مفهوم الأسرة

  • دار الإفتاء المصرية
  • تاريخ النشر: 18 مايو 2022

تُمثِّل الأسرةُ نواة المجتمع الإنساني الأصليَّة التي تضمن استمرارَه في الوجود، من وقت أن ظهرت في شكلها الأوَّل بين أبينا آدم وأمِّنا حواء عليهما السلام؛ كما في قوله تعالى لهما على سبيل الامتنان: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ [البقرة: 35].

ثم توالت العلاقات الزوجيَّة بعد ذلك وبَقي النَّوع الإنساني في كافَّةِ المجتمعاتِ على هذا النحو؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

وكلمة "أسرة" مأخوذة من "الأسر" بمعنى الشِّدَّة والقوَّة؛ لأنَّ الرجل يتقوَّى بأهلِ بيتِه وأقارِبه ويشدُّ بعضهم بعضًا باعتبار أنَّ كلَّ فردٍ منهم يمثِّل الدِّرع الحصينة للآخر، وقد عبَّر عنها الفقهاء قديمًا بألفاظ عدة؛ منها: الأهل، والآل، والعيال.

وتتجلَّى من خلال هذه المعاني حقيقةُ الأسرة الثَّابتة عبر التَّاريخ وهي ارتباط رجلٍ بامرأةٍ بعقدٍ على وجهٍ شرعيٍّ، ومن ثَمَّ فكل ارتباطٍ يحصل على غير هذا الوجه فلا يُعتدُّ به شرعًا، فضلًا عن أنه لا يترتب عليه تكوينُ أسرةٍ تكون نواة صالحة لمجتمعٍ يريد البقاء والبناء على الوجه الصحيح، فبعضها كاقتران الرجل بالرجل أو المرأة بالمرأة لا يُتصور في ذلك تناسل أصلًا، بل هو نوع من الشذوذ عن الفطرة الإنسانية يغلب النظر فيه إلى الفرد وإشباع رغباته، وليس النظر إلى المجموع ومصالحه العامة الكبرى.

وهذه ميزة يتميز بها الإنسان عن أغلب أنواع الحيوان؛ حيث اختصه الله تعالى بأن جعل له قرينًا له من نوعه، ورتَّب نظام حياته بإحكامٍ مبرمٍ لا يقع فيه إهمالٌ من زوج لزوجه كما تُهمِل ذكورُ الحيوانات إناثَها وتنصرف أيضًا إناثُها عن ذكورها، وجعل وجود النَّسلِ مقارنًا للعلاقة والأنس بين الزوجين، بل ألهم سبحانه الإنسانَ ضرورة أن يكونَ نسله صحيح الصلة بأصوله على وجهٍ معروفٍ مشاع، ومحفوظًا بسلسلة نسبه نتيجة انضباط الحلقة الأولى منها، ومن ثَمَّ كان الزواج آيةً من آياته سبحانه؛ قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].

وترجع أهميَّة وجودِ الأُسرِ في المجتمع الإنساني إلى كونها الحواضن الاجتماعية التي يحقق فيها الإنسان غرائزه الطبيعية؛ كالبقاء، وأيضًا دوافعه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ كحبِّ الحياة والتَّمتُّع بما فيها من الطَّيبات والأمور المحبَّبة إلى النفوس؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ [النحل: 72].

إنَّ الأسرة سياجٌ محكمٌ بضوابط وآثار تُرتِّب حقوقًا وواجبات على الزوجين على سبيل التَّقابُل تجاه بعضهما أو تجاه أبنائهم، ورغم استقرار هذه السِّمات ورسوخ تلك المفاهيم المتعلِّقة بالأسرة عبر تاريخ البشرية ومجتمعاتها المتعاقبة إلا أنَّه يثار حولها لغطٌ شديدٌ بين الحِينِ والآخَرِ؛ وذلك من أجل تمريرِ مفاهيم وأوضاع أسرية غير مقبولةٍ عقلًا، فضلًا عن أن تكون مرضيَّةً شرعًا.

وقد نتج عن هذه المحاولات الدَّائبة عدَّة تحدِّيَات على ساحةِ الأُسرَةِ المعاصرة، حتى أصبح الزَّوجانِ يمارسانِ وظائف ومهام حياتِهما الأسريَّة في ظلِّ تحوُّلاتٍ كبرى عالميًّا ومحليًّا، وظروف صعبة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، مما يُشكِّل تحدِّيًا كبيرًا ومباشرًا لكيانِ المجتمع الإنساني وهُويَّتِه.

وانطلاقًا من الواجب الشَّرعي والوَطَنِي، ومشاركةً في الوقوفِ بإيجابيَّةٍ في وجه هذه التَّحديات التي تواجِهُ الأُسرة رأينا أن نُسهم في معالجة بعض الموضوعات ذات الخطورَةِ على حياةِ الأُسرَةِ، والتي سنتعرَّضُ لها في هذه السِّلْسِلة من المقالات؛ وذلك ببيان وظائف الأسرة، والطريقة المثلى لبناء الأسرة، وحرمة البيوت وحماية الأسرار، وغيرة الأزواج، والشقاق بين الزوجين، ومشكلات الأسرة في علاقتها بالأقارب، وظواهر التَّفَكُّكِ الأُسَري، والأسرة البديلة، وأطفال الشوارع، وغيرها من القضايا التي تكتنف هذا الملف المهم.

*****

 

مقالات ذات صلة