ما الحكم الشرعي في الموسيقى منفردة معزولة عن أي لون من ألوان الفنون التي تصاحبها عادة بعد أن أُثير هذا واختلف بين محرم ومبيح؟
يجوز شرعًا الاستماع إلى الموسيقى بسائر أشكالها بشرط ألا يقارنها ما هو محرمٌ شرعًا كشرب الخمر أو الغناء الماجن، وبشرط ألَّا تكون مما يحرك الغرائز المحرمة ويبعث على الفسوق، وقد ورد في جوازها بهذه الشروط جملة من الآثار والروايات في كتب السنَّة ونُقُول الأئمة، حتى إن بعض الأئمة أفرد التصنيف بجوازها، وعلى ذلك يدل ظاهر النصوص القرآنية؛ كنحو قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: 32]، وقوله تعالى في الآية التي بعدها: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ إلى آخر الآية الكريمة [الأعراف: 32-33].
نقل ابن القيسراني في كتابه "السماع" (ص31، ط. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية) قول الإمام الشافعي: [الأصل قرآن وسنة، فإن لم يمكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصح الإسناد فيه فهو سنة، والإجماع أكبر من خبر المنفرد، والحديث على ظاهره وإذا احتمل الحديث معاني فما أشبه منها ظاهره أَوْلاها به، فإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادًا أولاها، وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيب] اهـ.
وفي هذا الكتاب أيضًا (ص63): [وأما القول في استماع القضيب والأوتار، ويقال له: التغبير، ويقال له: الطقطقة أيضًا، فلا فرق بينه وبين الأوتار إذ لم نجد في إباحته وتحريمه أثرًا لا صحيحًا ولا سقيمًا، وإنما استباح المتقدمون استماعه؛ لأنه مما لم يرد الشرع بتحريمه فكان أصله الإباحة، وأما الأوتار فالقول فيها كالقول في القضيب لم يرد الشرع بتحريمها ولا بتحليلها، وكل ما أوردوه في التحريم فغَيْرُ ثاَبتٍ عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صار هذا مذهبًا لأهل المدينة لا خلاف بينهم في إباحة استماعه، وكذلك أهل الظاهر بنوا الأمر فيه على مسألة الحظر والإباحة] اهـ.
وأما القول في المزامير والملاهي، فقد وردت الأحاديث الصحيحة بجواز استماعها، كما يدل على الإباحة قول الله عز وجل: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [الجمعة: 11]، وبيان هذا من الأثر ما أخرجه مسلم في (باب الجمعة) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب قائمًا، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائمًا، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب؛ فقد والله صليت معه أكثر من ألف صلاة"، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أنه كان يخطب قائمًا يوم الجمعة، فجاءت عير من الشام، فأقبل الناس إليها حتى لم يبقَ إلا اثنا عشر رجلًا، فأُنزلت هذه الآية".
وأخرج الطبري هذا الحديث عن جابر رضي الله عنه، وفيه: [كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرُّون بالكبر والمزامير ويتركون النبيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم قائمًا على المنبر، وينفضون إليها، فأنزل الله هذه الآية] اهـ.
ثم قال ابن القيسراني (ص72): [والله عز وجل عطف اللهو على التجارة، وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه، وبالإجماع تحليل التجارة، فثبت أن هذا الحكم مما أقره الشرع على ما كان عليه في الجاهلية؛ لأنه غير محتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرَّمه ثم يمرُّ به على باب المسجد يوم الجمعة ثم يعاتب الله عز وجل من ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائمًا وخرج ينظر إليه ويستمع، ولم ينزل في تحريمه آية ولا سنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه سُنَّة، فعلمنا بذلك بقاءه على حاله، ويزيد ذلك بيانًا ووضوحًا، ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها "أنها زَفَّت امرأة من الأنصار إلى رجل من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أما كان معكن من لهو؛ فإن الأنصار يعجبهم اللهو». وهذا الحديث أورده البخاري في "صحيحه" في "كتاب النكاح"] اهـ.
وقد عقد الغزالي في كتاب "إحياء علوم الدين" الكتاب الثامن في السماع، وفي خصوص آلات الموسيقى قال: [إن الآلة إذا كانت من شعار أهل الشرب أو المخنثين، وهي المزامير والأوتار وطبل الكوبة، فهذه ثلاثة أنواع ممنوعة، وما عدا ذلك يبقى على أصل الإباحة؛ كالدف وإن كان فيه الجلاجل، وكالطبل والشاهين والضرب بالقضيب وسائر الآلات] اهـ.
