعتمَدة وغيرهم أنه يُستحَبُّ اقترانُ الاسم الشريف بالسيادة أيضًا في الأذان والإقامة والصلاة، بناءً على أن الجمع بين الأدب والاتباع أولى من الاقتصار على الاتباع؛ لأن الجمع أولى من الترجيح، وفي الأدب اتِّباعٌ للأمر بتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم تُخَصَّ منه صلاةٌ ولا أذانٌ ولا إقامةٌ، وقد علَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُمَّتَه الأدبَ معه حيث أخبر بالسيادة عن نفسه الشريفة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال لمن خاطبوه بقولهم: أنت سيدنا: «قُولُوا قَوْلَكُمْ، وَلَا يَسْتَجِرَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» رواه الإمام أحمد واللفظ له وأبو داود وغيرهما.
فأقرَّ ذكر السيادة ونبَّه على صحة المعنى بالتحذير من إهمال الفرق بين سيادة المخلوق والسيادة المطلَقة للخالق سبحانه من جهة أخرى، وخوطب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بـيا سَيِّدِي فأقر ذلك ولم ينكره؛ فعن سَهْلِ بْنَ حُنَيْفٍ رضي الله عنه، قال: مَرَرْنَا بِسَيْلٍ، فَدَخَلْتُ فَاغْتَسَلْتُ فِيهِ، فَخَرَجْتُ مَحْمُومًا، فَنُمِيَ ذَلِكَ إِلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا ثَابِتٍ يَتَعَوَّذ»، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي! وَالرُّقَى صَالِحَةٌ؟ فَقَالَ: «لا رُقْيَةَ إِلا فِي نَفْسٍ أَوْ حُمَةٍ أَوْ لَدْغَةٍ» رواه الإمام أحمد في "مسنده" وأبو داود في "سننه" والنسائي في "عمل اليوم والليلة" والحاكم في "المستدرك" وقال: [هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه] اهـ.
وفي إقراره صلى الله عليه وآله وسلم لذلك إِذْنٌ منه في خطابه وذِكْرِه بذلك وأنه أمر مشروع، ولا فرق في ذلك بين أن يكون داخل الصلاة أو خارجها، بل ذلك في الصلاة أَولى؛ لأن الشرع راعى الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة بصورة مؤكَّدة، فشرع للمصَلِّي مخاطبة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم داخلَ الصلاة وجعلها تبطل بمخاطبة غيره، وأوجب الله تعالى على المصلِّي أن يجيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خاطبه أثناءها ولا تبطل بذلك صلاتُه؛ مبالغةً في الأدب معه صلى الله عليه وآله وسلم، ومراعاةً لحرمته وجنابه الشريف، وهذا جارٍ أيضًا في الأذان والإقامة، فتخصيصُهما من ذلك لا دليل عليه بل هو على عمومه.
وإذا قيل بالترجيح بينهما فالأدب مقدَّم على الاتباع، كما ظهر ذلك في موقف سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في صلح الحديبية حيث رفض أن يمحو كلمة رسول الله عندما أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحوها؛ تقديمًا للأدب على الاتباع، وظهر ذلك أيضًا في تقهقر سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الصلاة بعد أَمرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يبقى مكانه وقال له بعد الصلاة: ما كانَ لابنِ أبي قُحافةَ أَن يَتَقَدَّمَ بينَ يَدَي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا هو المعتمد عند الشافعية كما نص عليه الجلال المحلي، والشيخان: ابن حجر والرملي، وعند الحنفية كما أفتى به العلامة القحفازي واعتمده البرهان الحلبي والإمام الحَصْكَفي والطحطاوي، وعند المالكية كما قال الإمام العارف ابن عطاء الله السكندري وجزم به القاضي ابن عبد السلام وأبو القاسم البرزلي واعتمده الإمام الحطَّاب والأُبِّيُّ، ونقله ابن المنذر عن الإمام إسحاق بن راهويه في صلاة الجنازة.
