من مقومات الحياة الأسرية السعيدة تفاهم الزوجين واتفاقهما المشترك حول كافة المعاملات، وبخاصة المعاملات المالية؛ فتكون مبنيةً على أسس واضحة وصحيحة بما يضمن استمرار الحب والتراضي والمودة بين جناحي الأسرة.
والمتأمل في طبيعة المعاملات المالية بين الزوجين وعلاقاتها يجد أنها تكون على ثلاث صور؛ فالأولى: هي التي تنتج عن عقد الزواج كالمهر، وتجهيز مسكن الزوجية، والإنفاق.
والثانية: تتمثل في آثار حدوث أقرب الأجلين: فُرَق الزواج أو وفاة أحد الزوجين.
والثالثة: تتضمن المعاملات المالية التي تكون بين عامة الناس من أزواج وغيرهم كالبيع والشراء والهبة والهدية.
وتتحدد الآثار المالية لعقد الزواج في الصورة الأولى تبعًا للتراضي بين الزوجين واتفاق أوليائهما ومراعاة لحالة الزوج المالية يسرًا أو عسرًا وبحسب ما تقرره الأعرافُ والعادات؛ امتثالًا لقوله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق: 7].
أما بالنسبة للصورة الثانية فقد قرر الشرعُ الشريف حقًّا ماليًّا واجبًا على الزوج تُجاه الزوجة في حال إذا ما حدث طلاقٌ بينهما من نفقة العدة ونفقة الحضانة إن كانت حاضنةً، وكذلك نفقة المتعة في بعض أحوال الطلاق، وفي حالة وفاة أحدهما يأخذ الآخر نصيبَه من التركة بحسب ما قرره الشرع.
كما أطلق الشرعُ الشريف في الصورة الثالثة حريةَ كلِّ طرف منهما في التصرُّف في ماله وفي جميع تعاملاته؛ سواءٌ كان بين الزوجين أو معَ الغير؛ فعن الحسن البصري -مرسلًا- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» "سنن الدارقطني"، وفيه تأكيدٌ على الذمة المالية المستقلة سواء للزوج أو للزوجة، ولا يخفى ما في ذلك من مظاهر تكريم الإسلام للمرأة، والتأكيد على احتفاظها بشخصيتها وأهليتها المستقلة حتى بعد الزواج.
ورغم هذا الوضوح لسائر المعاملات المالية التي تتم في إطار الحياة الزوجية بمختلف الصور، إلا أن هناك عدة مشكلات متعلقة بهذا الشأن تمثل تحدِّيًا خطيرًا لهذه الحياة؛ منها: عدم وقوف الزوجة على إجمالي دخل الزوج وذمته المالية، وكذا الأمر بالنسبة للزوج سواء كان بمطالبته الزوجة بالإنفاق على الأسرة أو بسؤالها عن إجمالي دخلها ومعرفة ذمتها المالية أيضًا.
وهي شؤون أرشد الشرع الشريف في شأنها كُلًّا من الزوجين إلى أنه لا تأثير لعقد الزواج بنفسه على ذمتَي الزوجَين المالية بالاندماج الكُلِّيِّ أو الجُزئِيِّ، وأن الإنسان له حريةُ التصرف في أمواله ما دام كاملَ الأهلية، وله الحرية كذلك في إظهار أو إخفاء دخله وماله لكونه بالدرجة الأولى هو المسؤول عن ماله هذا من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟ إلا إذا قصَّر الزوج في النفقة الواجبة عليه، فتأخذ الزوجة من ماله لنفسها ولأولادها حتى حد الكفاية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان رضي الله عنهما كما ورد في "الصحيحين": «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».
لكن ينبغي التنبيهُ على أن الأمور الزوجية لا تؤخذ بطريقةٍ حادة يبحث فيها كلٌّ من الزوجين عن حقوقه وواجباته، من غير مراعاة لمقاصد الحياة الزوجية ومقتضياتها التي تستوجب بناءَ هذه العلاقة ذات الميثاق الغليظ وفق موجبات المودة والرحمة وتبادل الثقة ومراعاة مشاعر كلٍّ من الطرفين للآخر أكثر من بنائها على طلب الحقوق؛ ولذا فقد اهتم الشرع الشريف في مثل هذه الجوانب بِحثِّ الزوجين على تكامل الأدوار، وإحسان العِشرة والتحقق بالشفافية والمصارحة، حتى إنها تصل من باب الأخلاق العالية والراقية إلى أن يصارح كل منهما صاحبَه بما يجيش في صدره، وبما يُسعده ويقلقه، بل وبكل ما تحت يده ، مما يدخُل في ذِمَّتِه المالية من راتبٍ وغيره، ويفعل كلٌّ منهما ذلك لأنه يتعامل مع الطرف الآخر كأنه هو، ففي البوح بما يخصُّ المشاعر دليلٌ أوليٌّ على البوح بما يخص الجنيه والدراهم، والشرع الشريف بأحكامه ومقاصده لا يأبى ذلك التعامل الراقي، الذي فيه توطيدٌ للعلاقة الزوجية واستقرارٌ للأسرة؛ من حيث الثقةُ والوضوحُ والتكاملُ ومراعاةُ المشاعر.
****
27 سبتمبر 2019م.