هل استخدام الكحوليات في التعقيم والعمليات الجراحية حلالٌ أم حرام؟
يجوز شرعًا استخدام الكحول في مواد التعقيم والعمليات الجراحية وغيرها من المنتجات ذات الاستخدامات النافعة؛ لأن الأصل في الأعيان الطهارة، والكحول بمجرده ليس خمرًا فلا يكون نجسًا، وإنما حرُم تناوله للضرر؛ فهو مادة سامة وليس من شأنها أن تُشرب في الأحوال العادية بقصد الإسكار، ولا يلزم من كون الشيء محرمًا أن يكون نجسًا، كما لا يلزم من كونه هو العنصرَ المسبب للإسكار في الخمر أن يكون نجسًا أو حرامًا عند انفراده في سائل آخر غير الخمر؛ لأنه لا يلزم من نجاسةِ مُركَّبٍ نجاسةُ عناصره.
المحتويات
الصحيح الذي تقتضيه قواعد المذاهب الفقهية المتبوعة أن الكحول في نفسه ليس نجسًا، وأنه يجوز استعماله في مواد التعقيم والعطور والمنظفات والأدوية وغير ذلك من الاستخدامات النافعة، وأن الإنسان إذا صلَّى وهو مُلابِسٌ له فصلاته صحيحة؛ وذلك لِمَا يأتي:
1- من المقرر شرعًا أن الأصل في الأعيان الطهارة، ومع أنه يحرم شرب الكحول، لكن لا يلزم من كون الشيء محرمًا أن يكون نجسًا؛ لأن التنجيس حكم شرعي لا بد له من دليلٍ مستقلٍّ؛ فإن المخدرات والسموم القاتلة محرَّمة مع كونها طاهرة؛ لأنه لا دليل على نجاستها.
ولذلك كان من الضوابط الفقهية أنَّ: "النجاسة ترجع للتحريم كما أن الطهارة ترجع للإباحة" كما نصَّ على ذلك الإمام القرافي في "الفروق" (2/ 35، ط. عالم الكتب)، والتحريم لا يستلزم النجاسة؛ فكل نجس محرَّمٌ، ولا عكس.
2- الشافعية يجعلون إطلاق الخمر حقيقةً على ما اتُّخِذ للإسكار من عصير العنب، ويشترطون لنجاسته كونَه ذا شدة مطربة، بينما يشترط الحنفية أن يَقْذِف بالزَّبد، ثم ألحق الشافعية ما في معناه مما اتُّخِذ للإسكار من غير عصير العنب وكان ذا شدة مطربة، وألحقوه بالخمر المتخذ من عصير العنب في التحريم والنجاسة، أما الحنفية فيرون أن ما أسكر من غير عصير العنب ليس نجسًا وإن كان حرامًا من جهة التناول، وعلى ذلك إنما حرُم تناول السُّم لأنه مهلك وضار، فالكحول طاهر؛ كطهارة الحشيش والأفيون وكل ضار.
3 - الكحول ليس شرابًا، ولا من شأنه أن يُشرَب، ولا يلزم من كونه سائلًا أن يكون نجسًا؛ فإن المعتمد عند الشافعية أن كل شراب مسكر فهو نجس، ويعنون بكل شراب مسكر: ما كان ذا شدة مطربة، ولم يعبروا بكل سائل؛ إشارةً إلى أن مجرَّد كونه سائلًا مسكرًا لا يكفي في الحكم بنجاسته، بل لا بد أن يكون شرابًا -أي من شأنه أن يُشرَب- لا مجرد كونه على حالة سائلة، وهو ما يُفهَم أيضًا من تعبيرهم بالاعتصار وهو افتعال من العصير، ومن تعبيرهم بالأنبذة التي هي جمع نبيذ، وهو الماء الذي يُنتبَذُ فيه -أي يُطرَح ويلقَى- ما يهيؤه للشرب.
4 - الأصل أن المسكر المحرَّم في النصوص الشرعية هو المسكر المتعارف شربه، وأما ما لا يمكن شربه صرفًا؛ كالكحول فلا تشمله النصوص حتى يدل على ذلك دليلٌ مستقل، خاصة أنه لم يكن موجودًا بانفراده في زمن التشريع، وإنما يحرم تناوله للضرر.