فيما يلي بعض النصوص والفتاوى الفقهية في ذلك:
فمن أهل الحديث: الإمام المجتهد إسحاق بن راهويه كما نقله الإمام أبو بكر بن المنذر في كتابه "الأوسط" (5/ 433، ط. دار طيبه) من استحباب تسويد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة عليه في صلاة الجنازة، فقال: [وقال إسحاق: إذا كبَّر الثانية صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأحبُّ الصلاة إلينا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما وصفه ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأنه أجمل ما جاء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاتَكَ وَبَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى إِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وَسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إِمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ، اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مقامًا محمودًا، يغبطه الأولون والآخرون"] اهـ.
ومن السادة الحنفية: العلامة علاء الدين الحَصْكَفي حيث يقول في "الدر المختار شرح تنوير الأبصار" (1/ 513، ط. دار الفكر): [ونُدِبَ السِّيَادَةُ؛ لأن زيادة الإخبار بالواقع عَينُ سلوك الأدب، فهو أفضل مِن تركه. ذكره الرملي الشافعي وغيره، وما نُقِل: لا تُسَوِّدُونِي في الصَّلاةِ. فكذِبٌ، وقولُهم: لا تُسَيِّدُوني بالياء لحنٌ أيضًا، والصواب بالواو] اهـ. وقرر ذلك العلامة ابن عابدين في حاشيته عليه، وردَّ اعتراض مَن ادَّعى مخالفة ذلك لمذهب الحنفية.
ومن السادة المالكية: الإمام العارف بالله تعالى أبو الفتح ابن عطاء الله السكندري حيث يقول في "مفتاح الفلاح" (48، ط. دار الكتب العلمية): [وإياك أن تترك لفظ السيادة؛ ففيها سرٌّ يظهر لمَن لازم هذه العبادة] اهـ.
وقال الإمام الأُبِّيُّ المالكي في "إكمال المُعلِم لفوائد كتاب مسلم" (7/ 189، ط. دار الوفاء): [وما يُستَعمَل من لفظ السيد والمَولَى حَسَنٌ وإن لم يَرِدْ، والمستَنَد فيه ما صحَّ من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ». واتفق أن طالبًا يُدعَى بابن غمرين قال: لا يُزاد في الصلاة على سيدنا، قال: لأنه لم يَرِد، وإنما يُقال: على محمد، فنقمها عليه الطلبة، وبلغ الأمر إلى القاضي ابن عبد السلام، فأرسل وراءه الأعوان، فتخفَّى مدةً ولم يخرج حتى شفع فيه حاجب الخليفة حينئذٍ فخلَّى عنه، وكأنه رأى أن تغيُّبه تلك المدة هي عقوبته] اهـ بتصرف.
وقال الإمام الحطَّاب المالكي في أول شرحه "مواهب الجليل" (1/ 21، ط. دار الفكر) بعد أن نقل عن الأُبِّي ما سبق: [وذكر البرزلي عن بعضهم أنه أنكر أن يقولها يعني لفظ السيد أحدٌ، ثم قال: وهذا إن صح عنه غاية الجهل، قال: واختار شيخ شيوخنا المجد اللغوي صاحب "القاموس" ترك ذلك في الصلاة؛ اتِّباعًا لِلَفظ الحديث، والإتيانَ به في غير الصلاة، وذكر الحافظ السخاوي في "القول البديع" كلامَه، وذكر عن ابن مفلح الحنبلي نحو ذلك، وذَكَرَ عن الشَّيخِ عِزِّ الدِّينِ بنِ عبدِ السَّلامِ أَنَّ الإتيانَ بها في الصَّلاةِ يَنبَنِي على الخِلافِ: هل الأَولَى امتِثالُ الأَمرِ أو سُلُوكُ الأَدَبِ؟ قُلت: والذي يَظهَرُ لي وأَفعَلُه في الصَّلاةِ وغيرِها الإتيانُ بلَفظِ السَّيِّدِ. والله أعلم] اهـ.