ونقل القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 54، ط. دار الكتب المصرية) قول القشيري: [ضُرِبَ بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم دخل المدينة، فهمَّ أبو بكر رضي الله عنه بالزَّجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح». فكنَّ يضربْنَ ويقُلْنَ: نحن بنات النجار حبذا محمد من جار -ثم قال القرطبي- وقد قيل: إن الطبل في النكاح كالدف، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث] اهـ. ويُنظر في نفس المعنى "أحكام القرآن" لابن العربي (3/ 526، ط. دار الكتب العلمية).
ونقل الشوكاني في "نيل الأوطار" (8/ 118، ط. دار الحديث) في (باب ما جاء من آلة اللهو) أقوال المحرِّمين والمبيحين، وأشار إلى أدلة كلٍّ من الفريقين، ثم عقَّب على حديث: «كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه» رواه الدارمي، بقول الغزالي: [قلنا: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فهو باطل» لا يدل على التحريم، بل يدل على عدم الفائدة -ثم قال الشوكاني- وهو جواب صحيح؛ لأن ما لا فائدة فيه من قسم المباح] اهـ.
وساق أدلة أخرى في هذا الصدد، من بينها حديث "مَن نَذَرَت أن تضرب بالدف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن رده الله سالمًا من إحدى الغزوات، وقد أذن لها عليه صلوات الله وسلامه بالوفاء بالنذر والضرب بالدف". فالإذن فيه يدل على أن ما فعلته ليس بمعصية في مثل ذلك الموطن.. وأشار الشوكاني إلى رسالة له؛ عنوانها: "إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع".
وفي "المحلى" (7/ 567، ط. دار الفكر) لابن حزم: [أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى». فمن نوى استماع الغناء عونًا على معصية الله تعالى فهو فاسق، وكذلك كل شيء غير الغناء، ومن نوى به ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل وينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن، وفعله هذا من الحق، ومن لم ينوِ طاعةً ولا معصية فهو لغو معفو عنه، كخروج الإنسان إلى بستانه متنزهًا، وقعوده على باب داره متفرجًا] اهـ.
وعقد البخاري في "صحيحه" بابًا بعنوان (كل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله)، وعقب القسطلاني في "إرشاد الساري" (9/ 171، ط. الأميرية) على هذا العنوان بقوله: [ولو كان مأذونًا فيه؛ كمن اشتغل بصلاة نافلة أو تلاوة أو ذكر أو تفكَّر في معاني القرآن الكريم حتى خرج وقت المفروضة عمدًا] اهـ.
وفي الفقه الحنفي: جاء في كتاب "البدائع" للكاساني (6/ 269، ط. دار الكتب العلمية)، فيمن تُقبل شهادته ومن لا تقبل: [وأما الذي يضرب شيئًا في الملاهي فإنه ينظر إن لم يكن مستشنعًا كالقضيب والدف ونحوه لا بأس به ولا تسقط عدالته، وإن كان مستشنعًا كالعود ونحوه سقطت عدالته؛ لأنه لا يحل بوجه من الوجوه] اهـ.
وفي "مجمع الأنهر" (2/ 198، ط. دار إحياء التراث العربي) في ذات الموضع: [أو يلعب بالطنبور؛ لكونه من اللهو، والمراد بالطنبور كل لهو يكون شنيعًا بين الناس، احترازًا عمَّا لم يكن شنيعًا كضرب القضيب، فإنه لا يمنع قبولها، إلا أن يتفاحش بأن يرقصوا به فيدخل في حد الكبائر] اهـ. وجاء في مثل هذا في كتاب "الدر المختار" للحصكفي وحاشيته "رد المحتار" لابن عابدين، (5/ 482، ط. دار الفكر).
وفي "المغني" لابن قدامة (10/ 153، ط. مكتبة القاهرة): [الملاهي على ثلاثة أضرب، محرَّم: وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها، والعود والطنبور والمعزفة والرباب ونحوها، فمن أدام استماعها ردَّت شهادته... وضرب مباح: وهو الدف، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف» أخرجه مسلم، وذكر أصحابنا وأصحاب الشافعي أنه مكروه في غير النكاح، وهو مكروه للرجال على كل حال. وأما الضرب بالقضيب فمكروه إذا انضم إليه محرَّم أو مكروه كالتصفيق والغناء والرقص، وإن خلا عن ذلك كله لم يُكرَه؛ لأنه ليس بآلة طرب ولا يطرب ولا يسمع منفردًا بخلاف الملاهي، ومذهب الشافعي في هذا الفصل كمذهبنا] اهـ.