5 - النجاسة حكم شرعيٌّ وليست حقيقة كيميائية، بمعنى أن كون الخمر نجسة هو حكم شرعي، وكون الكحول هو العنصر المسبب للإسكار في الخمر هو حقيقة التحليل الكيميائي، ولا يلزم من هذه الحقيقة بمجردها أن يكون الكحول نجسًا أو حرامًا عند انفراده في سائل آخر غير الخمر؛ لأنه لا يلزم من نجاسةِ مُركَّبٍ نجاسةُ بسائطه؛ فإن النجاسات المجمع عليها؛ كبول الإنسان وغائطه مركبة من عناصر كيماوية قد توجد في الأشياء الطاهرة بل في الطعام والشراب، وإنما جاءت النجاسة وحصل الاستقذار من التركيب المخصوص بالنِّسب المخصوصة.
والتَّخمُّر إنما يحصل عند وجود مادة سُكَّريَّة في العَين، وإلا فلا يمكن التَّخمر مهما طال المُكْث؛ كالحنظل.
والتَّخمُّر هو عبارة عن استحالة المادة السُّكَّريَّة إلى الكحول وحمض الكربونيك فيصير الشراب المتخمر حينئذٍ مُسْكِرًا بسبب هذا الكحول، والكحول بانفراده لا يُسكِر، لكنه يؤذي؛ فإذا شُرِبَ صِرفًا فإما أن يقع شاربُه في سبات وإما أن يذهب عقله، فإذا أريد تحويلُه للإسكار مُزِجَ بثلاثة أمثاله ماءً ثم استُقطِر فيصير عندها خمرًا؛ ففي خلط الماء به دخل في تحقق صفة الإسكار.
والمنشئ لتنوع المسكرات إنما هو اختلاف مراتب السُّكْر الحاصل من نسبة مزج الماء بالكحول زيادة ونقصانًا؛ فالعرق يشتمل على الكحول بنسبة 40% فصاعدًا، وبقية الخمور مشتملة عليه بنسبة 10%، والفقاع المتخذ من الشعير مشتمل على نسبة 5% وهكذا، والكحول بنفسه مادة سُمِّيَّة وهو لا يُنتِجُ وصفَ الإسكار بالفعل حتى يُمزج بمقدار من الماء.
6 - ولَمَّا عبَّر الإمام النووي في "المنهاج" عن النجاسة بقوله: (هي كلُّ مُسْكرٍ مائعٍ)، استشكل بعض الشافعية التقييد بالمائع؛ مُورِدًا بعض الموائع التي هي مُسكِرة ولكنها ليست نجسة؛ كالحشيش المائع.
والمجيبون عن الإمام النووي فسروا قوله: (مائع) بكونه ذا شدة مطربة، فاتفق المعترض والرادُّ على أنه ليس كل سائل مسكر يكون نجسًا وأنه شرط نجاسة السائل المسكر كونه ذا شدة مطربة.
على أن الإمام النووي عاد في باب الأشربة من "المنهاج" فعبَّر بقوله: [كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيلُه وَحُدَّ شَارِبُه] اهـ.
7 - من المقرر أنَّ الشيء إذا تغيَّرت حقيقته وتبدَّل وصفه إلى شيء آخر تغيَّر حكمه تبعًا لذلك؛ فالنجاسة مثلاً لا تبقى نجاسة إذا وقعت في ماء كثير ولم تغير لونه أو طعمه أو رائحته، والكحول إذا مزج بمواد التعقيم أو العطر أو الدواء أو المنظفات زال وصفه في الخمر؛ وذلك كالخمرة التي استحالت بنفسها وصارت خلًّا فإنها تكون طاهرة شرعًا حتى لو وجد الكيميائيون فيها شيئًا أو نسبة من الكحول، وذلك باتفاق العلماء.
8 - والشافعية يُعرِّفون النجاسة بأنها: [مُسْتَقْذَرٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلاةِ حَيْثُ لا مُرَخِّصَ] اهـ. "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (1/ 66).