قال الإمام أبو عبد الله محمد العربي بن أحمد بردلة المالكي في "نوازله" تعقيبًا على ذلك: [والذي اختاره الشيخ الحطَّاب هو ما عليه الناس] اهـ.
وقال السملالي في "نوازله": [الأَوْلى والمؤكَّد ذكر السيادة مطلقًا. والله أعلم. نص على ذلك الشيخ ابن عطاء الله والإمام الحطَّاب، وأَلَّف القسنطيني على ذلك، وغيرهم ممن لا يُحصَى كثرةً، وهو المعَّول عليه] اهـ.
ومن السادة الشافعية: قال العلامة الجلال المحلي: [الأدب مع مَن ذُكِرَ مطلوبٌ شرعًا بذكر السيد، ففي حديث الصحيحين: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكم». أي سعد بن معاذ، وسيادتُه بالعلم والدين، وقول المصلي: اللهم صَلِّ على سيدنا محمد. فيه الإتيان بما أُمِرنا به وزيادةُ الإخبار بالواقع الذي هو أدب، فهو أفضل مِن تركه فيما يظهر من الحديث السابق، وإن تردد في أفضليته الشيخ جمال الدين الإسنوي، وذَكَر أنَّ في حفظه قديمًا أنَّ الشيخ ابن عبد السلام بناه على أنَّ الأفضل سلوك الأدب أو امتثال الأمر، وأما حديث: «لا تُسَيِّدُوني في الصلاة». فباطل لا أصل له كما قاله بعض متأخري الحفاظ] اهـ. ينظر: "حاشيتا قليوبي وعميرة على شرح الجلال المحلي" (1/ 190، ط. دار الفكر)، وأيضًا "الدر المنضود" لابن حجر الهيتمي (ص: 134، ط. دار المنهاج).
وقال العلامة شمس الدين محمد الرملي في "نهاية المحتاج" (1/ 530، ط. دار الفكر): [والأفضل الإتيان بلفظ السيادة، كما قاله ابن ظهيرة وصرَّح به جَمعٌ، وبه أفتى الشارح -يعني الجلال المحلي-؛ لأن فيه الإتيان بما أُمِرنا به وزيادةَ الإخبارِ بالواقع الذي هو أدب، فهو أفضل مِنْ تَرْكِه، وإن تردد في أفضليته الإسنوي] اهـ.
قال العلامة نور الدين علي الشَّبْرَامَلِّسِي في "حاشيته عليه" (1/ 530، ط. دار الفكر): [قولُه: لأَنَّ فيه الإتيانَ... إلَخ يُؤخَذُ مِن هذا سَنُّ الإتيانِ بلَفظِ السِّيادةِ في الأَذانِ، وهو ظاهِرٌ؛ لأَنَّ المَقصُودَ تَعظِيمُه صلى الله عليه وآله وسلم بوَصفِ السِّيادَةِ حيثُ ذُكِرَ. لا يُقالُ: لم يَرِد وَصفُهُ بالسِّيادةِ في الأَذانِ؛ لأَنَّا نَقُولُ كذلكَ هنا، وإنَّما طُلِبَ وَصفَه بها للتَّشرِيفِ، وهو يَقتَضِي العُمُومَ في جَمِيعِ المَواضِعِ التي يُذكَرُ فيها اسمُه علَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ] اهـ.