وفي لسان العرب (15/ 278، ط. دار صادر): [اللهو ما لهوت به ولعبت به وشغلك من هوًى وطرب ونحوهما... والملاهي آلات اللهو، ومنه القضيب: كل نبات ذي أنابيب، والقاصب الزامر، والقصابة المزمار] اهـ.
وفي "المصباح المنير" (2/ 559، ط. المكتبة العلمية): [أصل اللهو: الترويح عن النفس بما لا يقتضيه الحكم، وألهاني الشيء: شغلني] اهـ.
وفي فتوى للإمام الأكبر المرحوم الشيخ محمود شلتوت (ص375-385، ط. الإدارة الثقافية بالأزهر) في تعلم الموسيقى وسماعها: [إن الله خلق الإنسان بغريزة يميل بها إلى المستلذات والطيبات التي يجد لها أثرًا في نفسه، به يهدأ وبه يرتاح، وبه ينشط وتسكن جوارحه، فتراه ينشرح بالمناظر الجميلة: كالخضرة المنسقة، والماء الصافي، والوجه الحسن، والروائح الزكيَّة، وإن الشرائع لا تقضي على الغرائز بل تنظمها، والتوسط في الإسلام أصل عظيم أشار إليه القرآن الكريم في كثير من الجزئيات، منها قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: 31]، وبهذا كانت شريعة الإسلام موجهة الإنسان في مقتضيات الغريزة إلى الحد الوسط، فلم تنزل لانتزاع الغريزة في حب المناظر الطيبة ولا المسموعات المستلذة، وإنما جاءت بتهذيبها وتعديلها إلى ما لا ضرر فيه ولا شر... وأضاف الإمام الأكبر في هذه الفتوى، أنه قرأ في الموضوع لأحد فقهاء القرن الحادي عشر المعروفين فيه بالورع والتقوى رسالة هي "إيضاح الدلالات في سماع الآلات" للشيخ عبد الغني البابلي الحنفي، قرر فيها أن الأحاديث التي استند إليها القائلون بالتحريم على فرض صحتها مقيدة بذكر الملاهي، وبذكر الخمر والقينات والفسوق والفجور، ولا يكاد حديث يخلو من ذلك، وعليه كان الحكم عنده في سماع الأصوات والآلات المطربة أنه إذا اقترن بشيء من المحرمات، أو اتخذ وسيلة للمحرمات، أو أوقع في المحرمات؛ كان حرامًا، وأنه إذا سلم من كل ذلك كان مباحًا في حضوره وسماعه وتعلمه، وقد نُقِلَ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم عن كثير من الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء أنهم كانوا يسمعون ويحضرون مجالس السماع البريئة من المجون والمحرَّم، وذهب إلى مثل هذا كثيرون من الفقهاء، وانتهت الفتوى إلى أن سماع الآلات ذات النغمات أو الأصوات الجميلة لا يمكن أن يحرَّم باعتباره صوت آلة، وإنما يحرَّم إذا استعين به على محرم، أو اتخذ وسيلة إلى محرم، أو أَلْهى عن واجب] اهـ.
ونخلص من هذه النقول من كتب فقه المذاهب وأحكام القرآن والسنة إلى أن الضرب بالدف وغيره من الآلات مباح باتفاق في الحداء، وفي تحريض الجند على القتال، وفي العرس، وفي العيد، وقدوم الغائب، وللتنشيط على الأعمال الهامة، وأن الاختلاف الذي ثار بين الفقهاء وجرى في كتبهم كان في حل أو عدم حلِّ الاشتغال بالموسيقى سماعًا وحضورًا وتعلُّمًا إذا صاحَبَهَا محرَّمٌ؛ كشرب الخمر أو غناء ماجن أو غزل أو كانت الموسيقى مما يحرك الغرائز ويبعث على الهوى والفسوق، كتلك التي تستثير في سامعها الرقص والخلاعة، وتلك التي تستعمل في المنكرات المحرمات كالزار وأفعاله، أو فوَّتَتْ واجبًا، وهذا ظاهر مما قاله فقهاء المذهب الحنفي من أن الضرب غير المستشنع لا بأس به، ولا يسقط العدالة، وفسروا المستشنع بأن يرقصوا به فيدخل في حد الكبائر.
وظاهر أيضًا مما قال به ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن": [من أن الطبل في النكاح كالدف، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن رفثًا] اهـ، ومن جملة ما قال به ابن قدامة في "المغني" نقلًا لمذهب الإمامين الشافعي وأحمد في هذا الموطن يتضح أنه لا يخالف أو يختلف مع ما قال به الفقه الحنفي والمالكي، وما أورده من قيود، ثم إن ما جاء في عبارات الفقهاء من إجازة الضرب ببعض الآلات دون بعض يبدو أن المنع في بعضها إنما هو للآلات التي تدفع سامعها لفحش القول أو الرقص، وليس لذات الآلات، كما يدل على هذا قول فقهاء الحنفية الذي سبق نقله، وما قال به الفقه الحنبلي والشافعي من انضمام المحرم أو المكروه كالتصفيق والرقص هو المحرم، وما قال به ابن العربي المالكي ولم يكن معه رفث.