الكحول ليس مستقذَرًا في نفسه، بل هو منظف طبعي يزيل ما لا يزيله الماء مع الصابون من الأقذار والنجاسات، وهو أيضًا داخل في بعض العطور والتركيبات الدوائية، فهي مادة مُعَدَّةٌ للتطهير والتطيب، ودعوى أن هذه العطور المستطابة في رائحتها من النجاسات هو أمر مخالف للحس والطبع، والعطر والطيب لا يُسمَّى خمرًا لا في اللغة ولا في العرف ولا في الاستعمال، والاستعمال الشاذ بتناوله وشربه لا يخرجه عن كونه عطرًا وطِيبًا.
يقول الإمام عز الدين بن عبد السلام الشافعي في كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام": [الأصل في الطهارات أن يتبع الأوصاف المستطابة، وفي النجاسة أن يتبع الأوصاف المستخبثة] اهـ.
ولذلك إذا صار العصير خمرًا تنجس للاستخباث الشرعي، وكذلك إذا صار خلًّا طهر للتطيب الشرعي والحسي، وكذلك ألبان الحيوان المأكول لَمَّا تبدَّلت أوصافها إلى الاستطابة طهرت، فكذا المخاط والبصاق والدمع والعرق واللعاب، وكذلك الحيوان المخلوق من النجاسات، وكذلك الثمار المسقية بالمياه النجسة طاهرة محللة لاستحالتها إلى صفات مستطابة، وكذلك بيض الحيوان المأكول والمسك والإنفحة.
اختلف العلماء في رماد النجاسات؛ فمن طهره استدل بتبديل أوصافه المستخبثة بالأوصاف المستطابة، وكما تطهر النجاسات باستحالة أوصافها فكذلك تطهر الأعيان التي أصابتها نجاسة بإزالة النجاسة، وإذا دُبِغ الجلد فلا بد من إزالة فضلاته وتغير صفاته، فمنهم من غلَّب عليه الإزالة، ومنهم من غلَّب عليه الاستحالة، ومنهم من قال: هو مركب منهما.
وقال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (1/ 188): [قاعدة تبين ما تقدم، وهي أن الله تعالى إنما حكم بالنجاسة في أجسام مخصوصة، بشرط أن تكون موصوفة بأعراض مخصوصة مستقذرة، وإلا فالأجسام كلها متماثلة، واختلافها إنما وقع بالأعراض، فإذا ذهبت تلك الأعراض ذهابًا كليًّا ارتفع الحكم بالنجاسة إجماعًا؛ كالدم يصير منيًّا ثم آدميًّا، وإن انتقلت تلك الأعراض إلى ما هو أشد استقذارًا منها ثبت الحكم فيها بطريق الأولى؛ كالدم يصير قيحًا، أو دم حيض، أو ميتة، وإن انتقلت إلى أعراض أخف منها في الاستقذار، فهل يقال: هذه الصورة قاصرة عن محل الإجماع في العلة، فيقصر عنها في الحكم، أو يلاحظ أصل العلة لا كمالها، فيسوى بمحل الإجماع؟ هذا موضع النظر بين العلماء في جملة هذه الفروع المتقدمة؛ ولذلك فرَّق علماؤنا رحمة الله عليهم بين استحالة الخمر إلى الخل، قضوا فيه بالطهارة، وبين استحالة العظام النجسة إلى الرماد لِمَا فيه من بقية الاستقذار وعدم الانتفاع، بخلاف الأول] اهـ.
القول بعدم نجاسة الكحول وبأنه ليس خمرًا هو ما أفتى به العلامة الشيخ بخيت المطيعي في "مجلة الإرشاد" في العدد الأول من السنة الأولى في شهر شعبان سنة 1351هـ، وهو ما عليه دار الإفتاء المصرية؛ حيث صدرت بذلك فتواها في عهد الشيخ محمد خاطر في 27 من ذي القعدة سنة 1391هـ الموافق 13 يناير سنة 1972م. وقد انتصر لذلك الشيخ محمد رشيد رضا في "تفسير المنار"، وهو قول جماعة من العلماء المعاصرين وبعض الهيئات العلمية المعتمدة؛ كما في مجموعة الفتاوى الشرعية الصادرة عن قطاع الإفتاء بوزارة الأوقاف الكويتية.
على ذلك: فالكحول ليس خمرًا، لا عند الشافعية ولا عند غيرهم، ويجوز استخدامه في مواد التعقيم والطيب والعطور والمنظفات والأدوية من غير حرج في ذلك شرعًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.