ومن غير أصحاب المذاهب الفقهية: يقول العلامة محمد بن علي الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/ 337، ط. دار الحديث): وقد رُوِيَ عن ابن عبد السلام أنه جعله من باب سلوك الأدب، وهو مبني على أن سلوك طريق الأدب أحب مِن الامتثال، ويؤيده حديث أبي بكر حين أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يثبت مكانه فلم يمتثل وقال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدَي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك امتناع علي رضي الله عنه عن محو اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن الصحيفة في صلح الحديبية بعد أن أمره بذلك، وقال: لا أمحو اسمَك أبدًا، وكلا الحديثين في الصحيح؛ فتقريره صلى الله عليه وآله وسلم لهما على الامتناع مِن امتثال الأمر تأدُّبًا مُشعِرٌ بأَولَوِيَّتِه] اهـ.
بينما يرى بعض العلماء أولوية الاقتصار في الألفاظ المتعبَّد بها على ما ورد؛ اتباعًا للَّفظ الوارد وفِرارًا مِن الزيادة فيه، واحتجوا بعدم ورود ذلك عن الصحابة والتابعين والسلف الصالحين، وأن ذلك لو كان راجحًا لورد عنهم. ومن الفقهاء المتأخرين من قال بأفضليتها في التشهد وتركها في الأذان من غير تحريم. والخلاف إنما هو في الأفضلية لا في الجواز؛ فإن الجميع متفقون على جواز كلا الأمرين، بل إنهم عَدُّوا دعوى التحريم مستوجِبةً للعقوبة كما سبق، ومن ادَّعى التحريم من المتأخرين فهو محجوجٌ بذلك وبأنهم قطعوا بغلط من ادَّعى بطلان الصلاة بذكرها.
أجاب الجمهور عن ما احتج به مَنْ رَجَّحَ ترك السيادة بأجوبة منها:
1- أن كثيرًا من العبادات الشرعية تؤخَذ أحكامها من الأدلة الشرعية المتعددة، منها ما يدل عليها بخصوصه، ومنها ما يدل بعمومه، ومنها ما يدل بمنطوقه، ومنها ما يدل بمفهومه، ولا توجد أحكامها مجموعةً في دليل واحد، فألفاظ التشهد والأذان جاءت في موضع، والأمر بتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسويده اعتقادًا ونطقًا إذا خوطب أو ذُكِرَ جاء في موضع آخر، وليس في كلا الأمرين ما ينافي الآخر؛ فاستحباب التسويد خرج مخرج التعميم، ولم يرد في الشرع ما يُخرِج الأذانَ والإقامةَ والصلاةَ من ذلك، ولا يُلجَأ إلى الترجيح إلا عند تعذُّر الجمع، بل يُحمَل المطلَق على المقيَّد، والجمع بين الدليلين مقدَّم على العمل بأحدهما، فتعين العمل بالأمرين معًا.
2- أن غاية ما في الأمر أنَّ ترك ذِكرِها في ألفاظ الأذان والإقامة والتشهد في السنة النبوية الشريفة قولًا وتقريرًا يدل على عدم وجوبها لا على عدم مشروعيتها؛ فلا يصح الاحتجاج بمجرد الترك على التحريم أو الكراهة أو البدعية، لا سيما فيما له أصل صحيح متقررٌ في الشرع لا مخصِّصَ له كتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كان ذلك الترك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من صحابته الكرام.
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: [كل ما له مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به السلف؛ لأن تركهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت، أو لِمَا هو أفضل منه، أو لعله لم يبلغ جميعَهم عِلْمٌ به] اهـ. نقلًا عن "حسن التفهم والدرك لمسألة الترك" للحافظ عبد الله بن الصِّدِّيق الغماري.
3- أن ذكر السيادة عند اسم الشخص المشرَّف والموقَّر من تمامه وكماله عادةً وعرفًا، سواءٌ في ذلك مخاطبتُه في حضورِه وذكرُه في غيبته، كما أن ترك ألقاب التوقير مما يُلام عليه بحيث قد يتهم فاعل ذلك بمخالفة الأدب، وخاصة في هذه العصور المتأخرة التي صار ذكر السيادة في عرف أهلها من لوازم التقدير والاحترام، وقد جاء الشرع الشريف باعتبار العرف فيما لا يخالف الشرع، فقال سبحانه وتعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ [الأعراف: 199].