لَمَّا كان ذلك وكانت القضية قد واجهها الفقه على هذا الوجه وتصدى لتحقيق النصوص فيها صاحب "كتاب السماع" وهو محمد بن طاهر بن علي بن أحمد بن أبي الحسن الشيباني أبو الفضل المقدسي المعروف بابن القيسراني من رجال الحديث، وقال: [إنه لا فرق بين استماع القضيب وبين الأوتار؛ إذ لم نجد في إباحته وتحريمه أثرًا لا صحيحًا ولا سقيمًا، وإنما استباح المتقدمون استماعه؛ لأنه لم يرد الشرع بتحريمه فكان أصله الإباحة] اهـ.
كما تصدى لذلك الشيخ عبد الغني البابلي الحنفي في "رسالته" المنوَّه بها آنفًا التي قرَّر فيها أن الأحاديث التي استدل بها القائلون بالتحريم على فرض صحتها مقيَّدة بذكر الملاهي وبذكر الخمر والقينات والفسوق والفجور ولا يكاد حديث يخلو من ذلك. وهذا أيضًا قول ابن حزم: [أن الأمر مرتبط بالنية؛ فمن نوى ترويح نفسه وتنشيطها للطاعة فهو مطيع محسن، ومن لم ينوِ لا طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه، كخروج الإنسان إلى بستانه متنزهًا وقعوده على باب داره متفرجًا] اهـ.
وأيضًا قول الغزالي فيما نقله الشوكاني في تفسير الحديث الشريف: «كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل» لا يدل على التحريم، بل يدل على عدم الفائدة، وما لا فائدة فيه مِن قسم المباح كما قال الشوكاني: [لما كان ذلك كان القول بالتحريم على وجه الإطلاق خاليًا من السند الصحيح] اهـ، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ [النحل: 117]، والقول بأن تحريم سماع الموسيقى وتعلمها وحضورها من باب "سدِّ الذرائع" أو من باب "أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" ليس مقبولًا؛ لأن الموسيقى وإن كان قد يصاحبها الخمر والرقص وغير هذا من المنكرات إلا أن هذا ليس الشأن فيها دائمًا، ومن ثَمَّ صار مثلها مثل الجلوس على الطريق.
ففي "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إياكم والجلوس بالطرقات» فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: «فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه»، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غضُّ البصر وكفُّ الأذى وردُّ السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
ومن هذا نأخذ أن من المباحات ما يحرم إذا اقترن به محرم، وعندئذٍ تكون الحرمةُ طارئة، بمعنى أنها ليست حكمًا أصليًّا، لما كان ذلك كان الوقوف عند الوسط من الأقوال هو الأولى بالاتباع، ومن ثَمَّ نميل إلى أن سماع الموسيقى وحضور مجالسها وتعلمها أيًّا كانت آلاتها من المباحات ما لم تكن محركة للغرائز باعثة على الهوى والغواية والغزل والمجون مقترنة بالخمر والرقص والفسوق والفجور، أو اتخذت وسيلة للمحرمات أو أوقعت في المنكرات أو ألهت عن الواجبات كما جاء في تبويب البخاري، فإنها في هذه الحالات تكون حرامًا؛ كالجلوس على الطريق دون حفظ حقوقه التي بيَّنها ذلك الحديث الشريف؛ لأن الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله.
وقال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 32-33]، قال ابن العربي في "أحكام القرآن" (2/ 311، ط. دار الكتب العلمية): [من معاني ﴿زِينَةَ اللهِ﴾: جمال الدنيا في ثيابها وحسن النظرة في ملابسها وملذاتها] اهـ.
وقال تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾، قال الشوكاني: الطيبات في الآية تشمل كل طيب، والطيب يطلق بإزاء المستلذِّ، وهو الأكثر المتبادر إلى الفهم عند التجرد من القرائن، ويطلق بإزاء الظاهر والحلال، وصيغة العموم كلية تتناول كل فرد من أفراد العام، فتدخل أفراد المعاني الثلاثة كلها، ولو قصرنا العام على بعض أفراده لكان قصره على المتبادر وهو الظاهر، وقد صرح ابن عبد السلام في "دلائل الأحكام" أن المراد في الآية بالطيبات المستلذات.
والله سبحانه وتعالى أعلم.