4- أن دعوى عدم الورود ليست صحيحة؛ فقد وردت السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصحابيين الجليلين عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم: فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَأَحْسِنُوا الصَّلاةَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّكُمْ لا تَدْرُونَ لَعَلَّ ذَلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: فَعَلِّمْنَا، قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاتَكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إِمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ، اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُهُ بِهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ". رواه ابن ماجه في "السنن" وأبو يعلى في "مسنده" والطبراني في "المعجم الكبير"، وحسَّنه الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" والإمام البوصيري في "إتحاف الخِيَرَة"، وصححه الحافظ مغلطاي.
قال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "الدر المنضود" (ص: 134، ط. دار المنهاج): [وهو شامل للصلاة وخارجها] اهـ.
ونَقْل ابن المنذر عن الإمام إسحاق بن راهويه فيما سبق يقتضي إثباته لهذه الرواية وصحة العمل بها. والرواية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رواها أحمد بن منيع في "مسنده" وإسماعيل بن إسحاق القاضي في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم"، بلفظ صلاة ابن مسعود رضي الله عنه.
5- والجواب عمن قصر الأفضلية على التشهد دون الأذان أن الدليل الشرعي الخارجي الذي دلَّ على استحباب ذكر السيادة في التشهد مع عدم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها فيه دالٌّ أيضًا على استحباب ذكرها في الأذان والإقامة من غير فرق، كما أن المقصود الأعظم من الأذان الإعلامُ بدخول وقت الصلاة، وهذا المقصود لا ينافيه التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه بذكر سيادته الدالَّة على تعظيمه وشرف قدره صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد ألَّف العلامةُ شهاب الدين أحمد بن يونس الحِميَرِي القُسَنْطيني الجزائري المغربي المالكي رسالة في "ترجيح ذِكر السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وغيرها"، كما ذكر الحافظ السخاوي في ترجمته مِن "الضوء اللامع"، وجاء العلامة الحافظ أبو الفيض أحمد بن الصِّدِّيق الغماري الحَسَنِي رحمه الله فألف في هذه المسألة كتابًا حافلًا ماتعًا سماه "تشنيف الآذان بأدلة استحباب السيادة عند ذكر اسمه صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة والإقامة والأذان"، جَمَع فيه كلَّ ما يتعلق باستحباب ذِكر الاسم الشريف مقترنًا بالسيادة، مقرِّرًا أنه لا تَنافي بين الأدب والاتباع؛ لأن في السيادة اتباعًا للأمر بتوقيره صلى الله عليه وآله وسلم والنهي عن مخاطبته كما يخاطِب الناسُ بعضهم بعضًا، وليس في الشرع نهي عن تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأذان أو الصلاة، بل من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم أنه هو وحده الذي يمكن أن يخاطبه المصلي دون أن يخرج من صلاته كما سبق.
مما سبق ومِن النظر في كتب المذاهب الفقهية المعتمَدة يُعلَم أنه ذهب إلى استحباب تقديم لفظ سيدنا قبل اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة والأذان والإقامة وغيرها من العبادات جمهور فقهاء المذاهب الفقهية وغيرهم، وهذا هو ما عليه الفتوى، فالأدب مقدم دائمًا معه صلى الله عليه وآله وسلم، هذا عن الأفضلية.
أما عن الجواز فكلا الأمرين جائز، والأمر في ذلك واسع، وليس لفريق أن ينكر على الآخر في الأمور الخلافية التي وَسِع مَن قَبلَنا الخلافُ فيها، والتنازعُ مِن أجل ذلك لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى ذلك فليس تسويدُه صلى الله عليه وآله وسلم في الأذان والإقامة والتشهد مخالفًا للشرع، بل فاعل ذلك محمود ومثاب على فعله هذا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.